الكتاب: انطباعات صحافي إيطالي بالمغرب سنة 1906
المؤلف: لويجي برزيني
ترجمة وتقديم: رضوان صالح ومصطفى نشاط
دار النشر: سليكي إخوان، طنجة- المغرب
الطبعة الأولى، 2022
عدد الصفحات: 282
مقدمة:
تشتد في الآونة الأخيرة حركة ترجمة الكتابات التي تسلط الضوء على جوانب مهمة من تاريخ المغرب، لاسيما في الفترة التي سبقت الحماية الفرنسية أو لحقتها، فقد نشرت العديد من الكتب التي كتبها أجانب زاروا المغرب في هذه الفترة، سواء من الفرنسيين (غابريل فير) أو الإيطاليين (إدموندو دي أميشس، دولامرتنيز) أو الإنجليز (والتر هاريس) أو حتى من الأمريكيين (فنسنت شيين في كتابه أمريكي بين الريفيين).
ومع أن هذه الكتابات نشرت منذ زمن طويل بلغتها الأجنبية الأصلية، إلا أن الحاجة إلى فهم هذه الفترة بكل ملابساتها، وتحليل طبيعة صراع القوى الاستعمارية على المغرب، والهوامش التي كان الحكم يتحرك ضمنها، والبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمغرب في هذه اللحظة، صار يلح على ضرورة تعديد المصادر وتنويعها، وعدم الاكتفاء فقط بالرواية الرسمية أو حتى بكتب التاريخ المركزية، بل أصبح ألأمر يتطلب استقصاء مجمل هذه الكتابات التي حاولت تغطية هذه الفترة، مع استحضار المحاذير التي يمكن أن يواجهها القارئ أو الباحث وهو يتعاطى مع كتابات الأجانب، سواء منهم الباحثين، أو الصحفيين أو الذين أوكلت لهم مهمة في المغرب، وكانوا في الجوهر يقدموا خدمات استخباراتية لدبوماسيات بلدهم.
قبل شهور عرضنا في "عربي21" لكتاب "في صحبة السلطان" لغابرييل فير، الذي استقدم للمغرب لتعليم فن الفوطوغرافيا للسلطان المولى عبد العزيز، فأتيحت له الفرصة لتجميع ملاحظاته من داخل القصر، وتقريب مواطني بلاده (أو بالأحرى ساسته) لما يجري من دسائس بين نخب الحكم في المغرب، وأيضا من الوضعية الاجتماعية والاقتصادية التي واجهها المغرب في تلك الفترة.
في هذه المراجعة، نقدم كتابا آخر على غرار السابق، كتبه هذه المرة صحفي إيطالي، انتدب لتغطية مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، فقام بزيارة للمغرب، وطاف أهم مناطقه، والتقى نخبه، بما في ذلك سلطان البلاد، وسجل روايته عن المغرب في هذه الفترة، أو بالأحرى، قدم من زاوية نظره الأسباب التي جعلت القوى الاستعمارية تتكالب على المغرب من أجل استعماره.
كتاب "تحت الخيمة انطباعات صحافي إيطالي بالمغرب سنة 1906"، الذي ترجمه كل من رضوان ناصح ومصطفى نشاط، وإن كان ينتمي إلى أدبيات الرحلة الأوربية إلى المغرب، إلا أنه في الجوهر، يعتبر من الكتابات التاريخية، التي تقدم رواية ما لتاريخ المغرب في فترة ما قبل الحماية، ليس بالضرورة هي الرواية التي تقدمها كتب تاريخ المغرب، ولا الرواية الكولونيالية المعيارية، ولكنها شيء من هذا وذاك، بحكم أنها محاولة فردية صحفية لإزالة المناطق الرمادية التي تحتف بحدث مؤتمر الجزيرة الخضراء والمخططات التي كانت توجه القوى الاستعمارية للسيطرة على المغرب.
من صحفي نكرة إلى صحفي يخطف الأضواء
تكشف مقدمة الكتاب معطيات مهمة عن مسيرة الصحفي الإيطالي لويجي برزيني، الرجل الذي أجبر مبكرا على الخروج للعمل من أجل إعالة أخوته الثلاثة القاصرين، إثر وفاة والديه، ليسافر إلى روما ويلتحق بجريدة كاريكاتيرية صغيرة هي "إل فانفولا" وذلك بمساعدة صديقه "إيطوري مروني"، فاستمر في هذه المهمة كصحفي نكرة، لم يكتب لنجمه السطوع إلا مع مقابلة أجراها مع مغنية الأوبرا السوبرانو "مرية باتي" التي كانت تقاطع المقابلات الصحفية، فأكسبته هذه المقابلة تألقا كبيرا في الساحة الإيطالية بسبب نجاحه في كسر المستحيل، فساعده ذلك على تلقي عرض مهم من ليغي ألبرتيني (1899) للعمل في صحيفة "كورييري ديلا سيري"، فتمكن من مهنة الصحافة ومن تعلم اللغة الانجليزية بعد إرساله إلى إنجلترا، فنضجت تجربته بعد إلمامه بتقنية الكتابة الصحفية الأنجلوساكسوينة، فسطع نجمه الصحفي بعد ذلك بعد إرساله إلى الصين لتغطية انتفاضة جميعة الملاكمين السرية ضد القوى الامبريالية الأوربية التي كانت بريطانيا على رأسها، بعد مشاركته مراسلا صحفيا في الحرب الروسية اليابانية التي دارت رحاها في منشوريا وامتدت لسنتين (1904 ـ 1905) فأصبح من أبرز الصحافيين في العالم، إذ أبان عن شجاعة نادرة في مواجهة المخاطر وتقريب القارئ الإيطالي والأوربي بشكل عام من الأحداث العالمية، وأصبحت الجريدة التي يشتغل فيها من كبريات الصحف العالمية والأوربية.
تشير مقدمة الكتاب إلى تصدع مصداقية برزيني بفعل حدثين اثنين، لما كان مراسلا في جبهة الحرب التي كانت بين القوات الإيطالية وقوات الإمبراطورية النمساوية المجرية، فانساق مع حسه الوطني ضد ما تفرضه القواعد المهنية للصحافة خاصة وأنه قام بطمس حقيقة رفض الجنود الإيطاليين للحرب والهزائم التي تبدوها فيها، ثم عند انتمائه للحزب الفاشي بقيادة موسوليني، فأصبح ممزقا بين واجب الانضباط للقواعد المهمين للصحافة وبين الانتماء الحزبي والوطني.
في خلفيات الكتاب
ينشر الصحفي الإيطالي في مطلع كتابه رسالة طويلة يوضح فيها سبب إصداره لهذا الكتاب، أو بالأحرى سبب قيامه بالرحلة إلى المغرب التي وثقها في هذا الكتاب. فقد كان في الأصل مجرد صحفي بعث لتغطية مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، والتي اجتمعت فيه القوى الاستعمارية لتقرر مصير المغرب، وتقتسم مناطقه وخيراته بينها، فكان السؤال الذي قاده للرحلة، هو معرفة السبب الذي جعل كل هذه القوى الاستعمارية تتداعى إلى هذا المؤتمر لاقتسام الكعكة، لاسيما وأنه لم يخرج بطائل من جلسات المؤتمر، ولا من لقاءات الوفود الدبلوماسية الذين كانوا يزيفون الحقائق ولا يقدمون أي شيء مهم، سوى ما تقتضيه المجاملة الدبلوماسية من كلام عام لا تفاصيل تحته، فدفعه يأسه من معرفة تفاصيل الحدث إلى طرح سؤال الجهة التي يمكن أن يستقصي منها حقيقة الموقف، فلم يجد بدا من الالتفات إلى الحدود الجنوبية لأوروبا، أي الدخول إلى المغرب، والقيام برحلة في شعابه ومختلف مناطقه، وملاقاة نخبه السياسية والاقتصادية، ومعرفة ثقافته، أو بالأحرى ثقافة وتقاليد قبائله المختلفة، وملاحظة طبيعة الصراعات التي تجري في الداخل، وبينة الحكم، وآليات تدبيره، وفهم مراكز قوى النخب القريبة والمؤثرة في الحكم، والدسائس التي تجري داخل مربع القرار لتقريب السلطان من هذه الجهة أو إبعاده عنها.
اقتنع الصحافي الإيطالي أن مؤتمر الجزيرة لن يقدم له شيئا سوى الثرثرات الفارغة أو تهييئ الرأي العام لما ينبغي أن يكون، وأن "الجواب موجود على الضفة الأخرى من المضيق" فالمغرب حسب الصحفي الإيطالي: "ربما يعد البلد الأكثر أهمية في العالم، وقد نهشته الفوضى وبددت قواه، فتحركت نوازع الشجع الاستعماري."
يقدم المؤلف صورة كاريكاتيرية للحقل السياسي المغربي في تلك الفترة، وهشاشة بنية الحكم بالمغرب، فـ "السلطان أنهكه الحكم، وانتهى به الأمر إلى ترك وزير الحرب يفعل ما يشاء، وهذا أصل المصائب المغربية الحالية،
الجواب الذي انتهى إليه الصحفي بعد رحلته الطويلة في المغرب، أو بعد فهمه للمعنى في الضفة الأخرى على حسب تعبيره، هو أ، تآكل المغرب من الداخل وتعفن الإمبراطورية منذ خمسمائة سنة وتبدد قواها، هو الذي دفه أوربا للتنبه إلى ما يعيشه هذا البلد بعد سماعها للصراخ الناتج عن النهب الذي تتعرض إليه البلاد من قواه ونخبه، فتيقظت القوى الاستعمارية لوجود صيد ثمين، فحاولت أن تتحرك بنظام دون أن يؤذي بعضها بعضا، وأنها بدل أن تقطع المغرب إربا إربا وتلتهمه، فضلت أن تمتصه بوضع نظام لهذه العملية (في مؤتمر الجزيرة الخضراء) المسماة "تنفيذ الإصلاحات".
حول الصحفي الإيطالي وجهته إلى المغرب ليفهم أسرار هذه العملية ودوافعها، وتوجه إلى المغاربة، لكي يحصل منهم على المعطيات لأنهم ـ في نظره ـ أقل خداعا ومواربة من الأوربيين المجتمعين في المؤتمر، ولهذا السبب أقدم على مغامرة (رحلة) تتجاوز عتبة المغرب (طنجة) وتدخل إلى أعماقه.
فائدة الرحلة وأهميتها التاريخية
يكفي في تأكيد أهمية الرحلة أن صاحبها قصد من ورائها البحث عن خلفيات ودواعي مؤتمر الجزيرة، والسبب الذي دفع القوى الاستعمارية أن تفكر في عملية منظمة لاقتسام المغرب دون حدوث نزاع بينها، وأنه بعد تعبه من التوصل إلى أي حقيقة في مؤتمر الجزيرة الذي جاء للقيام بتغطية إخبارية وتحليلية له، اتجه إلى البحث عن حقيقة ذلك في المغرب، من خلال الاتصال المباشر بالمغاربة، وبجميع النخب الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية.
الخبرة الصحفية التي راكمها الكاتب مكنته من جمع معطيات كثيرة تقدم له بعض الأجوبة عن مراده، لكنها في الواقع أعانته في تجميع ملاحظات مكثفة عن المغرب ومدنه وقراه وقبائله والعلاقات السائدة بينها، وطبيعة الحكم ومرتكزاته، والشرعية التي يستند إليها، وحالة المخزن، والوضع الاقتصادي والسياسي، وثقافة الحاكم (المولى عبد العزيز) ومزاجه واهتماماته من خلال لقاء مباشر معه.
اعتمد الكاتب على الحوار المباشر لتجميع معطياته وتكثيف ملاحظاته، فحاور وزير الخارجية المغربي عبد الكريم بن سليمان (وزير البحر) وحاور السلطان بنفسه، وحاور بعض نخب اليهود (بن شطون من يهود أصيلة) ومع النخب الأجنبية المقيمة بالمغرب (مثل كوانيينو الإيطالي المقيم بالعرائش)، ومع النخب المخزنية (القائد بوبكر الحباسي)، بل تحاور حتى مع قطاع الطرق، حتى يفهم عقلها وثقافتها ودورها في تهديد السلم والاستقرار الاجتماعي والسياسي (نموذج الحوار مع بوشعيب النصراوي أحد قطاع الطرق في منطقة بني مالك)، وجمع معطيات مهمة عن الأنشطة التجارية بمرسى العرائش من خلال زمامات لثلاثة أمناء بالمرسى. وانفتح على كتب التاريخ وعلى رحلات نظرائه السابقين من جنسيات مختلفة خاصة منهم الإيطاليين، بل وجمع معطيات تاريخية شفوية من خلال اللقاء مع الأعيان والشخصيات المعروفة باحتفاظها بذاكرة تاريخية في المنطقة التي يزورها.
يقدم المؤلف صورة كاريكاتيرية للحقل السياسي المغربي في تلك الفترة، وهشاشة بنية الحكم بالمغرب، فـ "السلطان أنهكه الحكم، وانتهى به الأمر إلى ترك وزير الحرب يفعل ما يشاء، وهذا أصل المصائب المغربية الحالية، وبفعل تخوف الوزراء من المسؤولية، فإنهم لا يبادرون إلى الأخذ بزمام الأمور، فالصدر الأعظم السي فضول غرنيط، وهو طاعن في السن، ميال إلى التفلسف وإلى تدخين التبغ، وكل ما يبتغيه أن يترك لسبيله، ووزير الخارجية عبد الكريم بن سليمان، وهو مغربي من أصول أندلسية، انشغل كثيرا بالمفوضيات، مما جعله عاجزا عن الاهتمام بالشؤون الداخلية للمغرب، بينما أمين الأمناء أي وزير المالية، وهو أخو الحاج عمر التازي المقرب من السلطان، فإن شغله الشاغل هو شراء نصف فاس وبناء القصور، وأما الآخرون من الوزراء، فلا أهمية لهم".
يبقى النموذج الأكبر للنزعة الأوروبية الكولونيالية في الكتاب هو محاولة ترسيخ صورة نمطية عن إهانة المرأة والمس بحقوق اليهود، وهي إلى جانب تضخيم ظاهرة الرق، أمور حضرت بكثافة في كتاب "في صحبة السلطان" وبقية كتب الأوروبيين (الرحلات)، وهي على العموم تقدم نظرة الأوروبيين للمجتمعات الشرقية وتؤكد رسوخ دونية اليهود والمرأة في الثقافة المغربية.
ويقدم صورة مفارقة للرواتب الهزيلة التي يحظى بها الوزراء والكتاب ومسؤولي الإدارة المخزنية من الخزينة، في مقابل حصولهم على ثروات ضخمة وهائلة من جراء النهب واستغلال النفوذ، لكن هذه الثروات والممتلكات التي يحصلون عليها لا يكون لهم فيها إلا حق التصرف والانتفاع، بينما يبقى المالك الأصلي هو السلطان، حتى إذا مات خدام المخزن من القياد والباشوات، انتقلت الأملاك إلى دار المخزن (السلطان).
ولم يكتف المؤلف تجميع المعطيات التي تتعلق بالنخب المؤثرة، والعلاقات التي تجمعها، موالاة وصراعا، وكذا المعطيات الاقتصادية والتجارية التي تفسر حالة احتضار الدولة، وتغول بعض النخب عليها، واحتدام الصراعات بين القبائل وضعف رعية الحكم، فضلا عن قدراته، بل نقل معطيات انثروبولوجية مهمة عن عقلية المغربي في تلك الفترة وثقافته، لاسيما عند تعرضه لسياسة الحماية وموقف المغاربة من نظام الامتيازات الذي منح للمحميين، وكيف تحولوا إلى سماسرة يبيعون في وطنهم من أجل قبض الثمن أو نيل الامتيازات، حتى سطر المؤلف خلاصة مهمة صادمة ذكر فيها أنه "بدون نظام المحميين ما كان لأي صفقة أوربية بالمغرب أن تتم، وسط ذلك العدد الكبير من اللصوصية الرسمية والخاصة، وأنه بفضل نظام المحميين، تكرست الامتيازات الأوربية لاسيما منها التجارية"، فيذكر في هذا السياق جزءا من ثقافة المغربي تلك الفترة، وأنه "جشع بئيس وحساس لفكرة الربح، ومرتاب ولا يثق بالآخرين وخجول، لأنه تعود أن يكون ضحية الاحتيال والعنف المتزايد، وأنه محاصر بين حصانة المخزن والأجنبي معا، بحيث لا يمكن محاسبتهما، ولذلك سكنه الخوف".
نزعات كولونيالية
مع أهمية الكتاب من الناحية التاريخية، لاسيما تحليله لكافة المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية التي تفسر تكالب القوى الاستعمارية على المغرب في مؤتمر الجزيرة، إلا أنه لم يخل من نزعات أوروبية، تميل من جهة إلى الدفاع عن المصالح الإيطالية ومحاولة تصوير نزاهتها وتشويه صورة المصالح الأجنبية الأخرى، لاسيما منها الفرنسية، كما تجلت هذه النظرة المركزية الكولونيالية في النظرة الدونية للمغرب، وتبخيس ثقافته وتقاليده، واستعمال أسلوب السخرية للاستهزاء بكل ما له علاقة بالثقافة المغربية، بما في ذلك الزي والعوائد المرتبطة بثقافة الضيافة والاستقبال، فضلا عن التركيز على كراهية المغاربة للأجانب (النصارى) والخوف من الحداثة (الآلة).
لكن يبقى النموذج الأكبر للنزعة الأوروبية الكولونيالية في الكتاب هو محاولة ترسيخ صورة نمطية عن إهانة المرأة والمس بحقوق اليهود، وهي إلى جانب تضخيم ظاهرة الرق، أمور حضرت بكثافة في كتاب "في صحبة السلطان" وبقية كتب الأوروبيين (الرحلات)، وهي على العموم تقدم نظرة الأوروبيين للمجتمعات الشرقية وتؤكد رسوخ دونية اليهود والمرأة في الثقافة المغربية.
تأملات في الشعوبية على هامش استفتاء تونس 2022
التحولات في دول الخليج العربي.. الهوية والقبيلة والتنمية
العروي.. من التاريخانية إلى اكتشاف الواقع المجتمعي الإسلامي