سنتمهل قليلا مع فورمكين في كتابه "سلام ما بعده سلام: سقوط الدولة العثمانية واختراع الشرق الأوسط الحديث 1914- 1922"، فقد توقفنا في الأسبوع الماضي مع وصفه لمذكرة كلايتون السرية بـ"الخطأ الجسيم"، وكان تعقيبه عليها: "وليس واضحا كيف كان كلايتون ينوي أن يوفق بين المصالح المتضاربة لهذه المجموعة المتعددة الأهواء".
ويواصل: إن الادعاء بأن سائر الزعماء المتنافسين (أي حاكمي عسير واليمن وكذلك ابن سعود وربما أيضا ابن الرشيد أمير نجد) خلف أمير مكة هو ادعاء كان عبد الله (ابن الحسين، أمير شرق الأردن، وملكها الأول فيما بعد) قد تقدم به نيابة عن والده في محادثاته مع رونالد ستورز قبل ذلك بنحو خمسة شهور.. والأمر الجديد في المذكرة يكمن في الإيحاء بأن سكان الجزيرة العربية يمكنهم أن يؤدوا خدمة لبريطانيا خلال الحرب وليس بعدها.
وقد أرسل كيتشنر رده فورا، فأبرق إلى القاهرة بتاريخ 24 أيلول/ سبتمبر 1914 مُصدرا أوامره إلى ستورز أن يبعث برسول يثق به إلى عبد الله ليطرح عليه سرا سؤالا مفاده: هل ستكون الحجاز مع
بريطانيا أم ضدها في حال نشوب حرب؟ وقبل أن يرسل كيتشنر برقيته أخذ موافقة سير إدوارد جراي عليها، وقد أعجب جراي بمذكرة كلايتون، ووصفها بأنها "هامة جدا".
* * *
رسالة كيتشنر كانت قبل نحو شهر من دخول الدولة العثمانية الحرب، ولكن الرد الذي عاد به مبعوث ستورز (عاد للقاهرة بعد عدة أسابيع) وصل بعد إعلانها دخول الحرب. ولتقريب الأمر لذهن القارئ الآن سنصوغ الأمر على هذا النحو:
الشريف حسين الذي عينته الدولة شريفا (حاكما 1909) لمكة والحجاز يجري اتصالات مع العدو، وهي اتصالات تواصلت طوال الحرب، في ما يعرف في الأدبيات العربية بمراسلات حسين- مكماهون، وهو الذي خلف كيتشنر في القاهرة.
أما إدوارد جراي فهو وزير الدولة للشؤون الخارجية وشؤون الكومنولث (1906- 1916)، وهو المنصب الذي سيتولاه لاحقا تشرشل، وبموجبه ترأس مؤتمر القاهرة (1921)؛ منطلقنا في هذه السلسلة. أما المقولة التي تهمنا، والتي تمثل رأي جراي تجاه الشرق الأوسط الذي كان في طور التفكير والتشكل، وبخاصة تجاه الخليج، فهي كالتالي: "إن سيادة بريطانيا في الخليج يجب أن تكون مؤكدة، وأن تلك السيادة تساوي قوة الأسطول البريطاني وقوة الأسطول تعني قوة بريطانيا". أما تشرشل صاحب الحس الإستراتيجي فكان يرى أن "حكومة صاحبة الجلالة يجب أن تتحسب وهي تتطلع إلى المستقبل.. قبل أن تتحول ينابيع النفط إلى ينابيع سخط".
* * *
عاد، إذا، المبعوث برد الشريف، الذي يصفه فرومكين بأنه "غامض ولكنه مشجع، يهيب بوزير الحربية البريطاني (الذي هو في الواقع في حال حرب مع دولته العليّة) أن يبين ما يدور في ذهنه، عندئذ أبرقت القاهرة (ستورز) إلى كيتشنر تقول: "الرسالة متحفظة ولكنها ودية وإيجابية".
يصف فرومكين ما ختم كيتشنر به رسالته بـ"قنبلة مدوية"، ويقصد الجملة التالية: "قد يحدث أن يتولى عربي أصيل الخلافة في مكة أو المدينة، وبذلك قد ينتج بعون الله الخير من كل هذا الشر الذي يحدث الآن"
رسالة كيتشنر إلى الشريف، التي يجلي فيها كل غموض، تسببت بوضوح تام في إبراز "التناقضات" بين مواقف القاهرة ودلهي، كما سنرى، وسنرى أيضا كيف حل المركز (لندن) تناقضات المركزين (الفرعيين)، وتحديد الاستراتيجية تجاة المنطقة، وقد تعززت بمرور السنوات، وربما ما زالت هي نفسها لكن المتحكم فيها تحول من شرق الأطلسي إلى غربه عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
وهذا نص رسالة كيتشنر إلى عبد الله: "إذا ساعدت الأمة العربية إنكلترا في هذه الحرب التي فرضتها تركيا، ستضمن إنكلترا عدم حدوث تدخل داخل شبه الجزيرة العربية وستقدم كل مساعدة ضد العدوان الخارجي". ويضيف فرومكين: "يبدو أن ستورز وكلايتون قد توسعا في لغة الرسالة بحيث صارت تتضمن تعهدا بتأييد بريطانيا لخلاص العرب"، ثم أعقب ذلك بيان جديد أصبحت بريطانيا بموجبه تتعهد في حال مساعدتها في الحرب ضد الدولة العثمانية بالاعتراف باستقلال ليس فقط شبه جزيرة العرب، بل أيضا كل آسيا الناطقة بالعربية (فلسطين وسوريا وبلاد الرافدين).
ويصف فرومكين ما ختم كيتشنر به رسالته بـ"القنبلة المدوية"، ويقصد الجملة التالية: "قد يحدث أن يتولى عربي أصيل الخلافة في مكة أو المدينة، وبذلك قد ينتج بعون الله الخير من كل هذا الشر الذي يحدث الآن".
في الفقرات التالية يجهد فرومكين نفسه في بحث مسألة "الخلافة" ودلالات الكلمة، وهو جهد يحتاج لبحث مستقل عن سياقنا هذا. ما يعنينا ذكره هنا من كلام فرومكين أمران: الأول، أن "خطة كيتشنر (كانت) تدعو ابن سعود زعيم الطائفة الوهابية الشرسة، إلى الاعتراف بالسلطة الروحية لحاكم مكة السني. وما كان هذا الاعتراف ممكننا من الناحية الواقعية لأن الوهابيين والسنة، شأنهم شأن العشرات من المذاهب المتنافسة التي ينقسم إليها الإسلام، كانوا على خلاف شديد". الثاني، أن الشريف حسين قد استقبل "تعهدات" كيتشنر على أنها تعني اعترافا به كـ"خليفة" عربي، وحاكم لكل آسيا العربية.
وبهذا برز "احتجاج" الهند، الذي أفضى لتوضيح الاستراتيجية!
* * *
يبرز فرومكين احتجاج الهند من خلال ردود فعل كل من: آرثر هيرتزل، سكرتير الدائرة السياسية في وزارة شئون الهند (البريطانية)، واللورد كرو، وزير الدولة لشئون الهند، فهيرتزل الذي لم يطلع على رسائل كيتشنر إلى الشريف حسين حتى 12 كانون الأول/ ديسمبر 1914 - أي بعد صولها إلى مكة - قد أصابه رعب، وسارع إلى توجيه نقد إلى "مراسلات بالغة الخطر" لأن بتلميحها إلى خلافة عربية "تفعل الشيء عينه الذي فهمت هذه الوزارة أن حكومة صاحب الجلالة لن تقدم على فعله". أما اللورد كرو فشدد على أن "كيتشنر يرفض الانتباه إلى أن المكانة الروحية للخليفة الحالي - أي السلطان التركي - لم يمسها سوء، وأن مسلمي الهند، الذين يبجلونه، لن يقبلوا بديلا يحل محله نتيجة تدخل أجنبي، هذا إذا قبلوا بإبداله أصلا".
ثم يورد فرومكين في الفقرة التالية كيف التأم ما كان يبدو تنافرا بين دلهي والقاهرة (المقصود، طبعا، رؤية الموظفين الاستعماريين البريطانيين في الإدارتين الاستعماريتين)، فلدى رؤية هيرتزل تعهد كيتشنر بحماية الاستقلال العربي احتج قائلا إن هذا التعهد "وثيقة تمثل بداية"، وأنه "ضمانة أعطيت كتابة من دون تفويض من حكومة جلالة الملك". وقد دعمت احتجاج هيرتزل مذكرة سبق أن أرسلتها دائرة الشئون الخارجية في حكومة الهند إلى وزارة شئون الهند في لندن بتأييد من حكام عدن وبومباي وأماكن أخرى، وتقول المذكرة: "ما نريده ليس شبه الجزيرة العربية موحدة، بل نريدها مقسمة وضعيفة، ممزقة إلى إمارات صغيرة خاضعة إلى أقصى ما يمكن لسيطرتنا، ولكنها عاجزة عن القيام بعمل منسق ضدنا، وتشكل حاجزا في وجه قوى الغرب".
وينبه فرومكين إلى أن هذه المذكرة دلت على خطأ في فهم (المسئولين البريطانيين في الهند) لنيات البريطانيين في القاهرة، يدل على ذلك ما قاله كلايتون: "يبدو أن الهند (سبقت الإشارة إلى ما تعنيه الكلمة هنا) مسكونة بهاجس الخوف من دولة عربية موحدة وقوية، هذه الدولة لن تظهر إلى الوجود ما لم تبلغ بنا الحماقة حد خلقها".
الملاحظة الأخيرة أن كلا من الشريف حسين وابن سعود كانا في واقع الأمر مدركين تماما أنهما مجرد أدوات، وأن لا وجود لهما إلا بقدر ما يخدمان صانعيهم
نخلص مما تقدم إلى ثلاث ملاحظات: الأولى، متعلقة بالبون الهائل بين المتراسلين، فعلى جانب هناك بنية إدارة ورؤية شاملة تمتلكها الإمبراطورية، وموظفون يحتجون لأنه لم يجر التشاور معهم حول رسالة أرسلها وزير الحرب، وعلى الجانب الآخر إدارة قاصرة لا تشاور أحدا، وتتصرف كما يفعل المتآمرون دائما: تكتم عن أقرب المعاونين المخلصين، وتعلق بأوهام ووعود غير موثقة.
فتجاه احتجاجات الهند أعطى اللورد كرو تفسيرا مفاده أن عدم اجراء مشاورات مسبقة بشأن تعهد كيتشنر سببه "أن التعهد هو مراسلة خاصة من قبل اللورد كيتشنر، وليس مراسلة رسمية من قبل حكومة جلالة الملك". وقد ظل الأمر محل خلاف طوال المراسلات اللاحقة، التي تولاها مكماهون، وقد تعمق عقب مصرع كيتشنر الغامض (5 حزيران/ يونيو 1916)، وهو خلاف يصفه، فرومكين بأنه "لم تطفئه التأكيدات، بل ظل يلتهب طوال الحرب وبعدها".
الملاحظة الثانية متصلة بما تم ذكره من قبل حول أدوار كل من القاهرة ودلهي عبر كل من لورانس وشكسبير، فالأول كان يعمل مع الشريف حسين، والثاني كان يقود خطوات ابن سعود. وكي تظهر المفارقة فإن لورانس بدأ التحرك في ذات التوقيت الذي تحرك فيه شكسبير، تقريبا، وفي هذا تنفيذ بارع لما رسمته رؤية هيرتزل ومذكرته، وتأكيدات كلايتون: إمارات صغيرة خاضعة، ودولة لن تظهر إلى الوجود.
الملاحظة الأخيرة أن كلا من الشريف حسين وابن سعود كانا في واقع الأمر مدركين تماما أنهما مجرد أدوات، وأن لا وجود لهما إلا بقدر ما يخدمان صانعيهم.
وسنرى كيف جرى ذلك.