توقع محللون كثر في اليمن وخارجها، ألا يستمر الرئيس علي عبد الله صالح في الحكم أكثر من ستة أشهر، وعبر كثيرون عن خشيتهم من أن تبادر الحكومة الاشتراكية في عدن إلى تصعيد التوتر في المناطق الوسطى، وأن تستدرج صالح إلى حرب ليس مستعدا لها، ومن ثم يمكن أن تودي به. اشتعلت الحرب بين الطرفين (1979 شباط/فبراير) وكانت قصيرة الأمد، حقق فيها الجنوبيون تقدما كبيرا في أراضي الشمال، الأمر الذي استدعى أن يقاتل صالح بنفسه في أحد المحاور المهددة بالسقوط، وأن يقاتل إلى جانبه حشد من الإخوان المسلمين والقبائل، وأن تتدخل الجامعة العربية لفرض وقف لإطلاق النار.
يذكر الشيخ عبد الله الأحمر أسماء المشاركين الذين كانوا معه في تلك الحرب، ومن بينهم "مجاهد أبو شوارب وحمود عاطف وعلي شويط وعلي حميد جليدان والولد صادق الأحمر. وقد أبلوا بلاء حسنا في قعطبة ودمت والبيضاء. وشارك أيضا شباب الحركة الإسلامية في هذه الحرب، ومن بينهم الشيخ علي المقبلي والأستاذ عبد الرحمن العماد والشيخ محمد عائض الحميري وعبده علي شعلان والأستاذ محمد قحطان والشيخ عبد الولي الشميري، وقاتل هؤلاء في المناطق الوسطى، ولولا هذه المشاركة لما تمكّن النظام من الصمود" (مذكرات الشيخ الأحمر ص238).
ويضيف الشيخ عبد الله: "بعد هذه الحرب، صرنا شركاء مع علي عبد الله صالح، رغم أننا لم نوافق على التنازلات التي قدمها لعبد الفتاح إسماعيل في قمة الكويت التي تلت الحرب، خصوصا أننا لا نريد وحدة مع الماركسيين في حينه. لكن تبين لنا من بعد، أن صالح قدم تلك التنازلات لأسباب تكتيكية، تتيح له التقاط الأنفاس".
الشيخ الأحمر يصلي مع ضيوفه في مقيله اليومي
صمد حكم الرئيس علي عبد الله صالح أمام اختبارين كبيرين؛ الأول تمثل بانقلاب الناصريين (15 تشرين الأول/أكتوبر 1978)، الذي فشل لغياب عنصر المفاجأة بحسب اللواء حاتم أبو حاتم، الذي شارك في الانقلاب، لكنه تمكن من الفرار واللجوء إلى قبيلته في نهم. ويعتقد كثيرون أن صالح كان على علم مسبق بالمحاولة، الأمر الذي ساهم في فشلها. والاختبار الثاني يتمثل كما رأينا بخروجه سالما من حرب مع الجنوب، كان ينبغي أن تسقطه، ومن ثم صار الحديث عن الإطاحة به "خلال ستة أشهر" لا يتناسب مع الوقائع الجديدة على الأرض. وصار على مختلف مراكز القوى أن تعيد النظر بتقديرها للوافد الجديد إلى الرئاسة، الذي سيحكم شمال اليمن المُشَطَّر، ثم اليمن المُوحَّد لأكثر من ثلث قرن.
بين الرئيس والشيخ
لن يسير علي عبد الله صالح على خطى الرئيسين إبراهيم الحمدي وأحمد الغشمي تجاه المشايخ. لن يمنعهم من الدخول إلى صنعاء، لكنه لن يشركهم في الحكم. سيخصص لهم ميزانيات وسيمنحهم فرصا للانتفاع بمشاريع اقتصادية مقابل مساعدته في ضبط الأمن في مناطقهم، والامتناع عن "التقطع" أو التعرض للمشاريع التي ترعاها الدولة، المتعلقة بالبنية التحتية.
ويروي اللواء حاتم أبو حاتم أنه كان مكلفا بحماية "مشروع شق طريق إسفلتي بين فرضة نهم ـ الجوف"؛ لكسر عزلة المحافظة ودعم تواصلها مع العاصمة والدولة عموما، وأنه صادف صعوبات كبيرة ناجمة عن تقطع القبائل على تلك الطريق". واجهنا العديد من الصعوبات والعراقيل، حيث تعرض المشروع لبعض أعمال سرقة ونهب، وأيضا تلغيم الطريق، ( موقع خيوط 30 آب/ أغسطس 2022 ). وأتذكر أنه عندما بدأنا بعملية الزفلتة، تم تلغيم الفرادة".
ما كان بوسع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الشعور بالامتعاض؛ لأن صالح لم يفتح أمامه أبواب الدولة منذ الأيام الأولى لتوليه السلطة، فالشيخ ناضل بقوة حتى لا يتولى صالح الرئاسة، ومن ثم ما كان شريكا له في السلطة، لذا اقتصر دوره على عضوية مجلس الشورى في الفترة الواقعة بين 1978 و1990. ويقول الشيخ الأحمر عن تلك الفترة: "طلبت منه أن أترشح لرئاسة مجلس الشورى في انتخابات العام 1988 لكنه رفض. ومع ذلك لم يتغير موقفي من الرئيس ومن النظام الجمهوري الذي واظبت على الدفاع عنه" (مذكرات الشيخ عبد الله الأحمر ص243 ـ 244).
سيتغير موقف الرئيس صالح من الشيخ عبد الله الأحمر، ابتداء من العام 1990 في غرة الوحدة اليمنية التي استدعت اصطفافا جديدا للقوى؛ إذ كان الاشتراكيون يراهنون على نفوذهم في المناطق الوسطى في شمال اليمن، وعلى علاقاتهم الوثيقة مع الأحزاب اليسارية والقومية هناك، وذلك من أجل الحصول على موقع مرجح في الحكم، في حين كان الرئيس علي عبد الله صالح يريد موازنة الاشتراكي وحلفائه بتكتل جديد لا ينتمي إليه مباشرة، لكنه يستطيع الاعتماد عليه في تحجيم التوسع الاشتراكي واليساري في الشمال، فكان أن ارتضى الشيخ عبدالله الأحمر الدخول بقوة في المعادلة السياسية الجديدة، عبر تأسيس التجمع اليمني للإصلاح الذي كان يضم ثلاثة أقطاب مؤثرة للغاية في حينه: القطب الأول هو المشايخ الذين يلتفون حول الشيخ الأحمر، والقطب الثاني يتمثل بالإخوان المسلمين، والقطب الثالث يضم التجار ورجال الأعمال المقربين من التيار الإسلامي.
أجمعت هذه الأقطاب على أن يكون الشيخ عبد الله الأحمر زعيما للتجمع الذي سيحقق فوزا كبيرا في انتخابات العام 1993 النيابية، وسيؤدي هذا الفوز إلى توليه رئاسة المجلس النيابي، وسيحتفظ الشيخ بهذا المنصب حتى وفاته.
ستشهد العلاقة بين الرئيس والشيخ شهر عسل طويل الأمد، امتد إلى مطالع الألفية الثالثة.
وصف لي الصديق نصر طه مصطفى، وهو أحد قادة "التجمع" الشبان، تحالف "الإصلاح" مع الرئيس صالح في حينه بالقول: "في كل البلدان الديمقراطية، لكل رئيس حزب واحد إلا في اليمن. فالرئيس علي عبد الله صالح لديه حزبان: "حزب الإصلاح" للمهمات الصعبة والقتال دفاعا عن الدولة، وحزب "المؤتمر" للبروتوكول و"الزلط" (أي المال باليمنية الدارجة) والليالي الملاح".
سيقطع "التجمع اليمني للإصلاح" علاقته بالحكم وينتقل إلى المعارضة ابتداء من العام 2001، لكن ذلك لن يؤثر على علاقة الشيخ عبدالله الوثيقة بالرئيس صالح إلى ما قبل وفاته بقليل. كنت شاهدا على هذه العلاقة في مراحلها المختلفة عبر ترددي على الطرفين وأنجالهما أو عبر أصدقاء مشتركين، وذلك على الرغم من شبه القطيعة بين الشيخ حميد الأحمر والرئيس وأقاربه. وللقطيعة أسباب ونتائج تحتاج إلى بحث آخر، سآتي على ذكره (بحدود معرفتي) في نصوص تتعلق بحكم الرئيس علي عبد الله صالح، منذ بروزه في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي كقائد للواء تعز ومعسكر خالد بن الوليد، وحتى اغتياله في صنعاء في 4 كانون الأول/ ديسمبر عام 2017.
كان الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لا يحيد عن مبادئ أساسية في عمله السياسي، لكنه لم يكن متزمتا. لذا نراه متشددا إزاء الحزب الاشتراكي اليمني في مرحلة حكمه للجنوب وفي فترة الانفصال، ومرحبا بالتعاون معه حين اعتمد إصلاحات في عقيدته وسياساته بعد انهيار الحرب الباردة. وقد خاض معه تجربة ناجحة في المعارضة ضد حكم الرئيس علي عبد الله صالح، وأصيب بصدمة كبيرة عندما اغتيل جارالله عمر أحد مهندسي تحالف "اللقاء المشترك" في جلسة افتتاح مؤتمر مركزي "للتجمع اليمني للإصلاح"، وقد بادر إلى اعتقال المجرم واقتياده إلى منزله واستجوبه بالصوت والصورة، بحضور عدد من قادة أحزاب المعارضة؛ لكشف دوافع وأهداف القاتل والجهة التي تقف وراءه.
من جهة ثانية، سيراعي الشيخ عبد الله التقاليد والأصول الاجتماعية مع الأسرة الإمامية التي كانت تحكم اليمن.
واجب العزاء بالإمام البدر
على الرغم من دوره الكبير في قلب النظام الإمامي، لم يحمل الشيخ عبد الله الأحمر حقدا شخصيا على أسرة حميد الدين. أخبرني في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي أنه بادر إلى تقديم واجب العزاء بالإمام محمد البدر (آب/ أغسطس 1996)، وقد اتصل الشيخ هاتفيا بالأمير عبد الرحمن بن يحيى حميد الدين للتعزية بالبدر، وأرسل ابنه الشيخ حسين بن عبدالله (الراحل منذ أشهر قليلة) لتعزية الأمير عقيل بن محمد البدر بوفاة والده، وذلك في منزل العائلة في مقاطعة "كنت" البريطانية. وقد شاءت الأقدار أن تتزامن وفاة البدر مع زيارة الشيخ عبد الله لمدينة جدة، فذهب بنفسه إلى منزل علي بن إبراهيم حميد الدين. فوجئ أهل الدار بوصوله من دون إنذار سابق، فإذا به يطرق الباب ويقول لهم: "أنا الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، جئت لأعزيكم بوفاة الإمام البدر رحمة الله عليه. وكان لهذه الزيارة وقعها الطيب على أسرة الإمام".
اعتبر الشيخ عبد الله أن هذه المبادرة "واجب ديني وإنساني، ونحن في اليمن نحرص على تأدية هذا الواجب رغم الخلافات والخصومات. لا بد أن نعزي بعضنا بعضا في الأتراح، ونهنئ بعضنا بعضا بالأفراح. والتعازي كما التهاني لا علاقة لها بالأمور السياسية".
وعما إذا كان يقبل بعودة آل حميد الدين إلى اليمن، قال لي الشيخ عبد الله: "قلت مرارا؛ إنه لا يجوز أن تبقى عائلة حميد الدين خارج الوطن، خصوصا الشبان الذين لم يحاربوا الجمهورية". وعما إذا كان السماح يشمل أيضا أسر السلاطين في الجنوب، قال: "سلاطين الجنوب هم مشايخ قبائل وليسوا ملوكا أو أئمة، وقد شردهم الحزب الاشتراكي، ومن الطبيعي أن يعودوا إلى بلدهم. لا يحكمون ولا يتسلطون، ويستفيدون من الديمقراطية التي لا تستثني أحدا، لا فقيرا ولا ثريا ولا أميرا، ما دام الجميع يلتزم بالدستور والقانون".
أصيب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بالسرطان الذي اكتشف في فترة متأخرة، وتوفي في مستشفى الملك فيصل التخصصي في المملكة العربية السعودية في 29 كانون الأول/ديسمبر عام 2007، ودفن في مقبرة النهدين المخصصة لأسرته والقريبة من القصر الجمهوري اليمني. معلوم أن مئات آلاف اليمنيين شاركوا بتشييعه، يتقدمهم الرئيس علي عبد الله صالح الذي شوهد وهو يذرف دموعا غزيرة خلال مسيرة التشييع.
علي عبد الله صالح يبكي الشيخ عبد الله الأحمر