قضايا وآراء

الليرة التركية.. وهل يتخذ أردوغان القرار؟

1300x600
على مدار السنوات الأربع الماضية وخصوصا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/ يوليو عام 2016 تحركت الليرة التركية بشكل مثير، فبعد ثبوتها على مدى أكثر من عشر سنوات في حدود 2.5 إلى ثلاث ليرات للدولار، بدأت في بدايات عام 2018 التحرك سالبا مقال الدولار وأصبحت 3.3 ليرات ثم انخفضت أكثر وأكثر حتى وصلت إلى سبع ليرات للدولار في بداية عام 2021، وتجاوزت 18 ليرة للدولار، ثم ارتفعت في منتصف الشهر الماضي إلى نحو 12 ليرة للدولار بعد أن أعلن الرئيس عددا من الإجراءات الاقتصادية لدفع الأتراك لعدم المضاربة والاحتفاظ بمدخراتهم بالعملة المحلية وعدم تحويلها إلى الدولار الأمريكي.

ولكن مع نهايات شهر كانون الأول/ ديسمبر بدأت في الانخفاض مرة أخرى ولكن بسرعة أقل، وفي بداية هذا العام انخفضت مرة أخرى إلى 13.5 ليرة للدولار. ولا أحد يدري هل ستثبت الليرة على قيمتها وتنجح القرارات التي أصدرها الرئيس أردوغان والإجراءات الاقتصادية التي بدأ تنفيذها مع منتصف كانون الأول/ ديسمبر، أم أن ثبات الليرة وتحسن قيمتها خلال الأسبوعين الماضيين كان مجرد ردة فعل وأنها ستتراجع مرة أخرى.

منذ منتصف عام 2020 وخلال عام 2021 قام الرئيس أردوغان بإقالة عدد من المسؤولين الماليين الأتراك، وأغلبهم كان يشغل محافظ البنك المركزي ومساعدين للمحافظ، بل إن بعضهم لم يتجاوز وجوده في المنصب أكثر من ثلاثة أشهر ثم تمت إقالته، كما أنه تمت استقالة وزير المالية براءات البيرق في نهاية عام 2020. والسبب الرئيس لهذه الإقالات والاستقالات في القطاع المالي هي قضية سعر الفائدة، حيث أن هؤلاء المسؤولين كانوا يرون ضرورة رفع سعر الفائدة من أجل المساهمة في خفض معدلات التضخم التي وصلت في تركيا إلى ما يزيد عن 21 في المائة خلال العام الماضي، بالإضافة إلى انخفاض قيمة العملة المحلية وهي الليرة، حيث فقدت الليرة أكثر من 52 في المائة في نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي قبل عودتها النسبية مع قرارات أردوغان في 21 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث استردت الليرة بعضا من قوتها ثم ما لبثت أن بدأت في الهبوط مرة أخرى ولكن بنسب أقل.
هذه السياسات هي سياسات مؤقتة، وتكون في الغالب خاضعة للموجات الاقتصادية غير المستقرة للأهواء الشخصية، وقد بدأ بالفعل انخفاض للعملة التركية قبل مرور عشرة أيام على إنفاذ هذه القرارات

والقرارات التي أعلنها الرئيس في نهاية الشهر الماضي وساعدت على تدعيم قيمة الليرة كانت تنصب على جانب واحد، وهو دعم قيمة مدخرات الأتراك بالعملة التركية وتشجيع الأتراك على الاحتفاظ بمدخراتهم بالعملة المحلية وعدم تحويلها إلى الدولار، وذلك من خلال تثبيت سعر الصرف للشركات، وتعويض المدخرين عن ارتفاع أسعار الصرف عند سحب مدخراتهم الدولارية المحولة لليرة، حيث تتم حماية الوديعة بالليرة التركية لمدة 3 أو 6 أو 9 أو 12 شهرا؛ من تقلّبات أسعار الصرف، وحصول المودع على الفائدة المُعلنة، مضافاً إليها الفرق في سعر الدولار بين وقت الإيداع والسحب. كما أنه أكد على سياسته بالنسبة لأسعار الفوائد وتم تخفيضها من 18 في المائة إلى 16 في المائة؛ أملا في أن يحتفظ الأتراك بالليرة وعدم تهافتهم على شراء الدولار مما يؤدى إلى ارتفاع قيمته في مواجهة الليرة.

وهذه السياسات هي سياسات مؤقتة، وتكون في الغالب خاضعة للموجات الاقتصادية غير المستقرة للأهواء الشخصية، وقد بدأ بالفعل انخفاض للعملة التركية قبل مرور عشرة أيام على إنفاذ هذه القرارات.

وكما نعلم جميعا أن مشكلة الليرة وانخفاض قيمتها هي مشكلة متكررة في الكثير من الدول وليست في تركيا وحدها، والتعامل مع هذه المشكلة يحتم علينا النظر إلى الصورة الكاملة. وفي تقديري أن النشاط الاقتصادي في أي مجتمع أو دولة مرتبط بثلاثة جوانب أساسية وعدد آخر مكمل لها، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه المثلث الاقتصادي؛ الضلع الأول منه هو ما يتعلق بالعملة، والثاني هو الاستثمار والتوظيف، والضلع الأخير هو حق الدولة والمجتمع.
مشكلة الليرة وانخفاض قيمتها هي مشكلة متكررة في الكثير من الدول وليست في تركيا وحدها، والتعامل مع هذه المشكلة يحتم علينا النظر إلى الصورة الكاملة

وأهمية العملة أنها وسيلة التبادل في ظل أسواق متشابكة ومعقدة، وقديما لم تكن هناك حاجة للعملة وكان التبادل مباشرا بين السلع والخدمات، ولم تكن الأسواق بهذا الشكل المعقد الذي نراه الآن. وأهم عنصر في هذا الضلع هو قيمة العملة وثباتها ولضمان الثبات والقيمة تجب العودة للعملة الفضية أو الذهبية، أو ما يطلق عليه بالغطاء الذهبي أو الفضي للعملة الورقية، وهذا ما كان سائدا حتى اتفاقية بريتون وودز 1944 مع نهايات الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت الدولار هو غطاء العملات النقدية، وتم التخلي عن هذا النظام في بداية السبعينات من القرن الماضي مع انهيار الدولار. بالطبع هناك تفاصيل أكثر لهذا الجانب وكيفية التطبيق، ولكن الأساس فيها هو القرار.

الضلع الثاني هو التوظيف والاستثمار للموارد، بمعنى أن المجتمع دائما ما يكون في حاجة إلى توظيف كافة الموارد المتاحة له سواء كانت بشرية أو مادية أو نقدية، ولضمان ذلك يجب أن تكون الفائدة صفرا، أي لا تكون هناك فائدة على الودائع والمدخرات، وبالتالي سوف يسعى كل إنسان إلى توظيف الموارد المتاحة له، سواء كانت موارد طبيعية ويعمل على تصنيعها، أو موارد بشرية كجهده ووقته فسوف يوظفها في العمل، أو موارد مالية فسوف يوظفها في تمويل مشروعات تعود بالفائدة عليه وعلى المجتمع كله.

وقد تحدث الكثير من الاقتصاديين أمثال كينز وغيره؛ عن أن التوظيف الكامل للموارد يحتم علينا أن تنخفض الفائدة إلى الصفر. وقبل كينز وغيره ومنذ أكثر من 1400 عام قال الله تعالى: "يمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ". وقال عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ". فالفائدة 16 في المائة أو 14 في المائة أو حتى 1 في المائة هي ربا، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نذرها ولا تكون جزءا من حياتنا الاقتصادية أو غيرها. كما توجد نقطة أخرى في جانب الموارد، وهي مرتبطة بالمقولة الاقتصادية الشهيرة أن الموارد محدودة والاحتياجات غير محدودة، وهذا عكس الحقيقة لأن نعم الله لا تحصى، ولكن تلك المقولة تؤدي إلى الصراع على الموارد التي يكتشفها الإنسان.
ما يحدث مع الليرة التركية حدث ويحدث وسوف يحدث مع عملات لدول كثيرة، لذلك يجب أن ننظر إلى الصورة الكاملة للمشهد الاقتصادي، وهذا يتطلب أن نتعامل مع المشكلة بكافة جوانبها، وليس مع قضية قيمة العملة اليوم وغدا مع التضخم والأسبوع القادم مع الركود أو البطالة أو انخفاض مستوى المعيشة والفقر، وغير ذلك من مشكلات اقتصادية

أما الضلع الثالث في المثلث فهو دور الدولة وحق المجتمع؛ لأنه مع تطور الحياة على كوكب الأرض وتعقدها فإننا نجد أن دور الدولة يزداد ويكبر ويجعلها تتدخل في الكثير من جوانب الحياة، وهذا ليس مطلوبا على الإطلاق، لأنه في بعض الحالات نجد أن التدخل هذا يصل إلى الطغيان والاستبداد وفرض ما تراه الدولة، كما قال فرعون: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ". ولكي تقوم الدولة بواجباتها تجاه مواطنيها فإنها تقوم بفرض الضرائب والرسوم على الأنشطة المختلفة، مثل الضرائب على المبيعات أو الضرائب على الدخل وضرائب القيمة المضافة والعقارية وغيرها من رسوم تمثل دخل الدولة. وبالطبع هناك بعض الدول تتدخل في الأنشطة المختلفة من صناعة وغيرها، فتقيم المصانع وغير ذلك من مجالات اقتصادية. وهذا التدخل غير مطلوب بل مرفوض، لأنه يساعد على أن تقوم الدولة بأدوار ليست من مهامها ولا يجب أن تقوم بها.

إن ما يحدث مع الليرة التركية حدث ويحدث وسوف يحدث مع عملات لدول كثيرة، لذلك يجب أن ننظر إلى الصورة الكاملة للمشهد الاقتصادي، وهذا يتطلب أن نتعامل مع المشكلة بكافة جوانبها، وليس مع قضية قيمة العملة اليوم وغدا مع التضخم والأسبوع القادم مع الركود أو البطالة أو انخفاض مستوى المعيشة والفقر، وغير ذلك من مشكلات اقتصادية. وهذا كما ذكرت يحتاج إلى تفصيلات عديدة؛ كما في حالة العملة والعمل على توفير غطاء لها من أجل تثبيتها وكيفية التغلب على مشكلة عدم وجود الاحتياطي الكافي من المعدن الثمين الذي يمكن استخدامه في هذا المجال، ونفس الحال في قضية التوظيف والاستثمار وفي المجالات المختلفة الأخرى، ولكن ذلك في البداية يحتاج إلى الشخص القادر على اتخاذ القرار.
يمكن أن يكون الشخص الذي يستطيع أن يأخذ القرار المناسب تجاه هذه المشكلة التي تعيشها تركيا ودول مختلفة من العالم، وبالتالي يستطيع أن يقدم النموذج الذي يمكن أن تقتدي به الكثير من دول العالم

وفي تقديري ومن خلال متابعة لشخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والممارسات التي قام بها منذ تم انتخابه رئيسا لبلدية إسطنبول في منتصف التسعينات من القرن الماضي، ثم تأسيسه لحزب العدالة والتنمية ورئاسة الوزراء وأخيرا كرئيس للجمهورية التركية، فإنه كما ذكرت في تقديري يمكن أن يكون الشخص الذي يستطيع أن يأخذ القرار المناسب تجاه هذه المشكلة التي تعيشها تركيا ودول مختلفة من العالم، وبالتالي يستطيع أن يقدم النموذج الذي يمكن أن تقتدي به الكثير من دول العالم، وأن تطبق وتتعامل مع المجال الاقتصادي من خلال أضلاع المثلث الثلاثة، ولا تهتم وتنشغل بجزء من الصورة أو ضلع واحد من المثلث.

وختاما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ المسلمين والبشر كافة في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا ويوفقهم لما فيه الخير والصلاح. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.