كيف اكتسبت قضية فلسطين عمقها العربي والدولي والروحي؟

الكتاب: مسألة فلسطين، الكتاب السابع: من حرب إلى عشية حرب (1967 ـ 1973)، 
المؤلف: هنري لورنس
ترجمة بشير السباعي.
الناشر: المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012.

نحن أمام كتاب موسوعي، هو السابع ضمن سبعة أجزاء للمؤرخ الفرنسي المرموق، هنري لورنس، وجاءت جميعها تحت عنوان "المسألة الفلسطينية"، وقد غطى الكتاب الأخير الفترة ما بين حربي 1967 و1973، في انتظار مراجعة كتبه الثلاثة التالية، التي غطت ما بين حرب 73، إلى اندلاع "انتفاضة الأقصى" خريف العام 2000. 

وقد سهَّل قراءة كتب لورنس المترجم المصري المرموق، بشير السباعي (رحمه الله)؛ بجزالة أسلوبه، حتى بدت تلك الكتب، وكأنها كُتبت، أصلا، بالعربية، وهي التي بدأت منذ 1798، حين غزت فرنسا مصر؛ لتكشف كتب لورنس هذه مجتمعه جذور المشروع الصهيوني الاستعماري، الاجتثاثي، الإحلالي، في ارتباطه الوثيق بصعود الإمبريالية الغربية.

في الكتاب الذي بين أيدينا، تم الانتقال من الهجوم الإسرائيلي، في حرب 1967، على كل من مصر، وسوريا، والأردن، وما جرى على الجبهة الدبلوماسية، فالهزيمة العربية المدوِّية، التي اعتبرها السوفييت مجرد "إخفاقة"، بينما دأبنا على تخفيفها باسم "النكسة". وفي السياق نفسه، جرى الحديث عند دولنا العربية عن "إزالة آثار العدوان"، وكأن العدوان الإسرائيلي قد انسحب، ولم تبق إلا آثاره. وهذا كله مع نتائجه، وتبعاته!

في الفصل الثاني، تناول المؤلف "قمة الخرطوم العربية" (أغسطس/ آب 1967)، إلى تعملُق المقاومة الفلسطينية، غداة هزيمة الجيوش النظامية العربية، و"دويخة" قرار مجلس الأمن الدولي 242.

أما الفصل الثالث، فتصدى لمهمة الوسيط الدولي، السفير غونار يارنغ، كما ألقى الفصل حزمة من الأضواء على "معركة الكرامة" (21/3/1968)، التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، وساندها الجيش الأردني، على غير رغبة حكومته؛ ما فاجأ القوات الإسرائيلية المهاجمة، وألحق بها خسائر بشرية، ومادية فادحة، نسبيا. دون أن يهمل المؤلف الأنشطة السياسية، والدبلوماسية، العربية والدولية، في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حينذاك.

لعل أهم ما في الفصل الرابع، مشروع دولة فلسطين الديمقراطية. ومن عجب أن يكون هذا المشروع قد نُشر ـ أول ما نُشر ـ في باريس، مطلع العام 1969، بينما تلاه، بعد أسابيع، نبيل شعث، بصياغة الكاتب السياسي المصري المعروف، المرحوم مصطفى الحسيني. ومع هذا، فإن المؤلف حوَّم في ميدان آخر!

مات رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليفي أشكول، فجأة، وفي 7/3/1969 خلفته غولدامائير، ودوليا، بدأت المحادثات الرباعية، أما إقليميا، فإن مصر بدأت حرب الاستنزاف؛ فأسرعت واشنطن إلى تقديم "مشروع روجرز الأول"، لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتأمت القمة العربية في الرباط، وقد تولى الفصل الخامس تضفير هذا كله.

بينما رصد الفصل السادس ملابسات رفض المشروع الأمريكي، والتصعيد العسكري الإسرائيلي، ثم المواجهة العسكرية الإسرائيلية ـ السوفييتية، في الأسابيع الأولى من العام 1970؛ لتسارع واشنطن بـ"مشروع روجرز الثاني"، الذي وافق عليه عبد الناصر، فأدانته النسبة الأكبر من فصائل المقاومة الفلسطينية، في الوقت الذي كان عبد الناصر في أمسِّ الحاجة لوقف قصير لإطلاق النار، يتيح للقوات المصرية بناء حائط الصواريخ (أرض ـ جو)، على جبهة قناة السويس؛ فضرب الملك حسين الحديد ساخنا، وانتزع من عبد الناصر موافقة على "ضبط الأوضاع" في الأردن، وإن ذهب الملك بعيدا، فكانت صدامات أيلول / سبتمبر 1970،  هنا اعترضه عبد الناصر، الذي سرعان ما ذهب ضحية هذه المذبحة، بنوبة قلبية (28/9/1970).

بذا، بدأت صفحة جديدة في سِفر القضية الفلسطينية، بعد تلك الصدامات، وغياب عبد الناصر، وفشل الانقلاب اليساري في السودان، بفضل إسهام كل من القذافي، والسادات في هذا الإفشال؛ وانتهى الأمر بخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، بعد مذابح جرش ـ عجلون (تموز / يوليو 1971) إلى سوريا، ومنها إلى لبنان. بينما كان السادات نظَّم انقلابه على اليسار الناصري (أيار / مايو 1971)، ورأى الملك حسين التربة مخصَّبة لطرح مشروع "المملكة العربية المتحدة"، من شرقي الأردن وما ستتركه إسرائيل من فلسطين. الأمر الذي أجمله الفصل السابع، تحت عنوان "اللا حرب واللا سلم".

هنا، انفتح باب التطرُّف، فكانت حادثة اختطاف الرياضيين الإسرائيليين، في ميونخ، والرد الإسرائيلي، بقتل من زعمت إسرائيل بأنهم وراء تلك الحادثة (كمال عدوان، محمد يوسف النجار، إضافة إلى كمال ناصر). كما شنَّت إسرائيل حملة مظاريف مُفخَّخة ، إلى كوادر فتحاوية، في أوروبا، والجزائر (وائل عادل زعيتر، ومحمود  الهمشري). لكن انفجار الوضع الشعبي في مصر (الحركة الطلابية، مطلع 1972)، احتجاجا على عدم وفاء السادات بوعده جعل 1971 "عام الحسم"، اضطر السادات لخوض "حرب تحريك"، بذل فيها الجيش المصري، وقيادته، كل آيات البراعة والبسالة.

***

نجح هذا الكتاب ـ شأن الأجزاء السبعة ـ في تضفير تطورات القضية الفلسطينية، وكل ما يتعلق بها، إقليميا ودوليا، معتمدا على مراجع من الدرجىة الأولى، ومن الاتجاهات الثلاثة: الصهيونية، والعربية، والغربية (الفرنسية، والإنجليزية)، المتوازنة، ناهيك عن جملة كبيرة من الوثائق غير المنشورة.

على أن الأمر لم يسلم من بعض الهنَّات الهيِّنات:
 
فأولا، ثمة "رمي اليهود في البحر" (ص202)، الأمر الذي لم يحدث من أحد، وحين يتهمون أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري، بهذه الفرية، فالأمر مردود عليه؛ إذ كل ما قاله الشقيري في هذا الصدد: "من البحر أتوا، وعبر البحر يعودون".

ثانيا، جاء تشكيل أحمد جبريل " الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة"، في تشرين الأول / أكتوبر 1968، وليس نيسان / أبريل من السنة نفسها (ص205).

أما السبب، فلم يكن اتهام جبريل قيادة "الجبهة الشعبية" باتباع نهج قريب من نهج "فتح" (الصفحة نفسها)، بل لأن الطرف الثاني في "الشعبية"، المتمثل في "القوميين العرب" قد عقد مؤتمرا حركيا، تحت لافتة "الجبهة الشعبية" (آب / أغسطس 1968)، متجاهلا الشريك ("جبهة التحرير الفلسطينية"، بقيادة أحمد جبريل).

ثالثا، لا يعود تجزُّؤ المقاومة الفلسطينية إلى الخيارات الإيديولوجية المتباينة، والتنافسات على السلطة، وإعادة إنتاج الانقسامات الموجوة في العالم العربي، في داخل الساحة الفلسطينية، كما يدعي المؤلف (206). بل يعود ذلك التجزؤ إلى الميول البرجوازية الصغيرة، والطابع الفلاحي، أساسا؛ دون نفي أن النظام السياسي العربي غدا المحدِّد الرئيسي لملامح القيادة الفلسطينية. 

حين أصرَّت أنظمة الخليج على معاقبة عرفات، على تأييده صدام حسين، في حرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991)، وبدأت تلك الأنظمة حملتها للإطاحة بعرفات، فإنه عقد "اتفاق أوسلو"، ليدلف إلى فلسطين، متجنبا سيف النظام العربي. وغدا العامل الأمريكي ـ الإسرائيلي المحدِّد الأول لملامح القيادة الفلسطينية؛ وحين تضايق الأعداء من سلوك عرفات، تخلَّصوا منه، على النحو المعروف.

لذا، جاء الشقيري في الحقبة الناصرية، وعرفات في الحقبة السعودية، وحين أصرَّت أنظمة الخليج على معاقبة عرفات، على تأييده صدام حسين، في حرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991)، وبدأت تلك الأنظمة حملتها للإطاحة بعرفات، فإنه عقد "اتفاق أوسلو"، ليدلف إلى فلسطين، متجنبا سيف النظام العربي. وغدا العامل الأمريكي ـ الإسرائيلي المحدِّد الأول لملامح القيادة الفلسطينية؛ وحين تضايق الأعداء من سلوك عرفات، تخلَّصوا منه، على النحو المعروف.

رابعا، لم يكن وديع حداد عميلا لـ كي. جي. بي. السوفياتية، وهو الذي عُرف بنفوره من الماركسية، ومناصبة معتنقيها العداء (ص207).

خامسا، وقفت ثلاثة فصائل فدائية فلسطينية إلى جانب موقف عبد الناصر، في قبوله "مبادرة روجرز الثانية" (23/7/1970). وهذه الفصائل هي: "الأنصار" الماركسية، و"منظمة فلسطين العربية" الناصرية، و"الهيئة العاملة لتحرير فلسطين" الوطنية بمسحة قومية (ص310).

غياب السادات عن مؤتمر الاتحاد الاشتراكي (23/7/1970)، فلم يكن لرفضه "مبادرة روجرز" (ص314)؛ بل لأن عبد الناصر كان قد صرفه من وظيفته، كنائب لرئيس الجمهورية، حين عودة الرئيس من موسكو (حزيران / يونيه 1970)، وعلمه باستحواذ السادات على فيلا اللواء الموجي، عنوة!

سادسا، لم يكف غضب عبد الناصر إغلاق إذاعة "صوت الثورة الفلسطينية"، ردا على إدانة معظم المقاومة الفلسطينية لقبوله "مبادرة روجرز الثانية" (ص319)، بل ألحقها بترحيل عشرات أعضاء الجبهتين: "الشعبية"، و"الديمقراطية" من مصر.

سابعا، وظَّف الملك حسين غضب عبد الناصر هنا ـ ضمن عوامل أخرى ـ في تنظيم الأول صدامات أيلول/ سبتمبر 1970؛ فقد التقى الملك بالرئيس المصري، في الإسكندرية، واشتكى الأول مما اعتبره "تجاوزات الفدائيين الفلسطينيية في بلاده"، ما جعل عبد الناصر يوافق على وضع الملك حدّا لهذه التجاوزات، لكن الأخير أخذ كلام عبد الناصر إلى أبعد منه بمراحل، فكانت الصدامات المومأ إليها (ص323).

ثامنا، أما غياب السادات عن مؤتمر الاتحاد الاشتراكي (23/7/1970)، فلم يكن لرفضه "مبادرة روجرز" (ص314)؛ بل لأن عبد الناصر كان قد صرفه من وظيفته، كنائب لرئيس الجمهورية، حين عودة الرئيس من موسكو (حزيران/ يونيه 1970)، وعلمه باستحواذ السادات على فيلا اللواء الموجي، عنوة!

تاسعا، نأت إلى استقالة علي صبري، وتحديد إقامته في منزله، ومحاصرته بقوات الشرطة، المؤتمِرة بأمر حليف صبري، شعراوي جمعة، وزير الداخلية، فإن الأخير لم يسمح لصبري باستقبال معارضي السادات ، كما يذكر المؤلف (ص 371).

وبعد، فيُحمد للمشروع القومي للترجمة، في مصر، إقدامه على نشر هذا العمل الشامخ، الذي كان أولى أن يُنجزه عربي، فلسطيني أو غير فلسطيني، لكن لورنس أكد هنا بأن فلسطين ليست قضية تحرر وطني، ذات عمق عربي، وبُعد روحي فحسب، بل، أيضا، ذات أُفق دولي، لذا، استحقت تعاطف كل قوى الحرية والسلام في العالم.