صدرت رواية "الاشتياق إلى الجارة" الرواية لأوّل مرة عام 2020 عن دار الآداب اللبنانية وهي تقع في مائتين وست صفحات، ودخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2021.
وحين أعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا بالدوحة عن الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها السابعة، تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، لم يكن فوزها بإحدى الجوائز مفاجئا.
رواية "الاشتياق إلى الجارة" استندت إلى بطولة شخصيات فجرت إشكالات الهوية والآخر والحنين إلى الوطن.
استغل السالمي، باريس حيث يقيم، لتدور فيها الأحداث وتتطور بنسق اختاره بطيئا، مثيراً تساؤلات، ومنقبا عما يجري. أليست مهمة الكاتب "أن يصغي إلى ما يحدث حوله من حركة الواقع؟ أليست الكتابة استعداد نفسيا تلتقي فيه الثقافة والخبرة والمعرفة ثم يأتي الخيال؟ أليست الرواية هي ما يقع خلف الحكاية"؟
اقرأ أيضا: صدر حديثا.. روايتان للإيطالي المعروف ليوناردو شاشا
كتابات الحبيب السالمي، سلسة، تركب السرد من خلال بساطة لا يعرف تركيبتها سواه، تنساب الحكاية فيها، وتأخذ مجراها، لا تحتاج لمن يوجه مسارها ويحدده. رواية لا فصول فيها عمليا رغم المقاطع الخمسة والعشرين المدونة على الورق. تأسرك أحداثها فتبقيك مشدودا، لا تنفك عنها، يدفعك الفضول لتقصّيها حتى النهاية. "الآن صرت أراها عدّة مرّات في اليوم"، هكذا يستهل الراوي الرواية، معلنا عن زمنها، هذا الحاضر الذي يسكن بين الماضي والمستقبل.
كمال الأستاذ الجامعي، وجد في زهرة المعينة المنزلية ما فقده في سنين غربته الطويلة، تذكّره بحنينه للمرأة العربيّة، للعادات، للغة كاد يضيع حروفها. ورغم أن الفوارق الاجتماعية بينه وبين زهرة كبيرة، يجد نفسه مضطرّا للتساؤل، هل وقع في حبّها؟
هل كان كمال وهو يقتفي أثر زهرة الخمسينية التي ما زالت تنضح أنوثة يلبي نداء نفسه الضائعة وحنينه للوطن الذي هجره؟
هل كان من خلال هذه العلاقة المستحيلة بينه وبين البطلة المتزوجة والمنكوبة بزوج عانته طويلا وابن معاق، يعيد تجسير علاقته بوطنه؟
كيف يندمج المهاجرون الذين يسكنون الضواحي، حيث يكثر الغرباء؟ "يؤثرون الإقامة في بلدات الضواحي، مما يخفف من إحساسهم بالغربة والعنصرية، وحيث تتكاثر محلاّت اللّحم الحلال والمواد الغذائية والخضار". آثروا تجنب أحياء الفرنسيين الذين لم "يهضموا" الآخر بثقافته المختلفة.
الاندماج تضمن الزواج المختلط، فهذا الأستاذ الجامعي التونسي زوج بريجيت يبرز من خلال تناوله الحلويات، تباين وجهات نظر تعكس استعلاء فرنسيا حيث فرضت عليه زوجته نمط عيش، وحرمته من حق الاختلاف:
"لم أكن أتردد على هذه المحلات والمخابز، لا لأنّني أعتقد أنّ بعض العرب يغشون في الأسعار فحسب، وإنّما أيضا لأنّ بريجيت ترى أنّها غير نظيفة كما ينبغي، وتفتقر إلى شروط الصحة. ومع ذلك، أشتري منها أحيانا بعض الحلويّات الشرقية. وبالطبع لا آكلها في البيت وإنّما في الشارع، خوفا من انتقادات بريجيت".
بحث عن الحنين بين الوجع والأنين، تنازل عن أبّهته وكبريائه حين التقى بالبطلة / الخادمة. هل كان وهو يتبعها منكسرا أم كان يبحث جاهدا عن فتافيت روح تهشمت في غربة قاتمة، وطحنها حنينه للوطن الذي هجره؟
اقرأ أيضا: صدر حديثا.. "قصر الطيور الحزينة" للروائي الكردي بختيار علي
"ها أنا أغرق. وكل يوم، أزداد غرقاً. وما يُثير في الرُعب أني أكتشف أن لحظة واحدة تكفي كي تتهدم كُل الجدران التي شيدتها لأحتمي بها وأتحصن بداخلها ".
ويضيف في مقطع آخر: "الحُب لا يُفسر، وخاصة إذا كان المحبوب شخصاً لا تربطنا به علاقة عميقة. لا أحد يعرف كيف يأتي ولا كيف يذهب".
"أدركت أن ما بيني وبينها تجاوز لعبة الإغواء البريئة، إلى ما هو أقوى، وسرعان ما فهمت أن الإحساس اللذيذ الذي بدأ يتسرب إلى نفسي من فترة، هو الحب".
برع السالمي في حبك التفاصيل الدقيقة في السرد والوصف، ولم تلهه الشخصيتان الرئيسيتان في إضافة شخصية ثالثة هي العمارة التي احتضنت "لعبة الغواية" التي تمارسها زهرة، كما برع في تصوير العمارة حيث امتزج الوصف المكثف، بالتعابير الدقيقة بما يتخمر في نفوس الشخصيات، مما جعل القارئ يتورط داخل التقلّبات النفسية التي يعيشها أبطال الرواية، وما بينهم من روابط، يعيشها بكل جوارحه. ألم يعلق الروائي عبد الواحد براهم بعد مطالعة الرواية: "وجدتها تغوص برقّة وشفافية في الأحاسيس الإنسانية المخفيّة".
هل تصالح الجامعي مع وطنه بعدما عادت زهرة إلى تونس قبل أن تنصحه: "بريجيت زوجتك امرأة رائعة، أنصحك بأن تظل مخلصا لها، الركض وراء النساء لا يفيدك في شيء، يا أستاذ".
كم كانت قاسية تلك القفلة الأخيرة. وكم هي مدمرة عبارة "أستاذ" وهي تنطلق من شفتي زهرة بل من باطن مخزونها الساخر.
طردته من بيتها بعدما تمادى في التحرش بها، ورغبته في التوغل في تضاريس اللحم الذي ظنه رخيصا وفي المتناول: "احترم نفسك لا يليق بك هذا.. اخرج من بيتي.. اخرج".