الكتاب: "جرائم الجيش الفرنسي في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة 1830- 1850"
الكاتب: عبد العزيز الفيلالي
دار النشر: دار الهدى، عين مليلة- الجزائر
عدد الصفحات: 169
أحمد القاسمي
1 ـ وجع الذاكرة في العلاقات الجزائرية-الفرنسية والجرح الحيّ
تطفو على سطح الأحداث السياسية بين الحين والحين أزمة جزائرية فرنسية وتشنج يجتهد المحلّلون في ردّهما إلى هذا السبب الطارئ أو ذاك. وآخر هذه التوترات استدعاء الجزائر في باريس لسفيرها للتشاور مؤخرا وغلق مجالها الجوّي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية أثر تصريحات لماكرون اُعتبرت عدائية تلتها تصريحات أخرى أكثر تهوّرا تقول بأن فرنسا لم تجد دولة قائمة سنة 1830 لمّا دخلت الجزائر، في تبرير ضمني لفعل الاحتلال.
لا شكّ أنّ للأسباب المباشرة دورها. ولكنها لا تعدو أن تكون قطرة تفيض كأسا أو قشة تقسم ظهر البعير. فهذا التشنّج المستمر يعود كلّه إلى السبب العميق نفسه: جرح الذاكرة الذي يرفض أن يندمل ما لم يقم الطرفان بما يجب. وما يجب عديدٌ يتطلّب الكثير مما يبدو الساسة في الضفتين غير قادرين عليه اليوم... يذكّر الباحث بمفارقة غريبة دالة، تذهب في هذا الاتّجاه.
فقد ظلّت الحكومات الجزائرية المختلفة تتلكأ في طلب الاعتذار من فرنسا لاحتلالها البلد وظلّ المشروع حبيس أدراج البرلمان (وهو ما حدث في تونس ما بعد الثورة أيضا) فيما وجدت فرنسا من "الجرأة" ما جعلها تصدر قانونا يمجّد تاريخها الاستعماري وينوّه بـ"ـآثاره الإيجابية على الشعوب المستعمرة".ولكن يقدّر عبد العزيز الفيلالي أن سياسة الهروب إلى الأمام لن يبرئ ساحتها، ولن يحلّ الإشكال. فجرائم الاستعمار تظل أبشع الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.
يذكّر الكتاب ببعض ما اقترفه الجيش الفرنسي في سنوات الاستعمار الأولى في حقّ الجزائريين. فلا يكتفي بسرد الوقائع التاريخية أو عرض أسبابه وتفاصيله، بل يعمل على تصنيفه، وفق تشريعات القانون الدولي اليوم، باعتباره جرائم حرب واعتداءات فظيعة على الإنسانيّة.
2 ـ تربّص فرنسي وسقوط مفجع للجزائر
كانت العلاقات بين دولة الجزائر والدولة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الطبيعية، أو تبدو كذلك على الأقل. ففرنسا تعوّل على السوق الجزائرية للتزود بالمواد الغذائية، وكثيرا تؤجّل الدفع فتتراكم ديونها لصالح حكم الدايات. وعام 1797، أي أثناء الثورة، التمست منها مساعدة مالية معفاة من الفوائد. ولكن خروجها من حروب نابليون الطويلة ضعيفة، جعلها تماطل في استخلاص تلك التي تعود إلى 1791-1796 رغم أن السلطات الجزائرية قد نزلت بها إلى ما دون الثلث (من 24 مليون فرنك إلى 7 ملاين فرنك) حتى كانت حادثة المروحة الشهيرة التي اتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال الجزائر "دفاعا عن كرامتها المهانة"، لمّا غضب حسين داي وأصاب القنصل الفرنسي ديفال في 27 أفريل 1827بمروحة كانت في يده يهش بها الذباب.
والحقيقة أنّ ما يذكره الكتاب بتفصيل لا يعدو أن يكون السبب المباشر الذي هيأت له أسباب أخرى أعمق أسسها التوسع الاستعمار الأوروبي والتنافس الفرنسي الانجليزي على تركة الخلافة العثمانية في إطار ما عرف بصراع الامتيازات الجبائية. فما هذا الاحتلال إلاّ إحياء مشروع نابليون الذي كان يضع السطو على الجزائر نصب عينيه.
ويعرض الباحث ما يؤكد هذا المذهب. فوزير الحربية الفرنسي آنذاك كليمونت تونار طالب أمام مجلس الوزراء في أكتوبر 1827 باغتنام فرصة "الحرج الذي تعيشه انجلترا اليوم لغزو دولة الجزائر، وتمكين الدولة الفرنسية من قوة في إفريقيا". فكان الغزو العظيم الذي استسلمت إليه الجزائر في 5 جويلية 1830بعد معارك شاركت فيها الفرقة الانكشارية وجيوش القبائل طيلة شهر. فانتشر النهب والسلب في عامة المدينة. وتم الاستيلاء على خزينة الداي التي تضم وحدها ما يزيد عن 55 مليون فرنك، أي ما يغطي تكاليف الحملة العسكرية. وأُرسِل المناوئون لنظام الحكم ممن يسمون بالبدو الفرنسيين، وأطلقت أيديهم للتنكيل بالأهالي. ويعرض تفاصيل الجرائم البشعة نكتفي بتوصيف القائد "لامورسيير" لها في تقاريره قائلا "يبدو أنّ التاريخ لم يسجل أبدا حملة احتلال جرت وقائعها بمثل هذه الفوضى، حتى في العصور الأكثر وحشية".
3 ـ سقوط مدينة قسنطينة بعد صمود ملحمي
للمدينة أهمية خاصّة، فهي تتوسط إقليم الشرق الجزائري وتمثّل موردا مهما للمواد الفلاحية وللتبادل التجاري. وتنحدر قيمتها المضاعفة من بعدها التاريخي والرمزي. فقد اختارها النوميديون لتكون عاصمة مملكتهم في القرن الرابع قبل الميلاد. وكان أحمد باي بايلك الشرق وقتهايدين بالولاء لداي "دار السلطان" بالجزائر ويؤدي إليها زيارات وجوبية لتقديم الولاء والهدايا مرة كل ثلاث سنوات. فتزامنت زيارته للداي سنة 1830مع الغزو الفرنسي وأبلى بلاء حسنا مع رفقته في الدفاع عن المدينة. ثم لمّا استسلم الداي حسين انسحب هو إلى قسنطينة ورفض أن يخضع للسلطات الفرنسية ويؤدي (الدنوش) الذي كان يؤديه لدار السلطان.
من الطبيعي أن يتلكأ المذنب في مواجهة ماضيه الاستعماري وجرائمه بحق العرب والأفارقة ما لم يقع التكاتف والتنسيق بين بلدان الجنوب. غير أنّ ذلك لا يعدو أن يكون طلبا مستحيلا في ظلّ الاختلافات الإقليمية وارتهان بعض القادة أو ارتهان أصحاب المصالح الذين يتحكمون في المشهد السياسي من وراء حجاب إلى السلطات الفرنسية نفسها.
يعرض الكتاب ملاحم المدينة ووقوفها في وجه الفرنسيين. فقد واجهت بشجاعة الحملة الأولى تشرين الثاني (نوفمبر) 1836. وكان القائد الفرنسي "الماريشال كلوزيل" يعتقد أنها لا تعدو أن تكون نزهة عسكرية رائقة. لذلك أخذ معه بعض السواح للاستمتاع بالنصر. وكان منهم الابن الأكبر للملك لويس فيليب. ولكن جيش أحمد باي صمد على نحو مذهل. فقد حوّل المعركة إلى مناوشات متفرقة كلفت الجيش الفرنسي خسائر كبيرة. ووافق الغزو سوء في الأحوال الجوية جعل 17 من جنوده يموتون متجمدين ودفع آخريْن إلى الانتحار. واستحال على "الماريشال كلوزيل" دخول "مدينة الشيطان" فآثر الانسحاب مخلفا ما يزيد عن 1000 قتيل. وعاود هذا القائد الغزو ثانية في أكتوبر 1837. ولكن ملحمة قوات قسنطينة لم تفلح في فرض شروط أحمد باي باستعادة عنابة وقالمة. ثم انتهى الهجوم بسقوط المدينة. وأطلقت الأيادي لتبدأ عملية الانتقام الوحشي مما أبدته المدينة من رباطة جأش.
4 ـ الجرائم الفرنسية فجر الاحتلال
يعرض الباحث وجوها مختلفة من التنكيل الذي مارسه الفرنسيون ضدّ الجزائريين وأدواته. فيذكر أن عددها يزيد عن أربعين نوعا من أنواع التعذيب، منها التجويع حد الموت وقطع أعضاء من الجسم والاغتصاب. فانتقلوا من استباحة الأملاك، بعد أن استولوا على كل الممتلكات خزينة الداي وأملاك الأتراك والأوقاف الإسلامية وامتدت أياديهم إلى ممتلكات الفقراء والمساكين، إلى استباحة الأجساد ثم الأرواح. وكان التعذيب يتجاوز كسر إرادة المعتقل، وهو في حدّ ذاته جريمة مقرفة، إلى الاستمتاع به بعد أن تحوّل إلى غاية في حدّ ذاته. وفي تقرير اللجنة الإفريقية للحكومة الفرنسية سنة 1833حول ما ألحقوه بالجزائريين ما يصادق على ذلك. فقد جاء فيه : "لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية، وجرّدنا السكان الذين وعدناهم باحترام الحريات الأساسية، وعدم المساس بها، والحفاظ على المقدسات، فأخذنا الممتلكات الخاصة والعامة، بدون تعويض، وذبحنا أناسا، كانوا يحملون عهد الأمان، وحاكما رجالا يتمتعون بسمعة القديسين (الفقهاء) في بلادهم، كانوا شجعانا لدرجة أنهم صارحونا بحالة مواطنيهم المنكوبين".
5 ـ توصيف هذه الجرائم
أ ـ الاحتلال حرب عنصرية:
رافق الاحتلال ترويج لنظرية التفوق الجنسي. فقد تبنى العديد من مثقفي فرنسا نظرية إبادة الجنس الأدنى غير القابل للتطور أو التحضر. ويذكر الباحث كتابات لبوديشون في هذا الاتجاه فيما يؤمن كل من غاسبان وميشلي بأن الإبادة هي أول ما يجب أن يفعله الاستعمار. وسرى تواضع بينهم يرى في الجزائريين مجرد حيوانات. فأشاروا إليهم بالثعالب وابن آوى والزواحف والخفافيش. فينقل عن ل. مول، وهو أستاد في معهد الفنون والحرف قوله أنّ الصراع بين الفرنسيين والجزائريين وجه من وجوه الصراع بين البشر والحيوان على سطح الأرض وأنّ الجنس غير الكفء للتطور والحضارة يجب أن يندثر. والجزائريون في الدرجة الدنيا من الإنسانية لذا يجب أن يعاملوا معاملة الهنود الحمر دون أن تعدّ إبادتهم جريمة.
بـ ـ الحرب عل الجزائر حملة من حملات الحروب الصليبية:
عملت فرنسا على التدمير الكلي للقرى والمداشر دون تمييز أو ذنب. وكانت بذلك تستهدف إبادة الجنس العربي المسلم والأحداث التاريخية وخطب الساسة وتصريحات العسكريين شاهد على ذلك. فقد جاء في التقرير الذي رفعه وزير الحربية الدوق ديك ليهون إلى الملك شارل العاشر: "إنها العناية الإلهية، التي قضت بأن تنادي سليل القدّيس "لويس التاسع" ليأخذ بالثأر، وليقتص للدين (المسيحي) وللإنسانيةـ ولسنا في حاجة إلى اقتناع جديد، بأنه لا سبيل إلى استقرار الأمن في الجزائر، إلاّ بإبادة أهلها عن بكرة أبيهم" فيجد في احتلال الجزائر امتدادا لهذه الحرب وثأرا لموت لويس التاسع الذي كان قد توفي في الحملة الصليبية الثانية التي قادها ضدّ تونس سنة 1270 دون أن يحقق مراده.
فقد كانت غاية الفرنسيين أن يجعلوا الجزائر جسرا يحمل الديانة المسيحية إلى كافة القارة الإفريقية وأن تصل تاريخها بالعهد الروماني الذي أدخل المسيحية إلى شمال إفريقيا بعد أن تشطب الماضي الإسلامي فيها. ثم يعرض دعوة كاتب الجنرال بيجو عن التنصير، احتفالا بتحويل مسجد حسن باي إلى كنيسة في قسنطينة: "إنّ آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين سنة، لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك، في أنّ هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشكّ على أي حال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد، أما العرب فلن يكونوا مواطنين لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعا". وغير ذلك كثير.
ت ـ الاحتلال حرب إبادة:
كثيرا ما دعا الفرنسيون إلى ضرورة إبادة الجزائريين فيما اكتفى "المعتدلون منهم" بالمطالبة بإبعادهم إلى الصحراء. يقتطف من رسالة أحد الضباط العسكريين قوله "إن بلاد بني مناصر بديعة، جميلة جدا، لقد أحرقناها كلّها، أه أيتها الحرب، كم من نساء وأطفال اعتصموا بجبال الأطلس المغطاة بالثلوج، فماتوا هناك من الجوع والبرد، وليس في جيشنا سوى خمسة من القتلى وأربعين جريحا." ويذكر بعض المجازر التي ارتكبت في حق الجزائريين دليلا على ذلك. فمذبحة البليدة في 26 نوفمبر 1830 كانت بقصد القتل الجماعي لآلاف الأهالي وتحويل المدينة إلى مقبرة جماعية في غضون ساعات. وفي 7 أفريل 1832 تمت إبادة أفراد قبيلة العوفية في وادي حراش أثر مباغتتهم ليلا. فكان الرصاص يستهدف الجميع وكان القتل غاية وهدفا رغم الاتفاقيات المبرمة.
6 ـ الجرائم التي لا تسقط بالتّقادم
الجرائم الفرنسية ثابتة بالحجج والقرائن. ومؤيداتها مشورة في المؤلفات ومحفوظة في الأرشيف قبل أن تكون ثابتة في الذاكرة رغم عبث فرنسا بالتاريخ الجزائري. ويقدّر الباحث أنّ شعور الفرنسيين بالتفوق دفعهم إلى الإفراط في ذكر تفاصيل الاعتداءات الوحشية والتبجح بتقتيل المدنيين العزّل الذين فروا إلى الكهوف والجبال. فينقل عن روفيقو القائد العام للجيش الفرنسى صياحه في جنوده "إليّ بالرؤوس.. هاتو.. إليّ الرؤوس.. سدوا قنوات المياه المعطوبة بواسطة رأس بدوي يقع في أيديهم" أما بيجو فقد أوصى جنوده أن "اخنقوهم بالدخان مثل الثعالب".
لا تسقط جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالتقادم. ولا يمكن تجاوز إشكالياتها وإقامة علاقات سليمة ومتوازنة مع فرنسا ما لم تتم مواجهة الماضي بشجاعة. وتحمّل الجميع لمسؤوليات كاملة. ومن الطبيعي أن يتلكأ المذنب في مواجهة ماضيه الاستعماري وجرائمه بحق العرب والأفارقة ما لم يقع التكاتف والتنسيق بين بلدان الجنوب. غير أنّ ذلك لا يعدو أن يكون طلبا مستحيلا في ظلّ الاختلافات الإقليمية وارتهان بعض القادة أو ارتهان أصحاب المصالح الذين يتحكمون في المشهد السياسي من وراء حجاب إلى السلطات الفرنسية نفسها.
قراءة في مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي وخفايا حرب أكتوبر
الإعلام العربي من الاستقلال إلى التبعية.. قراءة في كتاب
رؤية جديدة للديمقراطية غير الوافدة البرّانية من الغرب (1من2)