أصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي تمتلئ
بصورنا، بجميع أشكال التقاطها، لاسيما السيلفي، أبرزها تطبيق إنستغرام.. حيث لا
يمكث شخص في مكانٍ ما إلّا ويريد أن يلتقط صورة لأرشفة وجوده في هذا المكان،
خاصةً إن كان ذلك المكان ينتمي بشكلٍ أو بآخر إلى طبقةٍ حداثية، مثل التوكيلات
العالمية (BRANDS)
لِلمطاعم، الكافيهات، الملابس وغير ذلك. بل وباتت الصورة مُتلازمة وبشكلٍ ضروري
لأرشفة المناسبات الشخصية والعائليّة. ولعِبت تحولات الأنا والذات الإنسانية،
والتحولات الثقافيّة والاجتماعية دورا كبيرا في الهوس بالصور، بل وبطريقة التقاطها.
فما وراء ذلك الهوس بالصورة؟
الأنا التائهة
بعد أن كانت الذات الإنسانية، مستمرة
في البحث عن احتياجاتها العاطفية الفردانية والاجتماعية، بل وكانت تتنقل من مكانٍ
لمكانٍ بحثا عن بيئةٍ نفسية واجتماعية تنتمي معها وترتاح في الاندماج معها، باتت
الآن وبفضل التحول الرقمي المُصاحب لنا دائما، وبالأخص من خلال شاشات الهاتف الذكي smartphone تجد نفسها في التقاط صورة سيلفي للوجه الإنساني، تلك الصورة التي تُلتقط، ليست
بالضرورة تعبر بشكل حقيقي عن الذات الإنسانيّة الداخلية للإنسان، لكنها تُعطي
للمُلتقط مساحة ما لتسويق ذاته عبر نشرها إلى الفضاء العام.
عندما يلتقط شخص ما السيلفي لنفسه ويتم
تسويقه بشكلٍ ناجح، أي ينشره ويأتي بعددٍ لا بأس به من التفاعل بالحب على صورته،
أي ذاته الإنسانيّة المُسوّقة، هذا يجعل من السيلفي وبوصف إلزا غودار أيقونة، أو
ممارسة تألّهية، يعبدها المُلتقط بشكلٍ دوريّ ومستمر، بل ويحاول مُجتهدا أن تكون
كل التقاطة أفضل من ذي قبل، حتى ينال رضا من يتواجدون في الفضاء الذي يُنشر/يُباع
فيه هذا السيلفي بعدد من التفاعلات. وهكذا يستمر الأمر، ويتطلع الإنسان/المستهلك
للسيلفي إلى المكانة، لأنه افتقد إلى الحب ويسعى دائما إلى البحث عنه، لا في
الذوات الفردية الصديقة له، بل عن طريق جمع أكثر عددا من التفاعلات، حتى يصبح
السليفي عادة يوميّة يفقد الإنسان مكانته حتى يقوم بها، وتنال رضا الجمهور [1]،
فإن لم تنل الرضا، فمن الضروري محو تلك الصورة حتى لا تُفقدنا ما اكتسبناه من قيمة
في الصور التي قد عرضناها من قبل، مثل الماركة التجارية التي تعرض منتجا لها،
وتتفاجئ بعد عرضه من عدم إقبال المُستهلكين عليه، فتبدأ في إعادة النظر في
تركيبته، هل كانت مُعيبة أو قبيحة، وتلغيها من السوق حتى لا تضر بسمعتها في سوق
المُستهلكين.
الهُوية التائهة
علاقتنا التائهة بذواتنا، سرعان ما
تنعكس على علاقتنا بالآخرين، فنخرج من دائرة السيلفي إلى اختياراتنا الشخصية في
كافة أمور حياتنا، ونبدأ رويدا رويدا، في اختيار ما نريده حسب ذوق الجمهور المُحيط
بنا، لا حسب ما نُحب، وهذا ما نُخفيه دائما، ولا نستطيع حتى مواجهة أنفسنا به.
وهذا لأن اختياراتنا أصبحت بشكلٍ دائم تحت تقييم الجمهور. الآن في عصر السعي نحو
نيل الرضا، عند اختيار شخص ما للارتباط به، ويكون شريكا ومحبوبا لنا، يفكر الشخص
-بشكل خفي- بينه وبينه نفسه، هل عندما أُعلن على التواصل الاجتماعي الافتراضي عن
الشخص الذي ارتبطت به، هل سيكون شخصا على قدر الاهتمام والتشريف في أعين الناس، هل
ارتباطي بهذا الشخص سيزيد من رفع مكانتي وسطهم. وعن معايير الشريك تقول إيفا إيلوز
واصفةً الذات المُحبة أنها "اُحتويت وحُميت بالحضور الكثيف للآخرين، الذين
يتصرفون كحكّام ومنفذين للمعايير الأخلاقية والاجتماعية"، وقيس هذا على
اختيارات وتحصيلاتٍ أُخرى، مثل نيل الوظائف الجديدة، اكتساب شهاداتٍ أكاديمية،
شراء أشياء خاصة بنا، يجب قبل الإعلان عنها التأكد من أنها ستُبهر الجمهور،
وبالتالي تخفف من قلق وجودها [2].
وسط كل هذا، تصبح الهوية التائهة،
الهُوية التي من المفترض أن تصاحب الإنسان في كل شتّى تَحركاته اليومية
والاختيارية، بمعنى أن هُويته يجب أن تعبر عن ملابسه، طعامه، الأماكن التي يُسيح
فيها، الفتاة التي يُحبها، مكان إقامة حفل الزفاف، وطقوس الحفل ذاته. كل هذا يتبخر
ويصبح فارغا طالما الهُوية تائهة وارتبطت بتناقضات الأنا وتيه بوصلة العلاقات
بالآخرين. فيصبح الإنسان بين اختياراتٍ وتحركاتٍ وممارساتٍ هو مُجبرٌ عليها، لأن
السيلفي الصباحي مع كوب القهوة، أصبح مرتبطا بوجوده في ستاربكس STARBUCKS وكوستا COSTA،
لكن كوب قهوة في مكانٍ لا يعرفه أحد، سيقلل من اهتمام الناس بصورته المُعلنة لهم،
لأن جزء من اهتماماتهم ليس مرتبطة بذاته وحده، بل مرتبطة بممارسات يجب عليك
تنفيذها.
يُشبع الإنسان بالصورة وبالأخص السيلفي
-إيروسيّته- أي رغبته في الإحساس بجماله، بعد النظر إليها وقبل حتى نشرها للفضاء
العام، تملئ الفتيات تطبيقات الصور والصور المتحركة والفيديوهات القصيرة، مثل
انستغرام، وسناب شات، وتيك توك، بصورهُنّ، بما أنّهن يمتلكن الجمال الأنثوي الذي
يهلس حوله المتابعون إما بالتقليد بالنسبة للفتيات أو الثناء بالنسبة للرجال،
الجماليّة المتمثلة في وجهٍ جذاب بما يملكه من بشرة وعينين وشفتاه، وجسد مثالي
فاتن. وهذا ما يشكل نمطا أكثر صعوبة من حيث التعايش بالنسبة للنساء مقارنة
بالرجال، فالجمال الخلقي والجَاذبية الأنثوية تكون أكثر وجودا وتفاعلا وهوسا.
تأتي التعليقات من المتابعين إما
بالسلب على معياريّة الجمال الأنثوي، أو بالإيجاب، والملاحظ في الثانية، أن
المتابعين يبثون حالةً من الهوس بأجساد النساء على تلك التطبيقات، تصل إلى حد
عبادة هذا الجسد المثالي -حد وصفهم بالتعليقات-، الذين وجدوا فيه -الجسد- حالة
إيروسية يتمنّوها على المستوى العاطفي والجنسي. هذا طبعا لا ينفي أن الجمال هنا
يخرج من المعيارية الشخصية، ليدخل إلى الفضاء التقيميّ لسوق العمل، دائما ما تبحث
شركات المنتجات المختلفة بكافة طبقاتها المحلية والإقليمية والعالمية عن فتياتٍ
تسوّق لهنّ ما يبيعوه.
هذا التيه المتمثل في الذات والهُوية
والثقافة، يجب وكما تقول الاجتماعيّة إلزا غودار التعمق في التفكر والتأمل به،
لرصد الأعراض الحقيقة وتوفير الحلول بشأنه، هذا مخرج لا بد منه، المخرج ليس في
مقاطعة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فالمقاطعة ليست بحلٍ قاطع، ربما تلك
المقاطعة تسبب إشكالياتٍ أخرى. مؤخرا أتاح تطبيق فيس بوك خاصية منع رؤية الآخرين
عدد التفاعلات على المنشورات، فلا أحد يستطيع رؤية كمية التفاعل لديك سوى أنت.
وتلك هي خطوة علاجية مُهمة وقابلة للتنفيذ، فإن كان الشخص ممن يأتي بعدد تفاعلات
كبير، فإن فَعّل الخاصية، يصبح بذلك غير مُجبر على المواكبة والنشر بشكلٍ دائم
لنيل الرضا عن نفسه من الآخرين، وعلى العكس إن كان شخص لا يحب أن ينشر صورا له،
بداعي أنّها لا تنال الرضا ولا تجلب تفاعلات كثيرة، فيمكنه النشر ولن يتمكن أحد
تقييمه أو إعطائه الرضا، وهذه هي محاولة ضِمن محاولات للسعي للتخلص من هذا التيه.
الهوامش
1- آلان دو بوتون، قلق السعي إلى
المكانة، ترجمة محمد عبد النبي، دار التنوير، ط1 القاهرة 2019، ص 11
2- إيفا إيلوز، لماذا يجرح الحب، ترجمة
خالد حافظي، دار صفحة سبعة، ط1 السعودية 2020، ص 59.