وحده الفنّان يمتلك أساليب التعبير التي يعجز عنها الإنسان العادي وهو ما يميزه. ووحده يحيا بالأسلوب الذي يبدع به. ولا يمارس الفن فوق خشبة المسارح فقط، وإنّما يظهر رقيّ الفنان الحقيقي في ممارسة الفنّ في تفاصيل حياته اليوميّة، وفي تمثّلاته للأمور وفي ردود فعله.
والفنان لا يحتاج الكلام للتعبير ولا ينقل الواقع كما هو، وانّما يقدّم مقترحا رمزيا.
كبرنا على هذه الأفكار المعيارية عن دور الفن والفنان على أنّ البعض لا يعجبه المعياريّ في الفن، ولكن أعتقد أنّنا نتفق على الأقل حول هذا التصوّر: إنّ الفن هو قدرة على التعبير بأسلوب لا يمكن أن يكون متاحا في رقيّه للإنسان العاديّ. فهل ما قدّم على خشبة مهرجان قرطاج الدّولي في دورته الـ 56: فنّا أم نشازا؟
"جرس الحب" يدق جرس الخطر!
كان مدير الدورة السادسة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي كمال الفرجاني قد برّر اختياره لشيرين عبد الوهاب لسهرة الاختتام، كالتّالي: "أنا اخترت شيرين لأنّها صاحبة الصوت الذي يشبه جرس الحب". وواضح وجلي من خلال هذا التّصريح أن للمدير صلاحيّة فرض ذوقه الشخصي على برمجة المهرجان. وواضح أنه لم يكن يتوقع أنّ مفضّلته ستخذله.
أثار خيار المدير استياء النقاد وشق كبير من الجمهور، على أنّ الشقّ الآخر كان مستمتعا فقط بحالة الانفلات الشعوري التي كانت عليها النجمة، بإقحام حياتها الخاصة في سهرة فنية أمام الآلاف من الجماهير.
اقرأ أيضا: مهرجان قرطاج الدولي يعود بـ33 عرضا فنيا بعد انقطاع لعامين
أطلّت شيرين عبد الوهاب العشرين من شهر آب/ أغسطس على خشبة مسرح قرطاج بفستان يحمل سواد وظلاميّة الحالة النفسية التي يبدو أنّها لم تتجاوزها بعد، على خلفيّة أزمتها مع طليقها حسام حبيب.
وراحت تسترسل في الحديث عن معاناتها سواء من خلال أسلوب أدائها للأغاني أو من خلال الكلمة التي ألقتها، والتي قالت من خلالها إن الجمهور أحياها وقرطاج أحياها، وأنّها كانت ميتة.
وشكرت سفير مصر في تونس، وقبلت يد طبيبها المختص في علاج السموم والإدمان الذي عالجها من الإدمان. وانتقدها البعض على حالة العفويّة التي بدت عليها. ولكن هل هذه هي العفويّة؟
لا نعتقد أنّها عفويّة تلك التي عبرت بها النجمة العربيّة على المسرح، وليست أيضا كذبا، وإنما حالتها أقرب في تمظهراتها إلى أزمات نفسيّة ومن مؤشّراته عدم القدرة على السيطرة على انفعالاتها العاطفية، ما يجعلها مهتزة وتبوح بخوالجها دون أي قدرة على التحكم.
كيف علّق الإعلاميون التونسيون؟
دوّن الإعلامي سمير الوافي على صفحته الرسمية في "فيسبوك": "شيرين تستسهل قرطاج وتستهتر وتستخف بلقاء جمهورها فيه...وتحمل معها مشاكلها الخاصة ونفسيتها المتعبة إلى الركح...فيخذلها صوتها ويخونها حضورها...وتخيب أمل جمهور غفير، لكنه "غفور"...لأنه غفر لها هذا الاستهتار، وهو بصدد تحمل النشاز دون أن يغادر ويخرج كما فعل مع غيرها".
وأضاف: "شخصيا قاطعت حفلات شيرين المباشرة منذ زمن رغم حبي لصوتها.. لأنها أخفقت في كل حفلاتها السابقة في قرطاج وكررت اليوم الفشل والخذلان وخيبة الأمل ذاتها! لقد ضحكت على جمهورها رغم ندرة حفلاتها في تونس، واستسهلت لقاءه ولم تحترمه، ولاحظنا أنها تستجدي تعاطفه، كما تفعل منذ مدة ليتحمل نشازها.. فغنت بلا صوت ولا مزاج ولا روح.. وشاهدنا حُطام شيرين يحاول أن يتماسك ويصمد على الركح".
وتابع الوافي يقول: "كاشي (تسعيرة) 150 ألف دولار مقابل نشاز وخيبة أمل وصوت خارج الخدمة".
ودوّن الإعلامي برهان بسيس التالي: "ممكن اختلطت عليا الأصوات... لكن النشاز الذي أنا بصدد الاستماع إليه الآن على القناة الوطنية مباشرة من قرطاج يشبه تماما نفس النشاز الذي رمت به الرياح الآن إلى مسامعي آتيا من سطح أحد المنازل القريبة.. يبدو أنه هناك مشكل في الرياح".
وفي تدوينة أخرى له كتب بسيس: "ما أحلاها معادلة أعطتنا المشاعر وأعطيناها العملة الصعبة".
اقرأ أيضا: مسرحية "آخر مرة".. المسرح الفارغ ضج بالحياة
ودوّن الصحفي وليد أحمد الفرشيشي: "150 ألف دولار.. تدفع من جيب دافع الضرائب لكي تخفف الأعطاب النفسية.. شيرين فنانة رائعة، ما في ذلك من شك... لكن ما دفع إليها من أموالنا.... كان قادرا على وضع تونس على خارطة النشر العربي مثلا".
وتابعت الحفل وزيرة الثقافة حياة قطاطة التي بدت سعيدة جدا بهذه السهرة، أو بصوت جرس الحب كما وصفها مدير الدورة الحالية من مهرجان قرطاج.
مهرجان قرطاج: حين تعبث به خيارات شخصية!
حفل شيرين عبد الوهاب صورة مصغّرة أو زاوية نطل منها على دورة بأكملها تصيب جمهوره بالخذلان: أسماء مكررة، أسماء مازالت غير مستعدة لاعتلائه، وأسماء تعبث بتاريخ المهرجان، وأسماء أخرى معاقبة ومحرومة من البرمجة لسبب واحد يكمن في عدم اتفاق مع ميولات مدير الدورة.
ولن نكرّر الحديث عن الفنانة لطيفة التونسية أو كما يعرفها التونسيون بالعرفاوي، والتي هي مقصية من المهرجان لدورات متتالية.
وليست السهرة الوحيدة التي تمّ خلالها التطاول على تاريخية المهرجان وعراقته، وليست السهرة الوحيدة التي تشهد على عدم وجود مشروع ثقافي لإدارته ولوزارته. فلا يتعدى تصور فلسفة المهرجان عند إدارته عن مجرّد دعوة فنان معروف بإثارته واستغلال ذلك تجاريا وهذا بديهي لان فلسفة الوزارة بأكملها حاليا خارج توقيت الاعتراف بوجود مشروع ثقافي لا بد من الدفاع عنه والالتزام به وخلق أفكار جديدة.
ماذا لو كانت سهرة الختام وسهرة الافتتاح حفلا استثنائيا لمهرجان كان متوقفا لسنتين؟ ألم تكن كافية تلك الفترة الزمنية أي السنتين للخروج بأفكار طريفة وقبول مشاريع فنية ترتقي ليس فقط الى البعد الرمزي للمهرجان وإنما الى الفن.
جدير بالذكر أنه في هذه الظرفيّة ذاتها، تمّ إلغاء مهرجان أوسو السياحي والثقافي لعدم صرف منحته، وهو مهرجان لا يقل أهمية عن بقية المهرجانات الدولية خاصة في الترويج لتونس سياحيا، ويحمل مشروعا ثقافيا سياحيا تنمويّا.. وفي المقابل تمّ صرف العملة الصعبة لسهرات لا تحمل مشاريع فنية.
كيف نبني ثقة بين جمهور تونسي ومسرح يتكلم اللغات إلا العامية؟