(1)
لا يمكن تسمية ما حدث في
السودان قبل يومين سوى أنه انقلاب عسكري، فهو استيلاء على السلطة من قبل قادة الجيش، وهذا هو التعريف الكلاسيكي للانقلابات، ولكنه ليس مجرد انقلاب عادي، بل استمرار "لعملية انقلابية" بدأت بموافقة "المدنيين" عند
الإطاحة برأس النظام السابق عمر حسن البشير.
تحالفت القوى المدنية مع العسكر بعد إسقاط البشير. كان التوافق بين الطرفين اضطراريا بسبب قوة الجيش، ولكن القوى المدنية كان يمكن أن تقوي
فرص الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية، ولكنها لم تفعل. بدلا من العمل على صياغة دستور جديد يفرز مجالس منتخبة ونظاما سياسيا جديدا، انشغلت هذه القوى "بالتمكين" من خلال "لجنة إزالة التمكين"، وعملت على تأخير الاستحقاقات الانتخابية قدر الإمكان لتضمن فوزها في حال عقد هذه الانتخابات، بعد أن تهيئ الأرضية لذلك عبر القوانين والإقصاء بحجة محاربة فلول النظام السابق.
استطاع الجيش خلال ما مضى من الفترة الانتقالية تفريغ عملية الانتقال الديمقراطي من مضمونها، واستخدم "شرعية الانحياز للثورة" مقابل "شرعية الثورة" التي ترفعها القوى المدنية الشريكة في الحكم، وفي هذه الحالة أصبح الصراع بين "شرعيتين". لو انشغلت القوى المدنية ببناء مؤسسات جديدة منتخبة ودستور مستفتى عليه لدخلت "صراعها" مع الجيش اليوم "مسلحة" بشرعية انتخابية واضحة، أما الآن فالصراع هو بين شرعيتين هلاميتين غير واضحتي المعالم وغير محددتي القوة.
القوى المدنية كان يمكن أن تقوي فرص الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية، ولكنها لم تفعل. بدلا من العمل على صياغة دستور جديد يفرز مجالس منتخبة ونظاما سياسيا جديدا، انشغلت هذه القوى "بالتمكين" من خلال "لجنة إزالة التمكين"، وعملت على تأخير الاستحقاقات الانتخابية قدر الإمكان لتضمن فوزها
تستطيع القوى المدنية أن
تقاوم الانقلاب سياسيا بطرح فكرة الانتخابات المبكرة عن موعدها المحدد في الوثيقة السياسية، وبذلك تجعل الشعب حكما على المرحلة، بشرط ضمان سلامة العملية الانتخابية، ويمكن أن تمتلك شرعية شعبية مكتسبة بالتصويت الشعبي تواجه بها ميل العسكر للانقلاب.
(2)
في كل الانقلابات العسكرية، يعمل قادة الجيش على إشاعة الفرقة بين القوى المدنية المختلفة، وعلى إثارة الخلافات بين منظمات المجتمع المدني، ليصبح الجيش بذلك هو الطرف الأقوى والموحد بمقابل مجموعات متناحرة وضعيفة من المدنيين. كانت القوى "المدنية" في مصر بالإضافة إلى حزب النور هي نصير انقلاب السيسي عام 2013، ويحاول
البرهان أن يجعل من القوى الإسلامية حزاما سياسيا لانقلابه.
يشكل إعلان عبد الفتاح البرهان عن حل لجنة "إزالة التمكين" مغازلة مباشرة للإسلاميين لضمان الحصول على تأييدهم، ولأن الشركاء المدنيين للبرهان استخدموا هذه اللجنة لإقصاء التيار الإسلامي، فمن المتوقع أن تجد مغازلة البرهان للأخير آذانا صاغية. سيخطئ الإسلاميون إذا قبلوا دعم الانقلاب، كما أخطأت النخب المدنية باستخدام الثورة لإقصاء خصومهم الأيديولوجيين.
يشكل إعلان عبد الفتاح البرهان عن حل لجنة "إزالة التمكين" مغازلة مباشرة للإسلاميين لضمان الحصول على تأييدهم، ولأن الشركاء المدنيين للبرهان استخدموا هذه اللجنة لإقصاء التيار الإسلامي، فمن المتوقع أن تجد مغازلة البرهان للأخير آذانا صاغية
يمكن للقوى المدنية، إسلامية وعلمانية، أن تسعى لتشكيل تحالف عريض لمواجهة الانقلاب، بعد التوافق على أسس المرحلة الانتقالية، دون ثأر أو إقصاء. بهذا التحالف فقط سيصبح الانقلاب دون ظهير سياسي وشعبي.
(3)
يؤكد موقف الدول الغربية من الانقلاب في السودان مفارقة باتت واضحة لدى الكثيرين ولا تحتاج للمزيد من التأكيد، وهي أن الغرب "حريص" على
الديمقراطية عندما يكون الداعي لها أو المستفيد منها هي القوى العلمانية بتنوعاتها، بينما تختفي شعاراته عندما يكون ضحايا الانقلاب (المباشرون لأن كل الشعب يقع ضحية الانقلاب) من
الإسلاميين. صدرت خلال ساعات من الانقلاب إدانات من جميع أنحاء العالم، وخصوصا من الدول الغربية والأمم المتحدة وأمريكا، وبدأت التهديدات بوقف المساعدات والمطالبة بإنهاء الانقلاب، وهو ما يذكرنا، من باب المفارقة، بموقف الدول الغربية المؤيد عمليا لانقلاب السيسي في مصر عام 2013، لأن من كان يحكم كرئيس منتخب ينتمي للتيار الإسلامي.
يستحق انقلاب البرهان بالطبع
الإدانة بأشد العبارات، ولكن المقارنة تظهر أن الغرب لا يزال يحاكم منطقتنا وفق نظرة استشراقية تتعامل بريبة مع "الشرق الإسلامي"، ولذلك تجدها تخشى قوى الإسلام السياسي رغم أنها أثبتت أنها الأكثر التزاما بالديمقراطية خلال فترة الربيع العربي، بينما تدعم القوى العلمانية من يسار وقوميين رغم أنهم - من المفترض - خصوم أيديولوجيون لواشنطن، كما أنهم أظهروا انحيازا شبه شامل للاستبداد والانقلابات خلال السنوات العشر الماضية بما يخالف سياسة الغرب المزعومة في دعم الديمقراطية.
يستحق انقلاب البرهان بالطبع الإدانة بأشد العبارات، ولكن المقارنة تظهر أن الغرب لا يزال يحاكم منطقتنا وفق نظرة استشراقية تتعامل بريبة مع "الشرق الإسلامي"، ولذلك تجدها تخشى قوى الإسلام السياسي رغم أنها أثبتت أنها الأكثر التزاما بالديمقراطية خلال فترة الربيع العربي
وبعيدا عن هذه المفارقة التي لم تعد مفاجئة لأحد، والتي يكتبها المرء بملل لأنها باتت مسرحية مكررة، فإن من الضروري لمن يريد أن يسقط انقلاب البرهان أن لا يراهن على الغرب والخارج عموما. تشكل العوامل الخارجية فارقا في الأحداث السياسية والصراعات داخل أي دولة، ولكن المعادلة الداخلية هي ما يحكم النتائج في نهاية الأمر. كما أن قائد الجيش الذي غازل واشنطن عبر التطبيع مع الاحتلال سابقا يمكن أن يلجأ لخطوات أكثر ارتماء في أحضان تل أبيب لضمان صمت الولايات المتحدة عن الانقلاب، ولن تستطيع القوى المدنية أن تستخدم هذه الورقة الآن في الصراع مع الانقلاب لأن التطبيع ابتداء حدث بموافقتها وصمتها وتواطئها أحيانا (باستثناء بعض الأصوات الخافتة مثل حزب البعث الذي عارض التطبيع ثم استمر بالحكومة رغم ذلك).
إذا أرادت القوى المؤمنة بالديمقراطية في السودان إنهاء الانقلاب فإن عليها أن تحشد الشعب السوداني وراءها لمقاومة هذا الانقلاب سلميا
في الشارع دون انتظار حل من الخارج، وهذا الحشد لن يحدث إلا بتشكيل تحالف شعبي عريض يجمع بين القوى الديمقراطية حتى لو كانت متنافرة أيديولوجيا.
twitter.com/ferasabuhelal