يخرج الرئيس في أول خطاب بعد دحمة الانقلاب، تلوح على وجهه سيماء مَلَك، ويكاد القط أن يأكل فطوره وغداءه وعشاءه لوداعته ورقته وزهده، وتشعّ على جبينه زبيبة التقوى، وعلى خديه تفاحتا الوطنية، ويعدُ الشعبَ وعود المطرب فؤاد غازي لحبيبته التي سيزرع لها بستاناً من الورود، ويلبسها من نور الشمس سواراً، لكنه ما يلبث أن يطمع في شجرة الخلد وملك لا يبلى.
تُكتسبُ القوة السحرية في الحكايات الغربية بوسيلتين بدنيتين، إما بالطعام، وإما بالكسوة، بينما تتأتى القوى السحرية في الروايات الإسلامية من الكلمة، ومكانها الفم أيضاً، لكن الطعام في نزول إلى الأمعاء الغليظة، أما الكلمة، ففي معراج إلى العقول الرفيعة.
نجد أمثلة كثيرة على دعوانا في الحكاية الغربية، ومن أمثلتها المعاصرة السبانخ في أفلام باباي، وحبة الفول السوداني في مصورات ميكي وبندق من ديزني لاند. والمشروب السحري في كوميكس استريكس الفرنسي، وحبة الفاصولياء الشهيرة والكسوة في سوبرمان، والقناع في فيلم ماسك لجيم كاري، أما في الحكاية الإسلامية فنجد أمثلة كثيرة أشهرها قصة "الغلام والساحر"، وهي قصة من الحديث النبوي.
تحكي القصة عن غلام أرسله أبوه الملك إلى ساحر لتعلم السحر، فلا تُحكم ممالك الظلم إلا بعلوم الشيطان، لكن الساحر كان يضربه، ففضل راهباً على الطريق، وتعرّف إلى الله، فعلمه علوم الرحمن، فأمسى يشفي الأكمه والأبرص، فسرّ الملك بولده الساحر النابغة، لكن الغلام الذي تعلّم الصدق أخبره بأنه إنما يشفي بأمر الله، فأمر الملك بقتله لأنه بات خطراً على الأمن القومي، لكنهم عجزوا عن قتله، فأرشدهم إلى سرّ مناعته وأخبرهم بسرّ حياته بأنه لن يُقتل إلا إذا قيل قبل طعنه: باسم الله رب الغلام.
الكلمة ترفع والكلمة تخفض، تعزُّ وتذلُّ في الحكاية الإسلامية، المرء يدخل الجنة بكلمة والنار بكلمة. المرء يولد بكلمة، ويموت بكلمة، أما في الغرب، فالطعام يرفع ويخفض. يمكن أن نتذكر قول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري الذي خبر الثقافة الأمريكية: "إن ثقافة الغرب ثقافة مَعِدية"، حتى الجنس، وهو اسم المواقعة عندهم، مَعديّ، وقد اشتقوا له اسماً حيياً من التكاثر. ويمكن أن نتذكر "مواقعة" كلنتون ومونيكا لوينسكي في الفضيحة التي سارت بها وكالات الأنباء والركبان، وأنجبت منه فستاناً عليه بقعة ماء الذرية، وبيع بثمن باهظ، ويمكن أن نقول: إن الثقافة الإسلامية هي ثقافة عقلية من غير أن يرفَّ لنا جفن، أو ينبض لنا نبض.
أيها السادة:
انتشر خبر مصري في التسعينيات له قوة 260 حصانا، وهو ما يعادل قوة ثلاثين ألف رجل عاطل عن العمل، يضع الجنيه في وقبه ثم يعبس، فيلتوي مثل الورقة. وقد حظي الرجل صاحب الجفن الذي علم الغزل بمقابلة الرئيس مبارك، فتمت مقابلة بين رجلين جفنهما علّما الغزل؛ مصري من العامة له قوة 260 حصانا، ورئيس له قوة نصف مليون حصان، وقد منح الرئيس المارد الذي له قوة مائة مليون مصري للعفريت الإنسي وثيقة رئاسية تمنع اعتقاله أو الإساءة إليه خوفاً من غضبه.
ويمكن أن نتذكر الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي الذي كان فارساً بألف رجل، وقوة الرؤساء العرب في أقدامهم التي يضعونها على رقاب الناس. وكانت أم أخيل بطل حرب طروادة، قد غمرته في المياه المقدسة بعد غمرها إياه في لبن حنانها. أما الرؤساء، فقد غمستهم أمهاتهم بالدم، أعاذكم الله من شرِّ الدماء التي هي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة.
أيها القارئ جعلني الله فداك:
يبلغ المرء السؤدد بطرق شتى، فإما يرثها وراثة من أسرته أو قبيلته أو حزبه، والحزب قبيلة محدثة، وإما بالمكر والخدعة، وأعلى منازل السؤدد هي رئاسة الدولة، فإذا بلغ المرء الرئاسة استحوذ على مصادر القوة كلها، فقوته هي قوة شعب قد يبلغ مائة مليون إنسان كما في مصر، يضاف إليها موقع البلد الجغرافي، وثرواته الباطنة والظاهرة، وحيواناتها من خيول وحمير وبغال وذباب عادي والكتروني، وطرق ومعابر وفكة وعقيدة، والعقيدة أقوى مصادر القوة، فأمسى الرئيس عملاقاً أشد من عوج بن عناق، الذي كان يشوي الحوت على عين الشمس ويأكله كما تروي المرويات العربية.
ويعلم القارئ أن الديمقراطيات أشكال وألوان، حتى أن كل الدكتاتوريات العربية ديمقراطية في الأدبيات السياسية العربية، وأن الديمقراطية التونسية الكريمة حصرت الخيار في تونس بين رجلين: أحلاهما قبيح، رجل أعمال فاسد، وأستاذ قانون دستوري قادم من أعماق التاريخ وأطراف الحضارة، فوجد الناس الأخير أكرم وأقرب رحماً، فاختاروه لمنصب الرئيس المقيد بأغلال الدستور. لعلهم عملوا بالمثل: أعطِ الدستور لقيس سعيد ولو أكل نصفه، لكن الرجل أكله كله.
وسوى علم قيس سعيّد بطرق صناعة الكعك الدستوري، والحلويات المخبوزة بقوانين اللوز والفستق، هو رجل يرطن بلغة مسلسلات الخيال التاريخي، في زمن شحّت فيه الفصاحة وكثر فيه العيُّ، ويلهج بذكر فلسطين وضرورة استنقاذها من العملاق الإسرائيلي، فارتضاه الناس لبلدهم رئيساً، لكن الإنسان الذي يحب المال حباً جمّا، يحدوه ما عاش أمران هما: الحرص والأمل. وقد طمع الرجل في شجرة الخلد، فعمد إلى أكل حبة فاصولياء سحرية، وجدها في المادة الثمانين من الدستور القديم، أسوة بأقرانه من الحكام العرب الأشاوس، وكان آخرهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي عطل الدستور بشكل مؤقت. وتعطيل الدستور يشبه نقع الفول السحري في الماء قبل يوم من طهوه حتى يطرى للأكل هنيئاً مريئاً بعد إضافة الزيت والطحينة.
سيفوز دستور قيس سعيّد، ومن المتوقع أن يُعتقل زعماء سياسيون قريباً، وقد يموتون بالسكتة الدستورية كما مات مرسي، وسيتحول الإعلام التونسي إلى الثرثرة السياسية، وقد يسمح الرئيس الكريم بمظاهرات تطلب الخبز
الحوار الوطني.. أم اجتماع لليسار الوظيفي؟!
تونس: بين الغنوشي والمرزوقي وسعيّد