قضايا وآراء

كثير من الأشواك قليل من القرنفل.. يوميات معتقل (14)

"وجدت تشابهات عجيبة في إبداع السجناء في أنحاء العالم، كأنها ناتجة عن قواعد وقوانين سنّتها حالة سلب الحرية وعزل الإنسان مع آخرين لا يعرفهم خلف الجدران"- الأناضول
هل شعرت يوما بالنار تحرقك من الداخل؟

هل شعرت يوما بالمرارة والبرودة في أعماقك، بينما تبدو بخير من الخارج؟

إذا فهمت هذه الكلمات.. قد تعرف أين أنا.

قلبي الآن عاصفة هائجة..

روحي ممزقة بين الحب والكراهية، دموع الغضب والرغبة في الانتقام.. دموع الحب ونار الاشتياق، الألم.. خيبة الأمل، الإيمان.. الشك والأفكار المحطمة.. تدمير الذات.. احترام الذات الممزقة، الثقة في النفس.. الخوف من الانهيار..

هنا حيث أكون.. صادروا براءتي، وسلبوا مني كل الموثوق بهم..

هل عرفت أين أنا؟

أنا في السجن..

* * *

الأبيات السابقة مقتطف مترجم من قصيدة طويلة كتبها سجين بريطاني باسم مستعار، ونشرتها مؤسسة "سجناء خارج الحدود" المعنية بالجوانب الاجتماعية والنفسية والثقافية للسجناء البريطانيين خارج حدود المملكة، دون تعريف بطبيعة التهم التي حوكموا وسجنوا بسببها..

الشعر في السجن مش مسألة ثقافية تخضع للنقد الأدبي والمقاييس الأكاديمية والأذواق الفنية التقليدية، المسألة هنا مختلفة يا سيف، الشعر في السجن وسيلة مقاومة، وعلاج نفسي جماعي، وشحنة رسائل جوه السجن وبره السجن، وطريقة عظيمة لبناء مجتمع السجن وتدعيمه

أعجبني في القصيدة المشاعر الفوارة التي عبر عنها السجين ببساطة وصدق، مع أنه لم يكتب الشعر أبدا قبل دخوله السجن، هذه الحالة تتكرر بدرجة تثير الدهشة، حتى يتخيل المرء أن هناك علاقة غامضة ولصيقة بين الشعر والسجن..

كنت أقرأ نماذج من شعر السجناء في الأيام التي خرجت فيها الأخبار الضبابية عن احتمال مقتل قائد حماس، الشهيد يحيى السنوار، ولما تأكد الخبر استغرقتني حالة أخرى غير حالة الكتابة، ومشاعر أخرى جعلتني أرى كل شيء بنظرة الشهيد في روايته/الشاهدة "أشواك وقرنفل" كما أراد أن يسميها على خلاف ما تم نشره بعد ذلك باسم "أشواك القرنفل".

فالقصد من العنوان يضيف عمقا لمعنى قصيدة السجين البريطاني المصلوب بين تناقضات شاملة، تجعله أسيرا يحمل بداخله الأشواك والزهور، وتحيط به كذلك.

حاولت كثيرا العودة لـ"مود" الكتابة السردية عن السجن، لكنني كنت أفشل وأهجر الكتابة، واستمرت المحاولات أكثر من أسبوعين، حتى قفزت في ذهني فجأة صورة السجين الفارع الشريف محمد وهو يلقي أشعاره في العنبر، في أجواء احتفالية لا تخلو من الدموع والمرارة. وفي بادئ الأمر لم أكن اتفاعل مع تلك الحالة وأعتبرها في مستوى إبداعي بدائي يذكرني بالـ"كيتش" في الفنون التشكيلية، وبعد أيام ولأسباب تتعلق بالتفاعل الاجتماعي واحترام مشاعر الجماعة، بدأت أتفاعل بحب وتشجيع مع إبداعات الشريف.

سألني سيف: هل تعجبك الأشعار والأغاني التي يؤلفها الشريف محمد؟

قلت: يعجبني الشريف محمد أكثر.

قال: يعني إيه؟

قلت: الشعر في السجن مش مسألة ثقافية تخضع للنقد الأدبي والمقاييس الأكاديمية والأذواق الفنية التقليدية، المسألة هنا مختلفة يا سيف، الشعر في السجن وسيلة مقاومة، وعلاج نفسي جماعي، وشحنة رسائل جوه السجن وبره السجن، وطريقة عظيمة لبناء مجتمع السجن وتدعيمه.

قال: مش فاهم ومش عاجبني الأشعار دي، حد بيكتب بسهولة كده عن كل شيء في كل مناسبة وحفلة؟

كان الشريف محمد هادئا وصموتا وخجولا بطبيعته، ينتمي إلى التيار الإسلامي الواسع بدون ارتباطات تنظيمية، يحرص على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن بتنغيم جميل، لا أعرف مدى انضباطه على قواعد التلاوة بأقسامها الثلاثة وقراءاتها العشر. لم أقترب منه في الأسابيع الأولى، حيث كان محاطا بشلة صغيرة من السجناء، يجتمعون في مكان منعزل ويعملون باجتهاد طول اليوم في صناعة باقات ورد من المناديل الورقية ولوحات ورسوم وهدايا تذكارية يقدمها السجناء لذويهم أثناء الزيارات، ويرتبون لحفلات المساء سواء كانت عيد ميلاد لسجين في العنبر، أو احتفال بشيء حدث خارج السجن: إنجاب طفل أو زواج أقارب أو نجاح أولاد في المدارس، أو حفلة سمر لرفع الروح المعنوية وتحلية الوقت بالمسابقات والهدايا وتبادل الرأي، وأحيانا محاضرات دينية وثقافية وسياسية..

بعد أسبوعين من معرفته السطحية فاجأني الشريف محمد في حالة الاحتفال، إذ تحول من سجين صامت خجول مرتبك بعض الشيء، إلى "كارني محترف"، أي صانع كرنفالات ومؤد جريء ومدير احتفال وحكاء ميلودرامي غزير الإنتاج، حيث كان يكتب القصص المشحونة بالتشويق والإثارة ويحكيها بما يشبه التمثيل على الشلة المحيطة به، ولم أكن قد حضرت سهرات كهذه ولا سمعت الحكايات، إلا بعد أن أخبرني هشام الحسيني بهذه السهرات الدرامية.

اقتربتُ من الشريف واستمعت إلى قصصه في الجلسات الخاصة، وشجعته على المزيد، كما أبديتُ إعجابي ودعمي لدوره العظيم في الورشة الفنية وإدارة السهرات، ومع الوقت نسج الشريف بيني وبينه حالة من "الدردشة" و"البوح" خاصة أثناء التريض، وعرفت الكثير عن تفاصيل سجنه وحياته قبل السجن، وأعماله التي تختلف كثيرا عن صورته الخجولة وصوته الهادئ و"زبيبة" الصلاة التي تشير إلى تدينه، مدعومة بالفوطة على الكتف والبلل الناجم عن إسباغ الوضوء في النهار والليل، حيث كان يستيقظ قبل الفجر بساعة وأكثر مع عدد قليل من المقربين منه، ليقيموا الليل..

قبل السجن عاش الشريف محمد تجربة حياة صعبة ومتقلبة في العمل والسفر والزواج، ولما دخل السجن عاش تجربة أكثر صعوبة، حيث تنقل في أكثر من سجن في الأقاليم وعانى من حفلات التعذيب الجماعي أثناء استقبال السجناء الجدد. وبرغم أنني لم أشهد بعيني تعذيبا مباشرا في السجون، إلا أن حكايات الشريف محمد (وأنا أصدقها جميعا) قدمت لي سردية مذهلة ومحزنة مشحونة بمشاعر وتفاصيل كلها من الأشواك، وإن كانت لا تخلو من القرنفل وعطر التعاون والدعم الذي يضيء ظلام الغرباء المجتمعين قسرا خلف الجدران الرمادية الكئيبة..

إذا كان فقدان الأوراق يشبه "الشوك" فإن المهلة التي فرضها الانتظار تشبه "القرنفل"، لأنها منحتني فرصة أطول للتفكير والتأمل بعمق في حالة السجن، ودراستها في حالة أعم من خلال وضعها في سياق إنساني يتجاوز التجربة الفردية والمكانية، حتى أنني وجدت تشابهات عجيبة في إبداع السجناء في أنحاء العالم، كأنها ناتجة عن قواعد وقوانين سنّتها حالة سلب الحرية وعزل الإنسان مع آخرين لا يعرفهم خلف الجدران

لأسباب تتعلق بتوثيق أيام السجن، طلبت من الشريف نسخة من أشعاره يختارها بنفسه، وسهر عدة ليال ينسخ الكثير من أشعاره في كراسة خاصة، لكنني بكل أسف فقدت هذه الكراسة مع أوراق أخرى مهمة بسبب طريقة خروجي المفاجئة من السجن ليلا بعد إغلاق عيد الأضحى، وما زلت أحاول جمع الكتابات والشهادات التي فقدتها من خلال السجناء المفرج عنهم بعدي. وإذا كان فقدان الأوراق يشبه "الشوك" فإن المهلة التي فرضها الانتظار تشبه "القرنفل"، لأنها منحتني فرصة أطول للتفكير والتأمل بعمق في حالة السجن، ودراستها في حالة أعم من خلال وضعها في سياق إنساني يتجاوز التجربة الفردية والمكانية، حتى أنني وجدت تشابهات عجيبة في إبداع السجناء في أنحاء العالم، كأنها ناتجة عن قواعد وقوانين سنّتها حالة سلب الحرية وعزل الإنسان مع آخرين لا يعرفهم خلف الجدران.

فقد أفادني كثيرا قراءة كتاب "قصائد من جوانتانامو: المعتقلون يعبرون" الذي يتضمن 21 قصيدة معظمها صادرته السلطات، وبعضها حصل عليه المحامي الأمريكي وأستاذ القانون مارك فالكوف، أثناء وكالته عن المعتقلين. وكان الشاعر الباكستاني عبد الرحيم مسلم دوست قد قرأ هذه القصائد أثناء فترة اعتقاله، فأعاد صياغة ما استطاع من ذاكرته بعد إطلاق سراحه في عام 2005، وتم نشر الكتاب عام 2007 في بريطانيا بحضور شاعر نوبل الشهير أندرو موشن، الذي استقال قبلها من منصبه كشاعر للبلاط الملكي، لكي يحصل على حريته وتجنب الحرج والانتقادات الناجمة عن التعارض بين قرنفل الإبداع وأشواك الوظيفة الرسمية.

من أهم التشابهات في أشعار السجناء كما عرفتها من مقارنة العنبرة الشفوية والأشعار المكتوبة بأشعار سجناء مختلفين في أنحاء العالم:

- رغبة السجين في توثيق العالم من حوله.

- بوح نفسي يكشف عن محنة السجن كتجربة معيشة قسرية، الكتابة والإلقاء والاستماع.

- التخفيف من حدة المشاعر الغاضبة والصراعات الداخلية.

سلوك اجتماعي يؤثر على الشاعر نفسه وعلى الآخرين من حوله، ويسهم في صناعة مجتمع له مشتركاته وقضيته، ويدمج الشخصي والسياسي والجنائي في صف واحد باعتبار الجميع من مسلوبي الحرية الذين يكافحون معا للحفاظ على كرامتهم وحياتهم بكل سبل المقاومة الممكنة، بالإضافة على أن الشعر كصوت ومعنى يؤكد على حضور الهوية الفردية برغم السجن:

"أنا محمد شرابية" كما قال السجين المصري في عنبرته.. أو كما قال سجين سياسي بولندي:

"عندما يضعون سكينا على صدرك العاري

ماذا يفيدك حينها أيها الإنسان؟..

الشجاعة".

وفي المقال المقبل نواصل يوميات الاعتقال..

* فلاش ضوء

وددت لو كان المجال يسمح بتفصيل أكثر عن رواية "أشواك القرنفل" ليحيى السنوار، باعتبارها من أهم وأصدق إبداعات السجون، لكن الحديث عن العنوان يقتضي توضيح الرمزية التي تشبه المخلصين للبلاد بزهر القرنفل وتشبه العملاء والمتعاونين مع العدو بالأشواك. والواقع يثبت لنا كل يوم اجتماع الزهر والشوك في ساق واحدة أو في وطن واحد، لكن وجودهما معا لا يفرض على الإنسان أن يكون شوكا أو عطرا، فهذا دائما يقاس باختيار وإرادة الإنسان، وهذا هو الفارق في رواية السنوار بين المناضل الذي حمل راية المقاومة، وبين قريبه الذي اختار التعاون مع العدو.

maher21arabi@gmail.com