السؤال هو التالي: لماذا استبسلت الأذرع الإعلامية العربية في تدمير كل محاولات التغيير للخروج من دائرة الاستبداد رغم تضحيات الشعوب؟ ولماذا خانت رسالة الإعلام المقدّسة واصطفت إلى جانب قوى الموت الجاثمة على صدر الأمة؟
باستثناءات قليلة نادرة لم يكن ما يسمى إعلاما أو صحافة عربية سوى امتدادا للسلطة القمعية الحاكمة فهو في النهاية جزء أساسي منها هذا إذا لم يكن أخطر مكوناتها وقلبها النابض. ليست قوّة النظام الرسمي القابض على أنفاس الشعوب في قوته المسلحة وفيالقه الحاملة للسلاح وجيوشه المجيشة فهذه أداوت التدخل النهائي عندما تجتاح أمواج الجماهير الساحات والميادين وحين يرَصُّ المعتقلون في زنازين التعذيب والموت.
قد لا نبالغ في الوصف قولا بأن منصات الإعلام العربي الرسمية والخاصة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي قد أبلت البلاء الكبير في تأخير سقوط الدكتاتوريات وتحصينها من المحاسبة. بل إنها أبدت قدرة فائقة على تزييف وعي الملايين وإقناعهم بأنّ الرضى بالقمع هو أفضل الحلول وأن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الفردية والجماعية كماليات لا قيمة لها ولن تغير من حياة الفرد شيئا. لقد بلغت الأذرع الإعلامية العربية من السطوة والبأس أنها دفعت بالملايين من المسلمين إلى الاعتقاد الراسخ في أنّ دينهم وعقيدتهم مصدر الإرهاب والقتل والموت في حين أنهم أول ضحاياه.
لن يكون القطع مع الاستبداد ممكنا دون التخلص من وعيه وثقافته وهو الوعي الذي تنهض على ترسيخه منابر الدولة الإعلامية وأذرعها الرمزية بل إن مدخل تصفية سلطة القمع لن يكون ممكنا إلا عبر تحرير الإعلام من نفسه ومن زبانيته.
لقد صار الفرد العربي المسلم يعتقد جازما أنّ أخاه سببُ البلاء وأنّ الطغيان قدرُ الأمة وأن لا حل إلا بطاعة الحاكم وجنوده وزبانيته. لكن المفجع في هذه القناعات أنها تجمع المعطى ونقيضه فيتعايشان ويخلقان حالة من الانفصام الحاد في الشخصية: فمن جهة أولى يسبح الوعي الجمعي المُحرَّك إعلاميا في محيطات من الشعارات الداعية إلى التغيير والثورة والنهضة وتحرير فلسطين ومحاربة الفساد والقضاء على أعداء الوطن بقيادة الزعيم الملهم والقائد الخالد. لكنه من جهة ثانية يدرك جيدا أن الدولة فاسدة وأنّ أجهزتها هي التي تقود الفساد الذي يعتقد أنها تحاربه كما أنه يدرك يقينا راسخا أن المنصات الإعلامية التي يتابعها إنما خلقت لتضليله وتكبيل وعيه.
مصر قلب التضليل الناعم
كان مدار الحديث والنقاش على جنبات الفضاء الافتراضي خلال الأسابيع الماضية زيارةَ قائد الانقلاب المصري عبد الفتاح السيسي الرسمية إلى قطر وهي الأولى منذ الانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية. حفلت المواقع والمنصات بتذكير أبواق الانقلاب بتصريحاتها السابقة وهجوماتها الكاسحة ضد النظام الحاكم في الدوحة وضد الشعب القطري بأكمله. فجأة انقلبت لغة الخطاب ومضامينه رأسا على عقب تناغما مع موقف قائد الانقلاب والمنظومة الحارسة له فتحولت الدوحة إلى بلد عربي شقيق وفاضت البرامج بالنفاق الفاضح وإعلان التوبة عن التصريحات القديمة.
صحيح أن هذه الأبواق الإعلامية ليست في النهاية إلا صدى كريها لما يطلبه الحاكم بأمره فهي السلطة الرابعة المكلفة بتدليس الوعي الجمعي وتضليل الجماعات والأفراد وصرفهم عن واقعهم الأليم وقضاياه الأساسية. لكنه لا يمكن بأي حال إلقاء اللوم على الإعلاميين والصحفيين فهذه معركتهم وهذه خياراتهم وسيفعلون دائما ما يطلبه النظام العسكري الحاكم كما هو الحال في مصر منذ انقلاب العسكر في 1952.
بعد انتهاء الموجة الأولى للثورات العربية ظهر جليا خطورة الدور الذي لعبه الإعلام في إحياء الاستبداد بعد أن عادت المنصات الإذاعية والتلفزية إلى نفس الوظيفة التي نهضت بها قبل الانفجار الكبير. هذا الانكشاف سيكون حاسما خلال الموجات الثورية القادمة التي لن تتأخر كثيرا بسبب تعفّن الأوضاع العربية وترهّل الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسط أزمات عالمية خانقة.
كان الفن والإعلام والثقافة والفكر بشكل عام وكل الفضاء الرمزي الذي تقوم عليه المجتمعات والأمم موجها في مصر نحن صياغة وعي جماعي وفردي منزوع القدرة على ردّ الفعل أو المواجهة. فحتى ثورة يناير 2011 لم تكن ثورة أصيلة بل كانت ثورة بالمحاكاة لما حدث في تونس قبلها بأشهر قليلة وهو سبب من أسباب نكوصها السريع.
لم يكن الإعلام المصري بما هو أقوى الأذرع الإعلامية العربية لينتقل من طور الهجوم إلى طور الكمون والتزلف لو لم تصدر الأوامر من الغرف الأمنية والاستخباراتية بتحويل البندقية من هذا الكتف إلى الكتف الآخر. فالإعلام المصري بشكل خاص يشكل الرافعة الأساسية للنظام الإقليمي بقدراته القوية التي راكمها منذ أكثر من قرن من الزمان. فالفكرة القومية التي اكتسحت بلاد العرب خلال منتصف القرن الماضي إنما انطلقت من هناك وتوفر لها الزخم الإعلامي القوي وسط غياب شبه كامل لكل أشكال المنافسة الحقيقية باستثناءات نادرة مثل تلك التي كانت في لبنان والتي ارتبطت أساسا بأجندات طائفية.
الانقلاب وتعرية المشهد
صحيح أن الانقلاب المصري في 2013 كان نقطة حاسمة في مسار الثورات فبعده انطلقت عملية الكرامة في ليبيا وبدأ التدخل الإيراني ثم الروسي في سوريا ونشطت قوى الانقلاب في تونس. لكن أهمّ ما حركه الفعل الانقلابي إنما كان الدور الخطير الذي نهضت به الآلة الإعلامية في منع نجاح الثورات والمسارات الانتقالية التي أعقبتها سواء في مصر أو في ليبيا أو في تونس.
لم تنتبه القوى الثورية أو تلك المحسوبة على الثورات إلى أن المنابر الإعلامية كانت المؤشر الوحيد على نجاح الثورات أو فشلها لأن بقاء جزء كبير من منابر الإعلام القديم ناشطة فاعلة كان كافيا للتنبه على حجم ما يتهدد المسارات من مخاطر. لم ينتبه كثيرون إلى أن أمّ المعارك كان يجب أن تخاض على الواجهة الإعلامية بتطهير القطاع الإعلامي ومحاسبة جميع من شارك في تزييف وعي الشعوب وفي تلميع صورة المستبدّ.
اليوم وبعد انتهاء الموجة الأولى للثورات العربية ظهر جليا خطورة الدور الذي لعبه الإعلام في إحياء الاستبداد بعد أن عادت المنصات الإذاعية والتلفزية إلى نفس الوظيفة التي نهضت بها قبل الانفجار الكبير. هذا الانكشاف سيكون حاسما خلال الموجات الثورية القادمة التي لن تتأخر كثيرا بسبب تعفّن الأوضاع العربية وترهّل الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسط أزمات عالمية خانقة. لن يكون القطع مع الاستبداد ممكنا دون التخلص من وعيه وثقافته وهو الوعي الذي تنهض على ترسيخه منابر الدولة الإعلامية وأذرعها الرمزية بل إن مدخل تصفية سلطة القمع لن يكون ممكنا إلا عبر تحرير الإعلام من نفسه ومن زبانيته.