الكتاب: "صناعة الفقر- جدلية (الفقر، المعونة، الفساد)"
الكاتب: د. عصام شيخ الأرض
الناشر: دار تموز- ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2021
(256 صفحة من القطع الكبير)
تعيش الجماهير العربية في مشرق الوطن العربي كما في مغربه، ظاهرة الفقر المدقع، إذ لا تخلو منها دولة من الدول العربية الشرق أوسطية و المغاربية، (لبنان، سوريا، الأردن، العراق، اليمن، مصر، السودان، الصومال، تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا). ومنذ مرحلة ما سمي بـ "الربيع العربي" التي انطلقت منذ سنة 2011، تعمقت ظاهرة الفقر، وأصبحت تنخر في خلايا المجتمعات العربية فتساهم في خلق الكثير من الآفات: الجوع، وسوء التغذية، والأمراض، والجهل.
الحقيقة المؤكدة عن المنطقة العربية أنَّها أكثر ثراءً منها نمواً وأن هناك فجوة بين ثروات المنطقة من جهة ومستوى التنمية الاقتصادية من جهة أخرى، فبالرُغم مما تتبناه الدول العربية من سياسات وخطط لمكافحة الفقر على المستوي العربي وسُبل تشجيع الاستثمار في الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل، إلا أنَّ هذه الآماني تتحطم علي صخرة الفقر الضاربة في أعماق المشكلة الاقتصادية.
عالم بلا فقراء حلم قديم استطاعت أمم أن تحققه، فيما نجحت أمم أخرى في إحباط كل محاولة للاقتراب منه. هناك أمم تتفنن من أجل تزيين الفقر لأبنائها فبعض من رجال السياسة المنحرفين، والقيادات الدينية أصحاب المصالح الخاصة، وأصحاب رؤوس الأموال الجشعين يعملون على تطوير صناعة الفقر في المجتمع لتكون المعادلة قائمة على عنصري الفقر والغنى باعتبارهما قدرين، لا يجوز المساس بهما ولا يصح انتقادهما.
دول كثيرة استطاعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة أن تقول وداعاً للفقر، من خلال خطط للتنمية، وضعت من أجل التقليل من المسافة التي تفصل بين الطبقات الاجتماعية. وهو ما أدى إلى شيوع نوع من الرفاهية الاجتماعية والذي انتقل بشعوب تلك الدول إلى مرحلة غادرت فيها العالم القديم منتمية إلى عصر العولمة الحديث.
الموقف من الفقر لا يتعلق دائماً بالعقائد ففي أوروبا أفقر الاشتراكيون شعوبهم لتتشكل طبقة من ذوي الامتيازات الخاصة مكونة من أفراد الحزب الحاكم وعوائلهم في حين ارتقى الليبراليون بشعوبهم السلم الاقتصادي وضيقوا الخناق على الفقر، حتى صار الفقر فكرة مستبعدة وحالة اجتماعية منبوذة من مجتمعهم، حيث أصبحت المسافة التي يتحرك فيها مبدأ العدالة الاجتماعية هي التي تصنع الموقف من الفقر.
في هذا الكتاب القيم، الذي يحمل العنوان التالي: "صناعة الفقر ـ جدلية (الفقر، المعونة، الفساد)" للكاتب الدكتور عصام شيخ الأرض، والمتكون من مقدمة وخمسة فصول، يتطرق فيه الباحث إلى موضوع الفقر بوصفه حالة خاصة، فهو أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إنَّ مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات.
في تعريف الفقر
يُعَدُّ الفقر من أكبر التحدّيات التي تُواجِه الدول العربية، ويُعَدُّ القضاء عليه، أو الحدّ منه ضرورة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية. فما هو تعريف الفقر؟
تُجْمَعُ البحوث الأكاديمية على أنَّ الفقر آفة فتّاكة وظاهرة عالميّة عرفتها وتعرفها شعوب الأرض كلّها، وقد لا تخلو منها دولة من الدول، ولا مدينة من المُدن. وهي تنخر في خلايا المجتمعات وتسهم في توليد الكثير من الآفات: سوء التغذية، الأمراض، الجهل. لكنّ قياس هذه الظاهرة أصبح مُمكناً، وأصبحنا نضع تعاريف للفقر، والفقر المدقع، وخطّ الفقر، والفقر الأدنى، والفقر الأعلى، ومع هذا، هل هناك مفهوم ومقياس واحد للفقر؟ ولخطّ الفقر؟
تعرّف المنظّمات الدولية الفقر على "أنّه الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحّية والغذاء والملبس والتعليم، وكلّ ما يُعدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق للحياة". واتّسع هذا المفهوم وأصبح أكثر شمولاً بعد قمّة كوبنهاغن في العام 2006 على وجه التحديد، والتي شدَّدت على أهمّية حصول الفرد على الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، وتأمين بيئة سليمة، وفُرص المُشارَكة الديمقراطية في اتّخاذ القرارات في جوانب الحياة المدنية.
ويعرف الباحث عصام شيخ الأرض الفقر،" بأنه العوز والحاجة وهو ضد الغنى، وهو العجز عن تلبية الاحتياجات الحياتية الضرورية للدرجة التي تتسبب بالجوع أو الموت أحياناً، أو تلبية احتياجات المأكل والمشرب والمسكن بشكل لا يتلاءم مع متطلبات الحياة الكريمة كل هذا يعد فقراً.
أما مفهوم الفقر العام فهو عدم مقدرة الفرد على توفير الدخل اللازم لتلبية الحاجات الأساسية المتمثلة بالغذاء، والمأوى، والملبس، والتعليم، والصحة، والنقل، والتي تمكنه من أداء عمله بصورة مقبولة، فيما يختلف مفهوم الفقر باختلاف معايير الثقافة والمكان والزمان، مما يمنحه تعريفات أخرى، فيعرف أيضاً على أنه عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة المطلوب والمرغوب فيه اجتماعياً، وهو يشكل حالة من الحرمان المادي التي تتجلى بعض مظاهره في انخفاض الاستهلاك الواضح في كمية الغذاء أو نوعه، وتدني المستوى الصحي والتعليمي، والوضع السكني، وعدم امتلاك السلع القابلة للاستثمار، بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير مصادر احتياطية أو ضمانات مادية لمكافحة الأزمات المفاجئة مثل المرض، أو الإعاقة، أو البطالة، أو الكوارث"(ص 10 من المقدمة) .
كان المرء يُعتبَر فقيراً إذا كان دخله لا يستطيع أن يؤمِّن له الإنفاق الكافي لتأمين الحدّ الأدنى من حاجاته الغذائية، وأصبح الإنسان اليوم يُنعت بالفقير إذا كان غير قادر على تأمين مجموعة من الحاجات، من بينها الغذاء الصحّي والسكن والملبس والطبابة والاستشفاء والصرف الصحّي والمياه النقيّة للاستهلاك البشري، وتوفير المستلزمات التعليمية لأفراد الأسرة، وتسديد فواتير الماء والكهرباء، وتلبية الواجبات الاجتماعية. وبشكل عامّ، إنَّ البلد الذي دَخْل الفرد فيه دون الدولارَين في اليوم الواحد يُعتبر في حالة فقر شديد، ومَن كان دخل الفرد فيه على حدود الدولار الواحد، يكون مُلامساً عتبة الفقر المدقع.
العوامل المؤدية إلى الفقر
علينا أن نميز بين العوامل والأسباب، فأسباب الفقر هي الأشياء التي أوجدت المشكلة في الأصل، أما العوامل فهي الأشياء التي تساهم في استمرار الظاهرة التي كانت موجودة بالفعل. فالعوامل يمكن علاجها والتحكم فيها وتقديم حلول لها أما أسباب الفقر فلا يمكن أن نعود إلى الماضي وإلى التاريخ لتغييرها وما يحتمل فعله هو تغيير العوامل التي تؤدي إلى بقاء الفقر من الأسباب التاريخية للفقر الاستعمار والعبودية والحروب.
الفقر على نطاق العالم لديه الكثير من الأسباب التاريخية: الاستعمار والعبودية والحرب والغزو، هناك فارق مهم بين تلك الأسباب وما نسميه العوامل التي تحافظ على ظروف الفقر. الفرق هو من حيث ما نستطيع أن نفعل بشأنها اليوم. لا يمكننا أن نعود إلى التاريخ، ونغير الماضي. الفقر موجود. ما يهمنا اليوم هو أن نفعل شيئاً حيال العوامل التي تؤدي إلى إدامة الفقر.
يقول الباحث عصام شيخ الأرض: "عوامل الفقر (كمشكلة اجتماعية) مدرجة هنا، الجهل، المرض اللامبالاة، التضليل، والاعتماد على الغير، لا بد من النظر إليهم ببساطة كظروف. ليس المقصود إصدار أحكام أخلاقية. هذه العوامل ليست جيدة أو سيئة، إنَّها ليست سوى عوامل... العوامل الخمس الكبرى للفقر، بدورها تساهم في عوامل ثانوية مثل عدو وجود أسواق وضعف البنية التحتية وضعف القيادة، والفساد الإداي و الحكومي، ونقص في العمالة، والافتقار إلى المهارات، والتغيب عن العمل، والافتقار إلى رأس المال المالي والبشري، وغيرها. كل هذه هي مشاكل اجتماعية، وكل واحد منهم سببه واحد أو أكثر من الخمس عوامل الكبرى للفقر، وكل واحد منهم يسهم في استمرار الفقر، والقضاء عليهم أمر ضروري من أجل إزالة الفقر" (ص 20).
في أسباب الفقر
في عصرنا الراهن أصبح الفقر من أشد المشكلات تعقيدًا في دول العالم وخاصة في الدول النامية، علمًا أن الدول المتقدمة والغنية لا تخلو من أنواع الفقر الاجتماعي والإنساني أيضًا، وذلك لأن الفقر من المشاكل التي يترتب عليها العديد من الأمور الهامة التي تعكر مزاج الحياة في العديد من الدول ومنها المرض و الجهل و انعدام الأمن و الجريمة.
وهناك العديد من المشكلات التي تترتب على الفقر، ومنها:
ـ عدم الحصول على الرعاية الصحية الكاملة و بالتالي زيادة معدل انتشار الأمراض.
ـ التسرب من التعليم في المراحل الأساسية وزيادة الأمية في المجتمع.
ـ انتشارى العنف الأسري وزيادة معدلات نسبة الطلاق.
ـ انتشار التطرف الديني والمجتمعي مما يؤدي إلى التفرقة والنزاعات.
ومن أهم أسباب انتشار الفقر في المجتمعات العربية:
1 ـ عدم توفر فرص عمل جيدة توفر دخلاً معتدلاً لأصحابها.
2 ـ عدم وجود خطط اقتصادية صحيحة وحقيقية تحاكي الواقع والإمكانيات المتوفرة في الدولة تقوم الحكومات بتنفيذها بهدف القضاء على الفقر وآثاره.
3 ـ الفساد الإداري، والمحسوبيات التي تقتل الأمل في الحصول على وظيفة تعيل رب الأسرة وتعطيه الدافع للعمل ونشل أسرته من قاع الفقر.
4 ـ عدم وجود فريق اقتصادي حكومي قادر على حل المشاكل الموجودة في المجتمع وإيجاد الحلول الصحيحة للنهوض بالحياة الاجتماعية للمواطنين ورفع مستواهم المعيشي.
5 ـ حصول الطبقات العليا من المجتمع على العديد من المميزات المالية والمعنوية والفرص في مقابل حرمان الطبقات الأخرى في المجتمع من هذه المميزات مما يمحي الطبقة الوسطى من المجتمع ويعود بها إلى الفقر، ويكبلها بأعباء مالية تزيد من حالة التدهور الاقتصادي للمجتمع.
6 ـ التغير الديموغرافي للمجتمع أصبح يؤثر بشكل شديد بحالة الرفاهية والحياة لدى أفراد المجتمع، مما يؤكد أن الانفجار السكاني أحد أسباب ازدياد حالات الفقر المنتشر.
7 ـ فرض الضرائب العشوائية غير المدروسة والتي لا تدعم المجتمع بشكل صحيح وتؤثر على المواطن بشكل مباشر سلباً وتؤثر إيجاباً على النخبة المختارة من المجتمع فقط.
8 ـ تردي الحالة التعليمية، وتراجع المناهج الدراسية عن المستوى العالمي مما يشكل عبء على المجتمع بعدم وجود فرص عمل حقيقية لهؤلاء الشباب.
9 ـ عندما يكون المجتمع لا يملك قضاء عادل حيادي نزيه يعتبر الانهيار المجتمعي حتمياً.
يقول الباحث عصام شيخ الأرض،"الواقع أن الدول المتقدمة ليست أفضل حالاً بشكل مطلق إلا حينما نقارنها بالوضع المتدهور في بلدان العالم الثالث، ووفقاً لموقع الأمم المتحدة على الشبكة العنكبوتية والذي أورد ضمن دراسة مصاغة حول القضاء على الفقر قضاياعالمية، قد أدرج مثالاً أنَّ أغنى دولة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية،أدَّى التفاوت الشديد في توزيع الدخل بها إلى وقوع حوالي20% من سكانها في دائرة الفقر، و13% من سكانها قبعوا فعلاً تحت خط الفقر، والأكثر من ذلك أنَّ بريطانيا تصنف حاليًا في المرتبة العشرين ضمن (23) دولة في سجل الفقر النسبي، إذ يعيش حوالي 20% من السكان تحت خط الفقر"(ص 29).
أرقام ومؤشرات عن حالة الفقر في بعض الدول العربية
1 ـ حالة تونس في المغرب العربي:
يعتبر البنك الدولي المواكب لمسائل التنمية عموما أنَّ عتبة الفقر بالنسبة للشرائح السفلى في البلدان متوسطة الدخل تُحَدِّدُ في مستوى 3.2 دولار في اليوم لكل فرد أي ما يقابل 9 دنانير تونسية في اليوم للفرد) باعتبار سعر صرف الدولار يساوي 2.8 دولار). أما بالنسبة للشرائح العليا في نفس البلدان فإنَّها تبلغ 5.5 دولار للفرد ولليوم أي ما يقابل حوالي 15 دينارا في اليوم لكل فرد. ونفس البنك الدولي يعتبر أنَّ عتبة الفقر المدقع تُحَدِّدً في مستوى 1.9 دولار كحد أدنى للنفقات لتسديد الحاجيات الدنيا في اليوم لكل فرد أي ما يقابل حوالي 5.4 دينار في اليوم. وعلى هذا بالنسبة للبنك الدولي يوجد في تونس حوالي مليوني تونسي فقراء يعيشون بأقل من 9 دنانير في اليوم، وحوالي نصف مليون ضحايا الفقر المدقع. بالتالي يعتبر البنك العالمي أنَّ نسبة الفقراء تتراوح بين 16% و18% في تونس سنة 2015 ويصنف تونس من أكثر البلدان فقرًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA).
2 ـ سوريا في المشرق العربي:
كشف برنامج الأغذية العالمي التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة، أنَّ نحو 90% من العائلات السورية تتبع استراتيجيات وأساليب تأقلم سلبية للبقاء على قيد الحياة. وبيّن هذا البرنامج أنَّ 84% من العائلات في سوريا فقدت مدخراتها بعد نحو عقد من الحرب، إضافةً إلى أنَّ 4.8 مليون سوري يعتمدون على المساعدات الغذائية من برنامج الأغذية العالمي للبقاء على قيد الحياة.
كما كشفت بيانات صادرة عن برنامج الأغذية العالمي في شباط الفائت، أنَّ نحو 12.4 مليون شخص في سوريا، أي حوالي 60% من السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في "أسوأ"حالة أمن غذائي شهدتها البلاد على الإطلاق.
دول كثيرة استطاعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة أن تقول وداعاً للفقر، من خلال خطط للتنمية، وضعت من أجل التقليل من المسافة التي تفصل بين الطبقات الاجتماعية. وهو ما أدى إلى شيوع نوع من الرفاهية الاجتماعية والذي انتقل بشعوب تلك الدول إلى مرحلة غادرت فيها العالم القديم منتمية إلى عصر العولمة الحديث.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، هناك حاجة إلى أكثر من عشرة مليارات دولار لعام 2021، من أجل دعم السوريين المحتاجين بشكل كامل، وهذا يشمل 4.2 مليار دولار على الأقل للاستجابة في سوريا، و5.8 مليار دولار لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم في المنطقة.
ويعاني السوريون على مختلف مناطق إقامتهم في سوريا من ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، مع تراجع القدرة الشرائية بسبب زيادة نسب التضخم وارتفاع الأسعار، نتيجة عدة أسباب أبرزها العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد وخاصة حزم عقوبات قانون "قيصر" الأمريكي.
في العلاقة بين الفقر والبطالة
هناك علاقة عضوية بين الفقر والبطالة في البلدان العربية، إذ تُعتبر البطالة من بين أهمّ التحدّيات التي تُواجِه الدول العربية قاطبة، باعتبارها ظاهرة تمسّ عشرات الملايين من العرب، ومن مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في الوطن العربي. وتُعَدّ البطالة السبب الأوّل لتفشّي ظاهرة الفقر في الدول العربية، وما ينجرّ عنها من آفاتٍ اجتماعية خطيرة تهدِّد أمن المجتمعات العربية.
وفي ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وتداعياتها العربية، تعاني اقتصادات الوطن العربي في معظمها من البطالة التي باتت تهدِّد تماسك المجتمعات العربية واستقرارها، لما ينتج عنها من تأثيرات مدمِّرة تنعكس على الجانب الاجتماعي بالدرجة الأولى، ثمّ الجانب الاقتصادي الذي سيُحرم من طاقات بشرية تصنَّف من ضمن الطّاقات المُعطَّلة. بينما تقتضي الديناميّة الاقتصادية الاستغلال الأمثل لهذه الطّاقة الإنتاجية المُعطَّلة، من أجل دفع عجلة التنمية إلى الأمام للخروج من أزمة الفقر والتخلّف التي تَسِم الدول العربية. وممّا زاد أزمة البطالة استفحالاً في الوطن العربي، دخول الاقتصادات العربية في سيرورة العَولمة اللّيبرالية المتوحّشة، واتّساع هوّة الاختلالات الهيكلية لاقتصاداتها.
تُعتبَر البطالة التي تفوق نسبتها الـ 20% في الوطن العربي مقابل 6 % عالميّاً، من أخطر المشكلات التي تُواجِه الدول العربية. ومن المتوقَّع أن يصل عدد المتعطّلين عن العمل خلال العام 2021إلى 50 مليون عربي، ما يتطلّب استحداث 5 ملايين فرصة عمل سنويّاً لمُعالجة هذه المشكلة الخطيرة. وتعاني الدول العربية هوّة واسعة في مستويات الدخل والمعيشة، ما أدّى إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 14 %؛ وإذا ما بقيت معدّلات النموّ في الناتج المحلّي العربي منخفضة نسبيّاً، فكيف سيتمّ توفير فرص العمل وتوظيف الإمكانات الهائلة للشباب العربي في التنمية الاقتصادية؟
في العلاقة بين الفقر والتوزيع غير العادل للثروة
إنَّ تنامي ظاهرة الفقر له علاقة بالتوزيع غير العادل للدخول والثروات على جميع الصعد في الدول العربية. فقد أظهرت الدراسات التي تناولت ظاهرة الفقر،العلاقة السلبية بين سوء توزيع الدخل والثروة من ناحية، والنموّ الاقتصادي من ناحية أخرى. فالنموّ الاقتصادي قادر على أن يكون أداةً قويّة للقضاء على الفقر، وذلك، من خلال زيادة الإنتاجية التي تقود بدَورها إلى زيادة دخول الفقراء. فمن الناحية التاريخية، كان النموّ القومي المطّرد للناتج المحلّي الإجمالي مُقترناً بزيادة الأجور والإنتاجية، وكان أحد الأسباب المهمّة التي ساعدت الدول الصناعية على الخروج من الفقر. وفي العقود الأخيرة، أسهمت المستويات العالية من النموّ الاقتصادي في بلدان شرق وجنوب آسيا في تخفيض نسبة الفقر فيها.
وهناك إجماع بصفة عامّة على أنّ النموّ الاقتصادي يُعتبر من الضرورات الأساسيّة للحدّ من ظاهرة الفقر، ولاسيّما أنّ الاقتصادات التي تنمو بسرعة، تكون فرصتها في التغلّب على الفقر أكبر من فرصة البلدان التي ينخفض فيها الدخل السنوي. والأمثلة على البلدان التي نجحت في تخفيف حدّة الفقر تشير إلى وجود علاقة عكسية بين النموّ الاقتصادي وتخفيف حدّة الفقر. إنّ النموّ الكبير في الإنتاج يُسهم في تأمين العمل لأعداد الشباب التي تخرج إلى سوق العمل كلّ سنة وفي تسهيل وصولهم إليه، فضلاً عن تأمين العمل لأكبر شريحة من الناس التي تترجم فاعليّتها بقدرة شرائية أكبر.
إن التباين في النظر إلى أهمية الفقر يعود إلى التباين في توزيع الدخل، ولاسيما ذلك الجزء الذي يسمى (الفائض) والذي يتحقق من النشاط الاقتصادي في البلدان العربية متوسطة الدخل، ومن (الريع) في البلدان النفطية، ويقود الفقر إلى تفشي ثقافته، التي تؤدي في النهاية إلى إحساس غالبية المهمشين ولا سيما الشباب منهم بالغربة عن وطنهم وتطلعهم إلى الهجرة منه. كما يؤدي عدم المساواة إلى صراعات تفيد حركة المجتمع في سعيه إلى الحداثة والتقدم، بسبب استبعاد كتلة بشرية ضخمة هي مجموع الفقراء والتي تؤلف الغالبية من عدد السكان في أي بلد عربي (ما عدا البلدان النفطية).
وحين ينتشر الفقر على نطاق واسع جداً تسود ثقافته، ويصبح من بعد ذلك مستحيلاً القضاء عليها. وفي إطار اقتصاد السوق تصبح الفئات الرأسمالية هي المسيطرة على العملية الاقتصادية برمتها.
يقول الباحث عصام شيخ الأرض: "في ظل العولمة القادمة رياحها من البلدان الصناعية المتقدمة سيطرت الطبقة الرأسمالية العربية القليلة العدد نسبياً على الحكم في أكثر البلدان العربية وطبقت مبادئ الليبرالية الجديدة وأفكارها. وبسبب ذلك انقسم المجتمع العربي إلى فئتين الأولى تسهم في تنمية الاقتصاد العالمي وتنامي احتكاراته، والثانية قاصرة عن تنمية اقتصاداتها المحلية، وكلا الأمرين يؤديان في النهاية إلى تفعيل إنتاج آليات الفقر وتوسيعه. وتسيطر الفئة الغنية على إدارة مرفق النفط في البلدان النفطية، وفي البلدان العربية متوسطة الدخل. وبسبب ذلك يستبعد الفقراء من المشاركة في أدارة الاقتصاد مما يؤدي إلى تنامي الصراعات والعنف في المجتمعات العربية" (ص103).
الإعلام العربي من الاستقلال إلى التبعية.. قراءة في كتاب
رؤية جديدة للديمقراطية غير الوافدة البرّانية من الغرب (1من2)
الكاتب والسلطان من الفقيه إلى المثقف.. أية علاقة؟