في جريدة "آوتلوك" سخر العدد الخاص
بكذبة أبريل/ نيسان 1952 من انتشار الاحتجاجات الطلابية التي هيمنت على الحياة في
الحرم الجامعي بالجامعة الأمريكية ببيروت للسنوات القليلة السابقة، وفي المقال،
صرح الكاتب ساخراً بأنه: "سيتم افتتاح كلية للحكومة الثورية خلال الفصل
الدراسي في الخريف، مصممة لتجهيز طلاب
الجامعة الأميركية في
بيروت بمعرفة واسعة عن
الأساليب الحديثة للمؤامرة والثورة، وسيتم قضاء ثلاث ساعات كحد أدنى في قتال شوارع
مع رجال الشرطة، وأن رئيس الجامعة ألقى الخطبة حول شعار الكلية الجديد: "ليكن
لديهم نضال، وليكن بوفرة أكثر".
كانت تلك السخرية تنقل حقيقة عن الجامعة
الأمريكية ببيروت التي تحولت في نظر الإعلام الغربي كما يبدو واضحاً مقراً
للاحتجاجات من الطلاب العرب، حتى طالبت المقالة بسخرية لتحويلها إلى ساحة لتثوير
الطلاب لا لتعليمهم، في الواقع لم يكن هذا بعيداً تماماً عن الصحة، فقد لعبت
الجامعة الأمريكية في بيروت رغماً عن أنف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط،
ورؤساء الجامعة، دوراً في أعداد رموز
القومية العربية الذين حملوا لواء النضال
العروبي فيما بعد.
لماذا كانت القومية العربية؟
في كتابه "الجامعة الأمريكية في بيروت:
القومية العربية والتعليم الليبرالي" يروي لنا الكاتب بيتي إس أندرسون أن
الخمسينيات كانت سنوات على فوهة بركان، ولكنها لم تكن البدايات، وكانت هناك الجذور
الضاربة للعمل الثوري في الجامعة.
في الخمسينيات كان الطلاب ينظمون مظاهرات دعماً
للفلسطينيين والمغاربة، وضد الإمبريالية بشكل عام منذ العام 1947م، وتلك الجهود
الكبرى التي تمت مصادرتها في العام 1955م حين حظرت الإدارة الجماعات التي كانت
تقوم بتنظيم المظاهرات، وكانت تلك الجماعات ينخرط فيها الطلاب بشكل صريح كعرب
فخورين بماضيهم، وساعين لتحقيق وحدة ثقافية وسياسية واقتصادية في المستقبل، وقد
سعى الطلاب في أنشطتهم لدمج تجاربهم التعليمية في الجامعة مع أحداث الحياة الواقعة
خارج أبواب الجامعة، لأنهم شعروا أنه يمكن أن يعملوا كطلائع تشرع في التغييرات اللازمة
في مجتعهم.
كان في البداية هناك قبولاً حماسياً للنمط
الحضاري الغربي سرعان ما تحول تحت آثار الاستعمار إلى معارضة وجد الطلاب العرب
أنفسهم فيها، وبانقسام العرب لدول ودويلات جديدة عقب الاستعمار بعد الحرب العالمية
الأولى، كان الطلاب أقل قابلية للانقياد للنموذج الحضاري الغربي، وعندما أصبحت
حكومة الولايات المتحدة جهة فاعلة رئيسية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية
الثانية ورمزاً للامبريالية الغربية.
وأخفق الانتداب البريطاني والفرنسي في لبنان
والأردن وسوريا أن يقدم خدمات كافية للسكان رغم ازدياد عدد المدارس والوظائف
والمرافق في فترة ما بين الحربين، وهنا وجد السكان حياتهم السياسية محددة بحدود
رسما الأوروبيون ومؤسساتهم الحكومية المرتبطة بهم، ومع خيبة الأمل في النموذج
الغربي، تطلع الطلاب إلى قومية عربية أعيد تنشيطها باعتبار الرد على النمط الغربي.
لقد كانت القومية العربية كما يوضح إزرائيل
جرشوني: "نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي والقوة الدافعة له، ونتاج للتعليم
الشامل وتبني ثقافة أجنبية من خلال وسيلة الإعلام الجديدة المتمثلة في لغة
الطباعة". أي أنها كانت نتيجة للتطور الهامشي الناتج عن الاستعمار، وهؤلاء
الطلب انتقدوا بقسوة الفقر الذي ابتليت به مجتعماتهم، وتحول هؤلاء الطلاب العرب
القوميين إلى الوحدة العربية بوصفها الحل للرد على التجزئة الاستعمارية.
تأسست جمعية العروة الوثقى كجماعة ثقافية معبرة
عن التوجه القومي مبكراً في عام 1919م، وكان لتلك الجمعية تحديداً دوراً بارزاً في
إعداد قادة القومية العربية الذين سيحملون لوائها فيما بعد، وكانت طوال فترة
مسيرتها عبارة عن منتدى فكري للمناقشة والتفاوض بين الطلاب لتوضيح هوياتهم كعرب،
بميول إشتراكية.
لقد كانت أدبيات العروة الوثقى من خلال صحيفتها
تشكل بحثاً للطلاب عن هوية في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وعلى حد قول
الصحيفة، كانت مهمة فهم القضايا والمشاكل العربية هي التي أصبحت النقطة الأساسية
بشأن من سوف يصبحون نتيجة لتجربتهم التعليمية، وركزت العروة على العمل حيث كانت
تدعو الطالب العربي ليكون الشخص الأنسب لحل مشاكل العالم العربي، وفي نوفمبر 1947
وبعد تصويت الولايات المتحدة الأمريكية لقرار تقسيم فلسطين، جمعت العروة العناصر
الفكرية والناشطة معاً.
ومن أجل اشعال الشرارة لمواصلة طلاب المقاومة
التقدم من أجل قضايا عربية جديدة للسنوات الثمانية التالي، وفي هذه الأثناء، حددت
جمعية العروة الوثقى الحكومات الفرنسية والأمريكية والاسرائيلية كأعداء واضحين
يعرقلون تقدم العرب، وكانت العقبة الأكثر إلحاحاً أمامهم هي الإدارة الأميريكة
التي لم تدعم حقهم في الاحتجاج من أجل قضايا سياسية.
وفي مارس 1951 خرج طلاب العروة الوثقى في مسيرة
كبرى في شوارع مدينة بيروت تنديداً بالحكومة الفرنسية، وتأييداً لحق المغرب في
الاستقلال وتوجهوا للمفوضية الفرنسية ليعلنوا: "أن هذا الباستيل هو واحد من
أكبر سجون الباستيل داخل الأرض العربية، وأن فرنسا التي دمر أباؤها سجن الباستيل
قبل فترة ليست بالبعيدة، أنشأ اليوم أبناؤها بساتيل أخرى في شتى أنحاء الأرض
العربية".
لقد ظهر إنعكاس التأثر بالتجربة الأوروبية في
الثورة الفرنسية ونتيجة للتعليم الليبرالي الغربي في أبناء حركة العروة الوثقى،
وظهر وعيهم في الإنتماء إلى قضيتهم أولاً في تلك الظاهرات، وفي نفس العام نظمت
العروة مهرجاناً للتاريخ والثقافة المغربية بحيث يتمكن الطلاب من فهم مشاكل
المغاربة بشكل أفضل.
احتجاجٌ كبير آخر شهده مارس 1954م، عندما نظمت
العروة الوثقى مظاهرتها ضد حلف بغداد، ضاغطة على الحكومة اللبنانية، وعارض الطلاب
الحلف على أساس أنه كان يخدم قضايا الامبريالية الغربية بدلاً من القضايا العربية،
وقد كانت اسرائيل وليس الاتحاد السوفييتي، في نظرهم، التي تشكل خطراً وتهديداً على
العرب أكثر من الشيوعية، وفي هذا اليوم اشتبك الطلاب مع رجال الشرطة، ما أسفر عن
مقتل شخص، وإصابة ستة وعشرون طالباً، وإصابة طالب بشلل دائم، وبعد هذه المظاهرة
أوقفت الإدارة العروة عن العمل بشكل مؤقت.
مجلس الطلبة
كان مجلس الطلبة هو التنظيم الثاني الأهم بعد
العروة، ومنذ سنواته الأولى عام 1949 اضطلع بمهام حكم متعددة في الحرم الجامعي،
وأنشأ لجنة دائمة للشئون الفلسطينية، وناهض محاولة زيادة مصروفات الجامعة، وتم إيقاف
أول رئيس للمجلس بتهمة نشاطه السياسي الشيوعي، وفي السنة التالية سيطر القوميون
العرب على مجلس الطلبة، حيث شغل السيد جورج حبش منصب رئيس اللجنة التنفيذية، وقررت
الجامعة أن المجلس أصبح مسيساً جداً، وأوقفته عن العمل في أوائل 1952، وحلته
تماماً 1955م.
تقارب رجال مجلس الطلبة مع رجال العروة الوثقى
التي كان يرعاها في ذلك الوقت المفكر العروبي البارز قسطنطين زريق، وكان لذلك
التقارب فاعلية كبيرة، يحكيها لنا جورج حبش في مذكراته "الثوريون لا يموتون
أبداً": "في أحد الأيام قمنا باحتلال القاعة الغربية في حرم الجامعة، وطالبنا
الحكومات العربية بتدريبنا على استعمال السلاح بهدف التوجه للجبهة في فلسطين، وكان
هذا الحدث بداية اختمار غضبنا وتنظيمنا داخل الجامعة". وفي عقب ذلك الحدث
انضم حبش إلى التنظيمات السرية وتعارف إلى زريق الذي عمق من فكره وأيديولوجيتها
القومية وأنشأ بدايات حركة القوميون العرب داخل الجامعة.
كان تنظيم القوميون العرب ينافس تنظيماً داخل
الجامعة يضم مفكراً بارزاً آخر فيما بعد هو أنيس صايغ، الذي يحكي عن تجربة الجامعة
الأمريكية: "كان حبش يمر بأطوار إنشاء الجماعات السرية، وكنت أنا عضواً في
الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكنت أتسلم بعض المسئوليات الحزبية في صفوف طلبة
الجامعة، ما أدى عملياً لمواجهات سياسية وعقائدية ومواقف متعارضة في التفصيلات
والجوهر، ما كان يصنع صراعات ونزاعات ومواجهات أيديولوجية عنيفة، وكانت المعارك
الانتخابية لدخول تنظيم العروة الوثقى ومجلس الطلبة هي العنصر الأقوى بين صفوف
طلبة الجامعة في تلك الأعوام".
لقد خرج من المناخ السياسي للجامعة الأمريكية
رموزاً فكرية أثرت أيما أثر في الفكر القومي العروبي، وخدمت قضايا التحرر العربية
على مختلف الأصعدة، وانبثق منها أحد أبرز التيارات كتيار القوميين العرب، وقد
استمرت الإدارة الجامعية في التضييق على هذا المناخ، مما أضعف العمل الحزبي
والجماعي داخله، وأصبح الجدل السياسي داخل الجامعة جدلاً على مستوى الأفراد لا
الجماعات، حتى فقدت الجامعة مناخها السياسي تماماً بسبب الحرب الأهلية في آواخر
السبعينيات.