منذ رحيل الخلافة العثمانية عن أرض الشام، وسوريا الحالية وبحدودها الجغرافية الراهنة قد شهدت ثلاث ثورات ضد المحتل الفرنسي وأذنابه الذين تم فرضهم على الشعب السوري. وبمناسبة ذكرى
الثورة السورية التي تمرُّ بنا هذه الأيام، وهي التي انطلقت قبل أحد عشر عاماً، وتدخل عامها الثاني عشر الآن، وكذلك بمناسبة اقتراب ذكرى استقلال
سوريا الشكلي الظاهري في 17 نيسان/ أبريل 1947، يجدر بنا النظر إلى الوراء، فإن كان المستقبل مجهولاً لنا، ومن الصعب التنبؤ به، لكن مسارات الماضي تُنبئنا عن الواقع الذي وصلنا إليه والمعاش الذي نحياه، وبالتالي قد تمنحنا الكثير من القدرة والفرص على التوقع بالآتي من الأحداث.
ربما فقهت النخبة التي أحاطت بالملك فيصل، نجل الشريف حسين، بخطورة ما يخطط له المستعمر الفرنسي، وهي النخبة التي عاشت وتعلمت السياسة ودهاليزها في صالونات وقصور السلاطين العثمانيين. فشخصية مثل محمد علي العابد الذي كان أول رئيس لسوريا، سبق أن شغل منصب سفير السلطان في الولايات المتحدة الأمريكية، وشخصية مثل محمد رشيد رضا دفعته للقبول بدستور أقرب إلى العلمانية في سوريا، مؤثراً سيادة الدستور ورأي الأغلبية البرلمانية، لإداركه عمق ما يطمح إليه المحتل الفرنسي من فرض أقلية على الشعب السوري.
يجدر بنا النظر إلى الوراء، فإن كان المستقبل مجهولاً لنا، ومن الصعب التنبؤ به، لكن مسارات الماضي تُنبئنا عن الواقع الذي وصلنا إليه والمعاش الذي نحياه، وبالتالي قد تمنحنا الكثير من القدرة والفرص على التوقع بالآتي من الأحداث
ولكن مع هذا كله لم يكن المحتل الفرنسي مهتماً لهذا كله، فهو جاء إلى الشام مفعماً بروح الحروب الصليبية. وكان كلام رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو لنظيره البريطاني يومها واضحاً بأن سوريا منطلق الحروب الصليبية، ولفرنسا حق مقدس فيها، وهو مطلب النخب الفرنسية ولا يمكن التخلي عنه، وبالتالي لا بد من احتلال فرنسي سُمي زوراً وبهتاناً بالانتداب، وروجت له الأنظمة العملية على مدى تاريخها.
سعت فرنسا منذ البداية إلى تمكين الأقلية العلوية في المشهد التشبيحي العسكري لمواجهة الثورة التي انطلقت، ومع تغييب فيصل والنخب السنية بطردها إلى الأردن ثم العراق، خلت الساحة للفرنسيين من النخب الرافضة لمخططاتهم، فكافأ البريطانيون فيصل بعرش العراق. ودون الدخول في التفاصيل في تلك المرحلة من هذه الناحية، فقد كانت الثورة السورية خلال تلك الفترة قصيرة النفَس، وتم فصل العسكري عن السياسي، وكالعادة حين يقاتل العسكري دون قوة سياسية، يتحول إلى أقرب ما يكون لقاطع طريق، والسياسي حين يخوض غمار السياسة دون قوة وحديد، لا يؤبه له، ولذا حُرمت الثورة السورية خلال سبع سنوات فقط من قدرتها على الاستثمار بكل الضحايا التي قدمتها.
كانت أحداث الثمانينيات لشريحة معينة، لم تستطع كسب الشرائح الأخرى، وعجزت عن تبيان خطر العصابة الحاكمة للشعب السوري، وذلك له أسباب موضوعية كثيرة
تكرر الأمر بطريقة أخرى أواخر السبعينيات حين تحرك الإخوان المسلمون ضد نظام حافظ الأسد، بعد أن كانت الأقلية العلوية قد تمكنت من مفاصل الحياة العسكرية والسياسية بغض النظر عن المناصب الصوَرية التي منحت لبعض القيادات السنية، ولكن بالمجمل كان القرار كاملاً بيد الطائفة. فقد كانت أحداث الثمانينيات لشريحة معينة، لم تستطع كسب الشرائح الأخرى، وعجزت عن تبيان خطر العصابة الحاكمة للشعب السوري، وذلك له أسباب موضوعية كثيرة، ومنها مفاجأة العصابة
الطائفية للإخوان وعزلهم داخلياً وخارجياً، قبل أن يمتدوا شعبياً بشكل أكبر وأقوى، وعلى مستوى الحاضنة المجتمعية، فنجحت العصابة الطائفية بقيادة حافظ أسد في تسويق سرديتها على الخارج تحديداً، وتم عزل الإخوان داخلياً، مما جعلهم يتشاطرون مع الثورة ضد الفرنسيين ذات الوجع والخطأ المرتكب، من أنها ثورة قصيرة النفس، ولم تواصل مسيرتها أكثر مما واصلته الثورة الأولى، لتنتظر إنهاك العصابة أو تنتظر فرصة سانحة لها.
لنتخيل مثلاً أن أحداث الثمانينيات وقدرة الشباب يومها على المواجهة، كانت هي نفسها القدرات عام 1984 يوم تحركت آليات العصابة ضد بعضها بعضاً ممثلة بحافظ ورفعت، حيث رغب الأخير بخلافة شقيقه الذي رآه على فراش الهلاك. لقد كان أمام الأحداث يومها فرصة ذهبية للقنص، واستغلال ذلك الخلاف الخطير، ولكن ذهاب قوتها وريحها يومها بسبب أحداث حماة وما جرّته فوّت عليها تلك الفرصة. وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن هذه الحرب لا يصلح لها إلاّ الرجل المكّيث"، وهو الذي يمكث وينتظر ويراقب بانتظار قنص فرصة قد تحتاج عُشر وقت وجهد ما تحتاجه في أوقات أخرى.
ما تبغيه هذه الثورة اليوم وهي التي تدخل عامها الثاني عشر هو الاستقلال الحقيقي الناجز، وليس استقلالاً وهمياً، كما تبين وظهر لهم ذلك بعد رحيل المحتل الفرنسي
نصل اليوم إلى أم الثورات السورية وهي ثورة 2011 التي خرجت بعد معاناة الجميع، فشاركت فيها كل الشرائح والطبقات، وبالتالي غدا من الصعب على المحتلين الروسي والإيراني وذيلهما العصابة الطائفية جعلها ثورة قصيرة النفَس، ما دام الكل قد شارك فيها بخلاف الثورات الأخرى. وعمّقت جراحات الثورة هذه المعاناة، وشارك بتعميقها جرائم المحتلين ومجازر ذيلهما، بحيث لم يعد الإسلامي أو غير الإسلامي أن يصالح العصابة الطائفية. ولذا فمن الصعب أن يتم النيل من هذه الثورة بعد أن أثبتت أن نفسها طويل وعميق، لتخالف بذلك الثورتين السابقتين منذ استقلال سوريا، بالإضافة إلى أنها أثبتت أنها ثورة عميقة الجذور، وممتدة على كامل الوجع السوري، ومن شرائح مختلفة يتعذر تماماً على المحتلين والعالم كله إقناع هذه الشرائح بالعودة إلى حظيرة الاحتلال الداخلي، والتخلي عن الثورة وأهدافها.
ما تبغيه هذه الثورة اليوم وهي التي تدخل عامها الثاني عشر هو الاستقلال الحقيقي الناجز، وليس استقلالاً وهمياً، كما تبين وظهر لهم ذلك بعد رحيل المحتل الفرنسي، ليتحدث تقرير فرنسي لاحقاً (في عام 1947) عن إمساك ثلثي نواة الجيش السوري من قبل الأقليات. ولعل ما أكده هو تتالي وتتابع الانقلابات العسكرية بعد عامين فقط على رحيل الاحتلال، مما يؤكد هشاشة الحكم الذي خلفه الاحتلال تمهيداً لعملائه وأذياله من الضباط العسكريين الذين ربّاهم على عينه.