تبدو هذه المسألة الخطيرة التي تتعلق
بالعلاقة بين تلك المجالات تمييزاً فيما بينها أو بين الفصل والوصل في سياق
علاقاتها؛ الفصل في مقامه، والوصل في أوانه وحاله، فإنما تشكل بعدا مهماً حينما
نحاول أن نلحظ هذه المعاني التي تتعلق بدخول العلاقات الإيجابية على أخرى فيمكن أن
تأتي بآثار سلبية، وكذلك العلاقات الجامعة النافعة والعلاقات الضارة الفاسدة..
أمور يجب علينا أن نتأملها، وليأتي عالم
الأحداث ليؤكد على دروس يجب أن نقف عليها ونتفحص جوهرها وأشكال علاقاتها وتطورها
وتداخلاتها وتفاعلها وآثارها ومآلاتها، ذلك أن ميزان هذه العلاقات يعد أمرا جوهريا
في تلك الممارسات التي تتعلق بالدولة والمجتمع والفرد، وفي الإدراك والممارسة في
كافة الساحات والمساحات. ولعل هذه الرباعية تحاول أن تفرض نفسها من جديد على ساحة
البلاد التي شهدت أحوالا وأحداثا من التغيرات والاحتجاجات، والتي اتخذت بعد ذلك
وصفا بكونها ثورات عربية بدت تتصاعد وتحاكي بعضها البعض في دول شتى. بل إنها بعد
أن تهدأ الأمور وتتوارى تلك الاحتجاجات والنشاطات نراها مرة أخرى تقفز إلى الواجهة
لتعبر عن نفسها في استئناف احتجاجات متجددة ومسيرة التغيير المعقدة. وما يشهده
السودان من أحداث كبرى تمثل خبرة ومثالا يمكن أن تدلنا على دروس أساسية في تلك
العلاقة.
أول تلك الدروس إنما يرتبط بالعلاقة في ما
بين السياسي والديني؛ مع اتهامات من النظم المستبدة بأن بعض الجماعات والتكوينات
تستغل خطابا دينيا سياسيا ومسيسا في عملها، وقد تتدثر به حول ما يمكن تسميته
"تديين السياسة". ولكن ما إن تحرص هذه النظم على تلك الاتهامات التي
تخرجها من أبواقها وجوقتها وزبانيتها إلا ونجد أن هذه النظم المستبدة لا تفتأ أن
تتدخل في المساحات الدينية بالتأميم لمصلحة استبدادها وطغيانها، وتحاول دائما أن
تذكر الناس بأنها هي التي تفهم صحيح الدين، وتدرك ما تقتضيه تلك العلاقة بين
الديني والسياسية، فتوزع الاتهامات حينا، وتمارس التأميمات أحيانا أخرى.
تلك الدروس إنما يرتبط بالعلاقة في ما بين السياسي والديني؛ مع اتهامات من النظم المستبدة بأن بعض الجماعات والتكوينات تستغل خطابا دينيا سياسيا ومسيسا في عملها، وقد تتدثر به حول ما يمكن تسميته "تديين السياسة"
كل ذلك يأتي على أصول وسنن وقوانين
الممارسة السياسية، وتلك العلاقات المجتمعية والسياسية التي تنشأ داخل المجتمعات
وبين التكوينات والمؤسسات. ولعل الخطر الكبير هو في ذلك الخلط المتعمد ما بين
مفهوم الثيوقراطي والمفهوم المدني، رغم أن المدني هو في مواجهة تلك التفسيرات
الثيوقراطية التي لا تخدم إلا مناخ الاستبداد وسياسات طغيانه.
وإن الحقيقة الكبرى التي تتعلق بذلك أن الديني
والسياسي لا ينفصلان، ولكنهما بما يمثلانه من مجالات مختلفة يتمايزان، ويعبران عن
أحوال متعددة ومتجددة من الفصل والوصل. ومن ثم فإن السياسي القائم على قواعد من
سنن الاختيار وامتلاك الإرادة السياسية، والحالات التي تجعل التمثيل السياسي أمرا
صائبا وفعالا؛ إنما يشكل في حقيقة الأمر معنى مهما في التعامل مع ديناميات الحياة
السياسية والعلاقات التي تنشأ بين جنباتها.
إلا أن الديني يمكن كذلك أن يحفز
السياسي في سياقات تؤكد على ذلك الاختيار، وعلى امتلاك الإرادة والزمام ضمن تدعيم
وإسناد حالة الحرية والكرامة التي ترتبط بالإنسان والمواطن والأوطان، فتحفز بذلك
كل عمل سياسي إيجابي وحقيقي يصب في مصالح الناس ويحقق ضروراتهم العمرانية
والحياتية والمعاشية، وأن ذلك التداخل الضار والخلط المتعمد ما بين السياسي
والديني هو الذي يسيء إلى حقيقة هذه العلاقة في ميزانها الأساسي؛ الذي يتعلق
بالتمييز بين فصل ووصل يحقق كل الإيجابيات المتعلقة بالحرية الإنسانية والعدالة
الكلية والمساواة الأصلية والإرادة الحقيقية، أمور بعضها من بعض، تشكل معاني
الكرامة الإنسانية التي لم تكن إلا من معاني تحصين الديني، ممثلا في تكريم الله
سبحانه وتعالى للإنسان كيانا وبنيانا ومهمة وعمرانا.. هكذا تبدو العلاقة السوية ما
بين الديني والسياسي.
الدرس الثاني يتعلق بعلاقة المدني
والعسكري؛ فإذا كان المدني في مواجهة كل فعل ثيوقراطي يحاول استغلال الدين في غير
مقامه وفي سياقات سلبية تطمس كل فعل إيجابي لتلك العلاقة بين الديني والسياسي، فإن
الأمر أيضا إنما يشكل موطنا خطيرا حينما نخلط ما بين المدني والعسكري؛ لنجد بذلك
أن صفة المدني هي في مواجهة هذا الأمر الذي يتعلق بالعسكرية وحال
العسكرة.
ما يقوم به العسكر في كثير من الأحيان، بوضع أنفسهم في سياقات تعبر عن حالة من حالات الوصاية السياسية على المجتمعات المدنية وممارساتها الاجتماعية والسياسية، إنما يشكل في حقيقة الأمر خطرا كبيرا، ويؤكد أن العسكر لا يفتأون يقومون بكل عمل يعطي لهم الحق الأكبر في أن يتابعوا كل شأن سياسي
إن ما يقوم به العسكر في كثير من
الأحيان، بوضع أنفسهم في سياقات تعبر عن حالة من حالات الوصاية السياسية على
المجتمعات المدنية وممارساتها الاجتماعية والسياسية، إنما يشكل في حقيقة الأمر خطرا
كبيرا، ويؤكد أن العسكر لا يفتأون يقومون بكل عمل يعطي لهم الحق الأكبر في أن
يتابعوا كل شأن سياسي، ويحاولون أن يلبسوا ذلك بأنهم يشكلون الرقابة والوصاية على
كل أداء سياسي تحت دعاوى كثيرة؛ تارة تتحدث عن العدو الخارجي، وأخرى عن وطنية
كاذبة خاطئة، وعن مبررات لفاشية عسكرية ودولة بوليسية، وهو أمر يجعل العسكر دائما يتقدمون
إلى الواجهة ليحكموا ويتحكموا في المسارات السياسية ما استطاعوا وما أرادوا.
ولا شك أن هذا السلوك هو مضاد للحياة
المدنية بكل أحوالها، وبكل تنوعاتها، والقوانين الأساسية والسنن التي تحكمها. إن
تغول العسكري على المدني لهو حالة خطيرة تعبر في حقيقة الأمر عن اختلال حقيقي في
تلك العلاقات بين المدني والعسكري، ونظن أن الخبرة السودانية الحالية والسابقة
إنما تشكل في حقيقة الأمر مداخل خطيرة يتحكم فيها العسكري في المدني فينقضه أو
يطوعه. وفي كل الحالات فإنه لا يأتي إلا بآثار وخيمة تتعلق بالإخلال بأصول هذه
العلاقة التي تحدد الأدوار وتتمايز فيه الأفعال ما بين ما هو مدني وما هو عسكري.
الدرس الثالث إنما يتعلق في حقيقة الأمر
بتدبير هذا الشأن، فتأتي قوى مدنية فتستدعي العسكري أو تستعديه في مواجهة من تتصورهم
خصوما في الحياة المدنية أو السياسية. ونظن أن هذه الخبرة السودانية التي قامت على
الاستبعاد والنفي لبعض تكوينات اجتماعية وسياسية مؤثرة لهو أمر خطير، حتى لو أخطأت
تلك التكوينات في ممارسات سابقة، واستطاعت أيضا ضمن عملها أن تستدعي وتستعدي
العسكر في كل مرة وتختبئ خلفه، فتعطي لهؤلاء سندا دينيا وسياسيا لتحكّمهم.
هذه التيارات المدنية قد تضحي بالعلاقات المدنية- المدنية وتمرر تغول العسكر على كثير من صنوف تلك الحياة المدنية والسياسية، فيؤدي ذلك إلى استمرار المعادلات المختلة والممارسات الاستقطابية، فتشكل بذلك عدوانا خطيرا على السنن والقوانين التي تحكم هذه العلاقة
وفي حقيقة الأمر فإن هذه التيارات
المدنية قد تضحي بالعلاقات المدنية- المدنية وتمرر تغول العسكر على كثير من صنوف
تلك الحياة المدنية والسياسية، فيؤدي ذلك إلى استمرار المعادلات المختلة
والممارسات الاستقطابية، فتشكل بذلك عدوانا خطيرا على السنن والقوانين التي تحكم
هذه العلاقة في سياقات تحافظ على التمايز بين هذه المجالات المختلفة؛ ولا تخلط
فيما بينها خلطا مضرا أو خطيرا يأتي على كامل الحياة المدنية في ظل حلقة مفرغة من
استدعاء واستعداء العسكر، تارة من هؤلاء الذين يمثلون تكوينات دينية، وتارة الذين
يمثلون قوى مدنية، وفي كل الأحوال فإن الأمور تتدحرج في النهاية في حجر العسكر.
إن الدروس لا تزال تأتي من تلك الخبرة
التي تستقى من أحداث عدة؛ امتدت في شكل احتجاجات وثورات وفي شكل حضور للعسكر، وفي
أشكال قد تتخذ ما يمكن تسميتها متوالية لا تتوقف من الانقلابات. وهذا هو أخطر ما
يكون حينما يلجأ كل من يتفاعل في الساحة المدنية فيحتكمون إلى العسكر؛ فيتحكمون في
كل القوى التي تمثل هذه الساحة المدنية. وهذا لعمري ليس فقط خطأ العسكر الذين
يحرصون على ممارسة إغراء المعنى الذي يتعلق بالتحكم والهيمنة السياسية، ولكن كذلك
في ساحات الفرقة وحالات الاستقطاب بين هذه القوى؛ التي تمثل مرتعا لتحكم هذه القوى
العسكرية على طريق الاستبداد المقيم.
twitter.com/Saif_abdelfatah