في كلّ عام، يتكررُ النقاشُ حولَ الأعمال التلفزيونيّة في شهرِ رمضان المُبارك، وتثير معظمُ الأعمالِ المطروحةِ في هذا الشهرِ الفضيل العديدَ من القضايا التي تفتحُ أبوابا من التساؤلاتِ والحواراتِ بشأنِها، ومع الأسف الشديد، فإنّ معظم هذه النقاشاتِ الدائرة حولها، لا تتناولُها فنّيا بقدرِ ما تتعاطى معها بسخرية وانتقاد واستهجان شديد، بسببِ ما يُسمّيهِ البعضُ انتهاكا لحُرمةِ الشهرِ الكريم.
لم يعد يخفى علينا أنّ المسلسلاتِ الرمضانيّة صارت تتسمُ بقدر كبير من المشاهدِ والمواضيع الاستفزازيّة للمشاهدِ العربيّ بشكل عامّ، والمشاهد المُحافظ بشكل خاص.
حيث صارت البلطجة والمخدّرات والتحرّش والاغتصاب وغيرها من الجرائم المنفّرة تُعرض على الشاشةِ جهارا نهارا، كما أنها صارت بمنزلةِ جزء لا يتجزأ من سيناريو العمل، والأدهى من ذلك أنّها تصدّر بطريقة مبتذلة، إضافة إلى تتويجِ ممارسي تلك الأفعالِ بالبطولة!
ينقسمُ الصّراعُ في هذا المضمارِ إلى العديدِ من الاتجاهات، فهناك من يرى أنّ وظيفةَ الفنّ تكمنُ في تحقيقِ متعةِ المشاهدِ بالدرجةِ الأولى، وليست وظيفتُه أن يُقدّمَ حلولا للمشكلاتِ التي يعاني المجتمعُ منها، بل يكفي أن يُشيرَ إليها وأن يستخدمَها ليحبكَ قصصا وحكايا مشوّقة تثيرُ فضولَ المشاهدِ لأحداثِها، وتخلُق لديه شعورا بالتشويقِ يدفعه للاستمرارِ بالمشاهدة، ويحتجّ صنّاعُ مثلِ هذه الأعمالِ وممثّلوه، بأنّهم يصوّرون الواقعَ كما هو بالفعلِ، والمسؤوليّةُ تقعُ على المشاهدِ في انتقاءِ ما يُشاهده هو وعائلتُه خلال رمضان وطيلةَ العام.
أمّا الاتجاه الآخر، فيرى بأنّ هناك عمليّة ممنهجة ومؤامرة تُحاكُ لتدميرِ أجيال بأكملِها، عن طريقِ بثّ رسائل غير مباشرةٍ تتسلّلُ إلى العقلِ الجمعيّ اللاواعي، فتُستحلّ الحُرُماتُ وتستباحُ الأعراضُ وتُنتهك القيمُ انتهاكا صارِخا، تحت ما يُسمّى بتصويرِ الواقِعِ وباسمِ موضوعيّةِ الفنّ وغايتِهِ الترفيهيّة، كما يعبر هذا الاتجاه عن غضبِهِ العارِمِ في كلّ مرة تُعرض فيها المشاهد المخلّةُ بالحياءِ العامّ، ويدعو إلى إيقافِ الأعمالِ المحشوّةِ بالإيحاءاتِ الجنسيّةِ والشتائم وتزويرِ الحقائقِ والأكاذيب، التي تعكسُ بدورِها صورة سلبيّة للمجتمعاتِ التي تخرجُ من رحمِها كلّ تلك الفظائع الأخلاقيّة، ويرى أصحابُ هذا الاتجاه أنّ الفنّ فعلٌ من أرقى وأسمى الأفعالِ الإنسانيّة، وحتى وإن لم يكن عليه أن يُقدّمَ رسالة هادفة وانحصرَ بوظيفةِ الإمتاعِ، فإنّ عليهِ أن يكون أكثر احتشاما، خصوصا في شهر يحملُ كلّ تلك القُدسيّة لدى أكثر من مليارِ مسلم حول أنحاءِ العالم.
من الواضحِ أنّ الدافعَ وراء إنتاجِ مثل هذه المسلسلاتِ هو غاية ماديّة بحتة، وذلك لاستقطابِ أكبر عددٍ من المشاهدين، فلا زالت شركاتُ الإنتاجِ تلهثُ وراءَ نسبِ المشاهدةِ العالية
لم يكن غضبُ المشاهدِ العربيّ متعلّقا بالأسبابِ الأخلاقيّة أو الدينيّةِ فقط، كرفضِ مشاهدِ العُريّ الفاضِحِ وزنا المحارِمِ والمخدّراتِ والكثير، بل تجاوزَ الأمرُ إلى احتدامِ الصدامِ بين الأشقاءِ العربِ أنفسهم، فالمسلسل الكويتيّ "من شارع الهرم إلى"، الذي أثارَ جدلا واسِعا يصعبُ حصره هنا، اتهمَ بالاستخفافِ بالمرأةِ المصريّةِ والحطّ من قيمتِها عن طريقِ حصرِها بشخصيّةِ الراقصة أو "الرقاصة"، عدا عن التشويهِ المعهودِ والمتكررِ للرجلِ الملتزمِ دينيّا، واستغلال قضيّةِ اللاجئين السوريين، والعديد من المبالغاتِ المثيرة للاشمئزازِ والاستفزازِ في آن معا، حتى وصلَ الأمرُ إلى رفعِ العديد من القضايا على الممثلين والمنتجين في المحاكم الكويتيّة.
وبالطبعِ، لم يكن الموسم الرمضانيّ خاليا من التطبيلِ للأنظمةِ السياسيّة، خصوصا تلك الأنظمة الانقلابيّة الفاقدة للشرعيّة، حيث كان مسلسل الاختيار3 نموذجا يُحتذى به في زرعِ الفتنةِ والتفرقةِ، وبهذا نشهدُ طورا جديدا من عمليّاتِ التزويرِ للحقائق، فانتقلنا من قضيّةِ تزويرِ التاريخِ إلى قضيّةِ تزويرِ الواقعِ الذي شهدناه بأمّ أعيُنِنا!
فمن الواضحِ أنّ عزلَ الرئيسَ الشرعيّ المنتخب محمّد مرسي والانقلابَ على الشرعيّة وموته في ظروفٍ غامضة، وإراقةَ دماءِ المصريين في ميدانِ رابعة، وسجنَ الصحفيين والعلماءِ ورجالِ الدينِ وكل أجهزةِ النّظامِ الشرعيّ السابقِ، وتكميمَ الأفواهِ وعمليّاتِ الإعدامِ بحقّ الأبرياء، كلها لم تكن كافيةً لوأدِ الحقيقةِ وتلميعِ صورةِ الانقلابِ، لذا فإنني لا أظنّ أنّ ياسر جلال قد نجحَ في ذلك!
على أيةِ حال، فإنّه من الواضحِ أنّ الدافعَ وراء إنتاجِ مثل هذه المسلسلاتِ هو غاية ماديّة بحتة، وذلك لاستقطابِ أكبر عدد من المشاهدين، فلا زالت شركاتُ الإنتاجِ تلهثُ وراءَ نسبِ المشاهدةِ العالية، غيرَ آبهة برأيِ المشاهدِ أو ذوقِه ولا بثقافةِ المجتمعِ وكيانِهِ، فلم يعد يهمّها إذا حظيت بآلافِ المشاهدين الذي يُمطرون العمل بوابل من الشتائمِ، طالما أنّ تلك الشتائمِ تحقق لها ربحا ماديّا!!
لقد صار الفن عبارة عن مادة تجاريّة مجوّفة، ولا أقصدُ التعميم بالطبعِ، إلا أنّ الواقع يشيرُ إلى أنّ الغالبيّةَ صارت كذلك مع الأسف الشديد، سواء في رمضان وغيرِ رمضان!