دليلنا الجديد أظهر من أن يشار إليه، أكتب بعد أن قرأت تعليقات رئيس دولة "إسرائيل"، بعد أن أخبره قائد طائرته المتجهة إلى أبو ظبي أن الطائرة تحلق في الأجواء الجوية للمملكة العربية السعودية؛ بعد الحصول على موافقة رسمية بتحليقها فوق أرض الحرمين الشريفين، بموافقة خادمهما.
هذه اللقطات المتقنة الصنعة والدلالة، تلخص مائة عام من الهراء في حياة العرب.
* * *
توقفنا مع صدى رسالة كيتشنر إلى الشريف حسين، ونستأنف من هذا الجزء من الرسالة: "قد ينتج بعون الله، الخير من كل هذا الشر الذي يحدث الآن". وزير الحربية البريطاني كان يقصد من "كل هذا الشر" الحرب الدائرة في شهورها الأولى، وما سيترتب من اتصالات بين ممثلي الإمبراطورية وشريف مكة (يظل القارئ في حاجة للتذكير بأن شريف مكة منصب رسمي يعين فيه الشخص بموجب مرسوم من السلطان العثماني، أي أنه أقرب إلى أن يكون محافظا بالتنظيم الحديث في الكثير من الدول العربية)، والتي من المفترض أن تفضي إلى أن يقاتل الشريف ورجاله إلى جانب البريطانيين لهزيمة وطرد الجيوش العثمانية من كل آسيا العربية. وكان الوعد كما فهمه الشريف أن
بريطانيا ستنصبه "خليفة" على كل آسيا العربية، وبدأت لذلك سلسلة مراسلات لوضع خرائط، لكن القوات البريطانية نزلت إلى البصرة واحتلتها (21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914)، فحذف الشريف العراق من تصوراته، تلقائيا، دون حتى أن يطالبه البريطانيون بذلك، فهو واقعي، يفهم أن ما ترسمه المدافع لا تزيله إلا مدافع أخرى.
كانت المواجهة بين الشريف حسين وابن سعود حتمية، وقد امتدت إلى أبنائهما وأحفادهما، وشغل هذا الصراع جانبا كبيرا وهاما للغاية من قرن الهراء هذا، الذي حدد خطوطه الرئيسية مؤتمر القاهرة 1921
ثم توالت التنازلات، تلقائيا واضطراريا، وتوالى تبيان "كل الشر"، فهذا وعد بلفور (تشرين الثاني/ نوفمبر 1917)، وها هم الشيوعيون الروس يكشفون عن اتفاقيات سايكس- بيكو (السرية)، وبات معروفا للشريف أنه كان يجري التباحث حول بنودها بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 وأيار/ مايو 1916، أي في ذات الفترة التي كانت المراسلات بينه وبين ماكمهون تتواصل بسرية، وكذلك كانت تتم بسرية مفاوضات بين البريطاني مارك سايكس، والدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وممثلين عن الخارجية الروسية القيصرية، حتى تم التصديق على الاتفاقيات التي كشف عنها الشيوعيون الروس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وطيرت وكالات الأنباء بنودها في كل أنحاء العالم. وهكذا اتضح للشريف حجم "الخير" المنتظر، لكن أصعب ما كان ينتظره كان يجري بالقرب منه، فالتفاهمات والمساعدات البريطانية خلال السنتين (1915- 1917) جعلت ابن سعود ينطلق إلى السيطرة التامة على نجد، كخطوة أولى، طبيعية، للسيطرة على الحجاز.
وهكذا حين وضعت الحرب أوزارها (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918) كانت المواجهة بين الشريف حسين وابن سعود حتمية، وقد امتدت إلى أبنائهما وأحفادهما، وشغل هذا الصراع جانبا كبيرا وهاما للغاية من قرن الهراء هذا، الذي حدد خطوطه الرئيسية مؤتمر القاهرة 1921.
* * *
عديدة هي الكتب التي بحثت في السياسات البريطانية التي جسدت "الخير الناتج من كل هذا الشر"، ففي كتابه "حدود الجزيرة العربية.. قصة الدور البريطاني في رسم الحدود عبر الصحراء"، يؤكد جون. س. ويلكسنون على أهمية "الدور البريطاني في تعقيد عملية الحدود، مما جعلها بؤرة ذات طاقة كامنة للنزاع بين الأطراف المختلفة نتيجة التدخل القاسي في رسم الحدود عبر رمال الصحراء.. وإقامة مشيخات دول أو إمارات.. لم تعرف من ذي قبل أي معان للحدود السياسية أو الجغرافية.. وكانت الشرعية الوحيدة المعترف بها هي شرعية الانتماء القبلي".
وكل من كتب عن رسم خرائط الحدود لتظل تنتج صراعات تلقائيا؛ أشار إلى أهمية الدور الذي لعبه برسي كوكس، مفوض حكومة الهند البريطانية في الخليج، والذي كان يصر دائما على أن يلعب ابن سعود دورا في جعل الصراع دائما ومتواصلا. كما لا يغيب عن الذهن الدور الذي لعبه الضابط والسياسي، والمؤرخ لاحقا، هارولد ديكسون (1881- 1959)، والذي انتقل في آب/ أغسطس 1915 للعمل في الإدارة السياسية تحت رئاسة السير بيرسي كوكس، وساعد في تنظيم الإدارة المدنية في جنوب العراق، ثم عُين مسؤولا عن بلدة سوق الشيوخ والمنطقة المحيطة بها على نهر الفرات، وبعدها ألحقت بأعماله وظيفة الوكيل السياسي في الناصرية. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 انتقل إلى البحرين حيث عمل كوكيل سياسي بريطاني في البحرين، ثم رجع إلى الهند في 1923 ليعمل سكرتيرا لمهراجا بيكانير، لينتقل بعدها في 1927 للعمل سكرتيرا للمقيم السياسي في الخليج العربي الذي كان يباشر مهام عمله في البحرين، وما لبث أن أُرسل للكويت ليشغل منصب الوكيل السياسي البريطاني في الكويت في عام 1929. تقاعد من العمل عام 1936 وعُين ممثلا محليا أعلى لشركة نفط الكويت، وتوفي في الكويت عام 1959.
كتب ديكسون سلسلة تقارير هامة عن المنطقة التي درسها جيدا كاستعماري، ثم جمع بعضها ليؤلف كتابين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ نزاعات المنطقة: الكويت وجاراتها (تُرجم للعربية لأول مرة في عام 1964)، وفي تقديم الترجمة نقرأ: "يعد من أهم وأغنى ما كتب عن تاريخ هذه البلدة، وما جاورها من مناطق سواء في العراق، أو السعودية، أو عمان، فقد حفظ في طياته حوادث لم تدون في أي مصدر من المصادر الأخرى، والسبب أن مؤلفه كان واحدا من صناع تاريخ هذه المنطقة، والمخططين لمستقبلها. وفعلا، فإن الحدود المصطنعة التي قسمت بين العراق والكويت، والسعودية كانت من مخترعه وتنفيذه".
ويواصل صاحب الترجمة والتقديم: "إن هذا الكتاب هو تاريخ حي يشرح - في جانب منه - تلك الخديعة التي وقع فيها حكام هذه الدول - يومذاك - بسبب السذاجة البدوية التي عششت في عقولهم وخبراتهم؛ الأمر الذي يمكن القارئ من أن يتبين بوضوح دور الحكام (الأبناء) في عملية الحفاظ على هذا المخطط، وعدم استطاعتهم الإفلات منه".
في حين لا تتوفر أية دراسات جادة سوى تلك التي كتبها غربيون، هم في نسبتهم الأعظم موظفون استعماريون أو رحالة مغامرون، تمثل كتاباتهم المصادر الوحيدة لفهم جغرافيا المنطقة ووقائع حياتها الاجتماعية، وتاريخها السياسي والاقتصادي الحديث، فإن بعضا مما كتبوه يجري نكرانه وحذفه في الترجمة
الكتاب الثاني مثلت ترجمته تعبيرا صارخا عن معضلة تاريخ المنطقة، ففي حين لا تتوفر أية دراسات جادة سوى تلك التي كتبها غربيون، هم في نسبتهم الأعظم موظفون استعماريون أو رحالة مغامرون، تمثل كتاباتهم المصادر الوحيدة لفهم جغرافيا المنطقة ووقائع حياتها الاجتماعية، وتاريخها السياسي والاقتصادي الحديث، فإن بعضا مما كتبوه يجري نكرانه وحذفه في الترجمة. هكذا حدث الأمر مع كتاب ديكسون "عرب الصحراء"، ففي تصدير الطبعة الثانية، التي أصدرتها "دار عالم الفكر" (بيروت، 1998) إشارة إلى أن الدار في الطبعة الأولى حذفت الفصل التاسع عشر بأكمله "لما فيه من الافتراء على أخلاقنا وعاداتنا"، وأنها (الدار) في الطبعة الثانية ستحذف "ما فاتنا حذفه في فصل الأخلاق من دس مسيء لتاريخنا لا يستند إلى أي تحقيق علمي".
بعض ما كتبه ديكسون ظل مرجعا هاما، باعتباره "تاريخا" لصراعات متواصلة لا حل لها، فعقب غزو الولايات المتحدة للعراق (ربيع 2003) طلب الكونجرس من معهد السلام الأمريكي تقديم المساعدة البحثية لما سمي بـ"العراق الجديد"، وكان ضمن المشاريع البحثية مشروع أطلق عليه "العراق وجيرانه". وفي هذا الإطار قدم جوزيف ماكميلان، وهو باحث في معهد الدراســات الاســتراتيجية التابع لجامعــة الدفاع الوطني، في كانون الثاني/ يناير 2006، بحثا تحت عنوان "المملكة العربية السعودية والعراق.. النفط والدين وتناحر طويل مستمر"، استعاد فيه بعض ما جاء في كتاب ديكسون "الكويت وجاراتها"، معتبرا أن ما جرى في عام 1801، حين "زحف سعود بن عبد العزيز على رأس عشرين ألف رجل إلى الفرات وهاجم في 29 نيسان/ أبريل مدينة كربلاء، وأعمل السيف في رقاب كل الذكور من سكانها ونبش قبر الحسين وعاد محملا بالغنائم"، لا زال حاضرا في ذاكرة العراقيين الشيعة، وتتجدد مفاعيله في واقع العراق والسعودية!
* * *
بعيدا عن الأخلاق، والترجمة والحذف والتنابذ، تقدم معاهدة العقير المفتتح في فهم كيف رسم البريطانيون، انطلاقا من مقررات مؤتمر القاهرة 1921، خريطة
الشرق الأوسط الملغومة.
في القاهرة تقرر أن يكون فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق، وفي العام التالي جرت أولى محاولات "ضبط" الحدود، ففي مدينة المحمرة (بوشهر الإيرانية) وقعت أول اتفاقية بين سلطنة نجد وتوابعها (عظمة سلطان نجد عبد العزيز بن السعود) وبين مملكة العراق (جلالة الملك فيصل الأول ملك العراق)، وكان الطرف الثالث فخامة المندوب السامي لحكومة بريطانيا العظمى في العراق الميجر جنرال السير برسي كوكس. أما أهم بند في الاتفاقية، في سياقنا هذا، فهي المادة السادسة: "إذا حصل، لا سمح الله، خصام بين إحدى الحكومتين وحكومة بريطانيا العظمى تكون هذه المعاهدة منفسخة".
هكذا من البداية تظهر بريطانيا العظمى باعتبارها الضامن لـ"سلام" الجميع، وأنه لا "سلام" في غيابها.
حسم كوكس كل شيء، ففي اليوم السادس أمسك بقلم أحمر، ونظر إلى الخريطة الموضوعة أمامه ورسم الحدود بين الدول الثلاث، مقررا إنشاء منطقتين محايدتين، الأولى بين الكويت والسعودية، والثانية بين العراق والسعودية. وهكذا بُذرت بذرة كل النزاعات المسلحة اللاحقة، وبعضها لم يجد حلا حتى اللحظة
في العقير، وهو ميناء بحري على الخليج، اجتمع، يوم 2 كانون الأول/ ديسمبر، كل من السير بيرسي كوكس، والمعتمد السياسي البريطاني في الكويت الميجور مور، ووزير المواصلات والأشغال العراقي صبيح بك ممثلا عن العراق، وعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وانصب النقاش حول ترسيم حدود نجد مع العراق.
كانت مطالبات كل جانب مبالغا فيها، فقد طلب العراق أن تكون حدوده على بعد 12 ميلا من الرياض، في المقابل طلب ابن سعود كل مناطق البدو الشمالية من حلب حتى نهر العاصي، وعلى جانب الشط الأيمن للفرات وحتى البصرة، وطالب أيضا بحدود قَبَلية بدلا من حدود ثابتة. وبعد خمسة أيام من النقاشات، حسم كوكس كل شيء، ففي اليوم السادس أمسك بقلم أحمر، ونظر إلى الخريطة الموضوعة أمامه ورسم الحدود بين الدول الثلاث، مقررا إنشاء منطقتين محايدتين، الأولى بين الكويت والسعودية، والثانية بين العراق والسعودية.
وهكذا بُذرت بذرة كل النزاعات المسلحة اللاحقة، وبعضها لم يجد حلا حتى اللحظة.