السؤال هو التالي: كيف تحول الفكر القومي العربي رافع لواء الثورة والوحدة والممانعة إلى ألدّ أعداء الثورات وحامل لواء الاستبداد والفساد والتطبيع معا؟ ليس مدار الإجابة هنا بحثا أيديولوجيا ولا حزبيا للانتصار لهذا الطرف أو ذاك فقد كنا جميعا يوما ما تحت فتنة الخطاب القومي مصدّقين لما بين شعاراته من خطب رنانة ولاءات براقة تهدد الصهاينة برميهم في البحر. مدار البحث هنا فرز ضروري لفهم ما حدث وتبيّنِ كيف نجحت المخالب القومية في المشاركة الحاسمة للإطاحة بثورات الشعوب ومطلبها في التحرر من حكم العسكر وكيل الاحتلال في بلادنا.
سياق الثورات وانكشاف المشهد
ما كانت الإجابة عن هذا السؤال لتكون ممكنةً لولا فضلُ ثورات الربيع وما كشفته من بشاعات وجرائم وخيانات فكرية وإيديولوجية وعقائدية قبل أن تكون سياسية أو حزبية أو عسكرية. كان من العسير قبل الثورات العظيمة أن نكتشف حقيقة هذا الفكر وحقيقة حامليه والدور الإقليمي الذين كانوا مكلفين به منذ انقلاب عصابة العسكر في مصر على الملكية سنة 1952 وما عرفته الأمة بعدها من هزائم وجرائم وانقلابات ومذابح وصولا إلى مذبحة سوريا الكبرى في 2015 يوم استعان ابن كبير الممانعين القوميين بالجيش الروسي وفيالق الموت الإيرانية لذبح شعب سوريا.
حكمت الأنظمة القومية نصف البلاد العربية من بغداد إلى ليبيا مرورا بمصر وسوريا وصولا إلى الجزائر فتلوّنت بكل ألوان الطيف وتذرعت بكل الذرائع فما خلّفت وراءها في البلدان التي حكمتها غير الخراب والدمار والمجازر والحروب الأهلية. لكنّ أبشع هذه الجرائم دون منازع هو ما أنجزته الأحزاب والفصائل والكيانات والأذرع القومية خلال ثورات الشعوب الأخيرة بعد أن تحالفت مع أعدائها في الداخل والخارج وحولت ربيع الأمة إلى خراب وأطلال وجثث متفحمة في شوارع حلب وميدان رابعة وأحياء بنغازي.
آخر الخيانات والجرائم ما ارتكبته الأذرع القومية المتلحفة بالعروبة والناصرية ومحاربة الرجعية في تونس حين شجعت الرئيس على الانقلاب على الثورة وعلى دستورها وبرلمانها وعلى المسار الانتقالي برمته. كان القوميون في تونس عسس الطاغية "بن علي" في الجامعة والإدارة ومركز القمع والتعذيب وكانوا عصاه الضاربة ضد خصومه من الإسلاميين فكانوا أشدّ عليهم من بوليس بن علي نفسه.
أما اليوم فقد نجح حزب "حركة الشعب" في التمكين للمشروع الإيراني الفارسي الروسي عبر فرع "الحشد الشعبي" وبقية الأذرع المحلية المؤسسة حديثا والتي لا تزال في حالة كمون بعد إسقاط البرلمان المنتخب تنتظر الأوامر والتعليمات.
لن يكون مستقبل التحركات والاحتجاجات والثورات العربية كسابقه بعد أن راكمت الشعوب من الوعي بجرائم القوميين وتجار فلسطين والمقاومة والممانعة قدرا كافيا يمنع تجدد جرائمهم. في تونس كما في مصر وليبيا والعراق وسوريا.. سيكون البناء ممكنا بعد القضاء الأورام الخبيثة التي أنهكت جسد الأمة ودمرت خلاياه الحية ومنعت عنه كل فرص النهضة والتحرر.
باغتتهم الثورات في تونس وليبيا ومصر وسوريا ولبنان فركبوا موجتها وكان دورهم الأساسي اختراق البناء الجديد وتدمير المسار الانتقالي عبر اللعب على فزاعة الإخوان. صحيح أنّ قوس الموجة الثورية الأولى قد أغلق وصائب كذلك الإقرار بالعودة المظفرة لحكم الفرد المستبد الطاغية في تونس وسوريا ومصر لكن المعركة لاتزال في بدايتها.
من كان يصدّق ولو في أبشع كوابيسه أنّ "القوميين العرب" سيتحوّلون إلى أصلب أحزمة الاستبداد؟ من كان يتصوّر أنّ القومية العربية ستصبح رديفا للطغيان والانقلابات والمجازر والقتل على الهوية؟ من كان يعتقد أنّ الفكرة القومية والوحدة والعروبة والناصرية والبعثية وكل الشعارات القومية ستغدو مصاقل تذبح عليها أحلام الأمة في التحرر والنهوض؟
في الحقيقة لا تملك هذه الأسئلة أرضية موضوعية للطرح خاصة إذا عدنا إلى تاريخ نشأة الفكرة القومية نفسها وارتباطاتها التاريخية بالمشروع الصهيوني من جهة وبتصفية الأنظمة الملكية العربية من جهة ثانية وإقامة الجمهوريات العسكرية من جهة ثالثة. أما المشروعية الآنية لهذه الأسئلة فتتأسس على السياق الحضاري الجديد الذي خلقته ثورات الربيع وما أبلته القوى والأحزاب القومية من بلاء شديد في الإطاحة بالمنجز الثوري وتدمير المسارات الانتقالية ونسف التجارب الديمقراطية الوليدة والتمكين للانقلابات.
الفكرة القومية والنهاية العسكرية
كانت الحركة القومية في بدايتها مشروعا يبحث صانعوه وخاصة البريطانيون عن تصفية إرث الإمبراطورية العثمانية وتركة الرجل المريض بعد نهاية مشروع الخلافة. وكانت الموجة الصاعدة تستثمر شعورا جامحا بالتخلص من الاستعمار الأوروبي العسكري وبناء أمة مستقلة قادرة على توحيد أشلائها الممزقة. لكن سرعان ما تحوّل المشروع إلى صراع للزعامات وصارت الفكرة رافعة لتصعيد طاغية جديد أشد شراسة من المحتل نفسه خاصة في مصر وسوريا وليبيا والعراق بعد أن تحوّلت هذه الحواضر إلى مجال تنشط فيه أبشع أنظمة القمع المعاصرة.
نعلم اليوم إلى أين انتهى العراق وما حلّ بمصر وسوريا وليبيا من خراب ودمار. لقد ألحقت الناصرية بالأمة وبمصر هزائم لا تحصى وصارت القاهرة حارسا وفيا للمشروع الصهيوني تحاصر الفلسطينيين في غزة وتقطع عنهم الغذاء والدواء. انتهت مصر الناصرية إلى حضن كامب ديفيد بعد أن حولها العسكر إلى مزرعة عائلية ومجال للإثراء ومراكمة الثروات من قوت المصريين وعرقهم ثم خرجت من معادلة الصراع العربي بعد وصول مبارك إلى السلطة ومشاركته في غزو العراق. اليوم نجح العسكر وريث الفكرة القومية مرّة أخرى في الانقلاب على السلطة المدنية المنتخبة وعلى ثورة يناير وألغى كامل المسار الانتقالي وانكشف ما تحت الجبة القومية من جرائم لا حدّ لها.
لو كان للثورات فضل وحيد فهو ما كشفته من خيانات النخب ومن جرائم الأحزاب فإذا العروبة لعنة وإذا الثوار سماسرة وتجار مضاربون. لم يهرع القوميون لنجدة شعب سوريا من قبضة الطائفة والمليشيات الإرهابية الإيرانية والروسية لكنهم جندوا جنودهم في فيالق "الحرس القومي العربي" من تونس وليبيا ومصر والجزائر والعراق ولبنان ليشاركوا إلى جانب الروس والفرس والأفغان واللبنانيين في ذبح ثورة شعب قال لا للطاغية الذي يحكمه.
في سوريا كانت النهايات أكثر كارثية بأن أحكمت عائلة الأسد والطائفة المرتبطة بها قبضتها على سوريا منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاق النضال وشركاء البعث والفكرة القومية ثم مرّر مشروع التوريث وصارت جملوكية بعثية طائفية. توّج الأسد الابن مسار والده ومذابحه منذ مجزرة حماه وحتى قبلها ليحوّل شعب سوريا إلى طريد أو شهيد أو سجين وكان الشعار "الأسد أو نحرق البلد" وكان أن أحرقوا البلد.
أغرب ما في نهايات المشروع القومي العربي حقائق لا تصدّق: كيف يكون المشروع قوميا عربيا وهو يشتغل بالوكالة عند المشروع الصفوي الفارسي؟ كيف يكون مشروع الخميني القائم على سبّ صحابة رسول الله وأمهات المؤمنين متقاطعا مع المشروع القومي العربي ومحور المقاومة والممانعة؟ كيف يكون الاستنجاد بالعدو الروسي لقتل شعب سوريا قرارا عروبيا بامتياز؟ كيف تتحوّل اسرائيل إلى حامي حمى القومية فيستصرخها العقيد في ليبيا ويسبح بحمدها الفريق السيسي في مصر ويطلب عفوها بشار في سوريا؟ كيف يكون القومي العربي مَدْخليّا حين لا يؤمن بغير الطاعة للمستبدّ أو الحاكم المتغلّب وإن كان صهيونيا أو روسيا؟
لو كان للثورات فضل وحيد فهو ما كشفته من خيانات النخب ومن جرائم الأحزاب فإذا العروبة لعنة وإذا الثوار سماسرة وتجار مضاربون. لم يهرع القوميون لنجدة شعب سوريا من قبضة الطائفة والمليشيات الإرهابية الإيرانية والروسية لكنهم جندوا جنودهم في فيالق "الحرس القومي العربي" من تونس وليبيا ومصر والجزائر والعراق ولبنان ليشاركوا إلى جانب الروس والفرس والأفغان واللبنانيين في ذبح ثورة شعب قال لا للطاغية الذي يحكمه.
لن يكون مستقبل التحركات والاحتجاجات والثورات العربية كسابقه بعد أن راكمت الشعوب من الوعي بجرائم القوميين وتجار فلسطين والمقاومة والممانعة قدرا كافيا يمنع تجدد جرائمهم. في تونس كما في مصر وليبيا والعراق وسوريا.. سيكون البناء ممكنا بعد القضاء على الأورام الخبيثة التي أنهكت جسد الأمة ودمرت خلاياه الحية ومنعت عنه كل فرص النهضة والتحرر.
عن الحوار الجنوبي وغيرة رجال صالح على الدولة اليمنية
قراءة في خرائط النفوذ والتحالفات في المنطقة العربية (1)
ليبيا.. حول إعادة تفعيل الدائرة الدستورية