كتب

قراءة في علاقة الأيديولوجيا بالحداثة عند رواد الفكر السلفي

محمد صالح المراكشي: الحركة الإصلاحية الأولى كانت ردة فعل على ظهور الحضارة الغربية الصناعية

الكتاب: الإيديولوجية والحداثة عند رواد الفكر السلفي
المؤلف: د. محمد صالح المراكشي
الطبعة الأولى: 1992
الناشر: دار المعارف للطباعة والنشر
عدد الصفحات: 280


بغضّ النظر عن المآلات السياسية والاقتصادية الكارثية التي قد تقود إليها الإجراءات غير الدستورية التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 تموز (يوليو) 2021، وما رافقها من استفراد بالسلطة التنفيذية بما يمثل نقضا لدستور 27 كانون الثاني (يناير) 2014، وفق تأكيد خبراء في الدستور، خاصّة في ظل تعطيل العمل النيابي إلى "حين إشعار آخر"، فإن الارتياح الشعبي غير الخافي، على الأقل في الأيام الأولى للانقلاب، لزحزحة حركة النهضة عن دفة الحكم الذي تسمرت به منذ انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2011، وإن بنسب مشاركة متفاوتة من حكومة إلى أخرى، جدير بالدراسة والتقييم.

الدراسة والتقييم المطلوبان، يجب ألّا يقتصرا على ما هو متعلق بالمستقبل السياسي للحركة الإسلامية التونسية الأعرق في المنطقة المغاربية فحسب، وإنما يتعدّاها إلى ما هو متعلق بمصير كل التيار الفكري الإسلامي سليل المدرسة السلفية الإصلاحية، الإخواني على وجه التحديد، في المنطقة العربية بعد عقود من الجاذبية الشعبية والانتشار المطّرد في صفوف النخبة وشرائح اجتماعية واسعة، خاصّة مع تزامن التململ الشعبي في تونس من سلبية المنجز الاقتصادي لحزب حركة النهضة، مع الهزيمة المدويّة التي مني بها حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي نقلته من حزب حاكم حائز على تمثيلية برلمانية مريحة إلى حزب هامش، بتمثيلية هزيلة فاجأت أنصاره قبل خصومه.

المرجعية السلفية الإصلاحية على مشرحة النقد

الحدثان البارزان في تونس والمغرب، عُدّا زلزلة مدوية للحركات الإسلامية العربية ذات المرجعية السلفية الإصلاحية، التي لمع بريقها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما يدفع إلى إعادة التفكير في هذه الأزمة التاريخية الاجتماعية وتقويم كل التيارات الفكرية، التي اخترقت الفكر العربي المعاصر وكانت مادة له بما فيه التيار الديني الإصلاحي (السلفي الجديد) وليتجدّد السؤال: أيهما أفضل لتحقيق النهضة والتقدم: هل هي المنظومة الفكرية القومية أم الإسلامية أم الاشتراكية الماركسية أم الليبرالية؟ وذلك بهدف إعادة النظر في طبيعة هذه المعركة، وتحديد القوى الفاعلة فيها في سبيل الوصول إلى رؤية فكرية واضحة للمستقبل العربي، بحسب تعبير د. برهان غليون في مؤلفه "اغتيال العقل".
 
في ظل تنامي موجة المعاداة النخبوية للتيار الفكري الإسلامي الحالي، سليل التيار السلفي الإصلاحي الأول، والمناداة بإقصائه وتجاوزه لعدم صلاحيته لدى طيف واسع من النخبة التي تنسب لنفسها الحداثة، ولا تجد حرجا في مصادمة الطّروحات المجتمعية المحافظة، ينبري التساؤل: ما مدى صلاحية الثقافة الدينية الإسلامية التي بشّر بها رُوّاد التيار السلفي الإصلاحي، وهم أساسا جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، الذين قادهم الأفغاني منذ نهاية القرن 19، في ظلّ التبني المتواصل لأدبيات الجيل الإصلاحي الأوّل من قبل الحركات الإخوانية، التي طالما سوقت لنفسها على أنها امتداد طبيعي لذلك الجيل، إن لم يكن الامتداد الوحيد من دون سائر بقية التيارات الفكرية العربية؟ 

التساؤل السابق ليس استجابة "بافلوفية" لأمراض النخب "العلمانية" وعقدها، وهي التي لم تبرح تقييماتها مربّع الانطباعية والإسقاطات الإيديولوجية في ما يتعلق الموضوع الهووي، وإنّما تساؤل يفرضه الحديث المكرر عن إجهاض مشروع النهضة العربية الحديثة المعاصرة، وظهرت عدة كتابات في هذا الباب، ترمي إلى إعادة النظر في المفاهيم والنظريات الإصلاحية التي سادت مطلع القرن 19 للبحث عن الوعي الموضوعي بأبعاد المشكلة التاريخية الاجتماعية، التي يعيشها العرب المسلمون في عصرهم الحديث والمعاصر، والرؤية الواضحة والتصور السليم اللذين يخلقان إرادة الفعل وبإمكانهما تحقيق النهضة والتقدم الفعليين، اللذين كانا مسيطرين على مسيرة نهضة العرب الأولى أيام العباسيين  والدولة الفاطمية بالمغرب ومصر والخلافة الأموية بالأندلس قبل عصر الانحطاط، أي العصر المغولي العثماني المملوكي.

في هذا الإطار، يتنزّل كتاب "الإيديولوجية والحداثة عند رواد الفكر السلفي" للدكتور محمد صالح المراكشي، طبعة دار المعارف للطباعة والنشر، الذي يرى أن الاهتمام بتراث السلفيين الجدد قبل الحرب العالمية الثانية، ودراسته دراسة موضوعية نقدية من أهم المسائل المطروحة على الباحثين اليوم. وأن غموض تطور مسيرة الفكر السلفي الجديد منذ ظهور نواميسه الأولى على يد رائده جمال الدين الأفغاني، و"وسم السلفية على أنها حركة فكرية ماضوية رجعية تجري ضد تيار التاريخ الإنساني العام هو حكم إطلاقي يحتاج إلى كثير من التنسيب".

يرى محمد صالح المراكشي أن الحركة الإصلاحية الأولى كانت ردة فعل على ظهور الحضارة الغربية الصناعية منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن 19 م في أوروبا، ما أدّى إلى هيمنتها شيئا من الناحية السياسية والعسكرية والتجارية على العالم المحيط، بما فيه العالم الإسلامي الذي كان يرزح إلى وقت قريب (1924) تحت الامبراطورية العثمانية، معلنا بذلك انتهاء الحضارات الكلاسيكية  القديمة ودخولها في أزمة تاريخية طويلة الأمد، ولم تفلت المدنية العربية الإسلامية من شراك هذه الأزمة، وهذا ما جرّ إلى انحلال الامبراطورية العثمانية (1323 ـ 1924).

في ذات الإطار، يؤكد المراكشي أنه في إطار البحث عن توازنات حضارية وثقافية جديدة تحت ضغط مرحلة الاستعمار التقليدي، حاول المثقفون العرب الدينيون (الحركة السلفية الجديدة) وغير الدينين من الليبراليين منذ منتصف القرن 19، اصطناع "إيديولوجيات" إصلاحية لإعادة تكوين بناء الحضارة الإسلامية الجديدة، وتشكيل نفسها في العالم الحديث، الذي تهيمن عليه ثقافة الغرب الأوروبي وحضارته كذات عاملة ومستقلة عنه، وهو ما عبر عنه جورج أنطونيوس بـ"يقظة العرب". وأنه بظهور دولة الاستقلال أواسط خمسينيات القرن الماضي، طرحت إشكالية النهضة والتقدم والصراع من جديد حول كيفية تحقيقها عمليا داخل العالم العربي الحديث. وهو السؤال نفسه الذي طرح من طرف الجيل الأول من المصلحين منذ أواسط القرن 19 (طرح السؤال نفسه بعد حوالي نصف قرن واحد).

نشأة التيار الإصلاحي السلفي

التيار الفكري المعني بالدراسة والنقد في هذا التقرير، هو التيار الإصلاحي السلفي الجديد في المشرق العربي (1870 ـ 1940) أي التيار الذي يهدف البحث فيه عن مدى صلاحية أو عدم صلاحية الثقافة الدينية الإسلامية التي بشر بها رواد هذا التيار، وهو أساسا الأفغاني وعبده ورشيد رضا، في توفير القيم والمفاهيم الفكرية المساعدة على التغيير العقلي والعلمي والسياسي والتكنولوجي لحصول النهضة والتقدم، وإحداث شكل من الممارسة الجديدة العملية في العهد المعاصر لأرباب السياسة ورجال الأعمال، إذ هناك من المفكرين العرب من ينادي بإقصاء هذا التيار الفكري الديني عن الميدان وتجاوزه لعدم صلاحيته، فخلق صراعا فكريا وسياسيا حادا بين أنصار الحداثة والأصالة أصحاب هذا التيار، وكان ذلك محور كثير من الدراسات النقدية التحليلية، وكاد البحث والنقاش يشق المثقفين العرب بل المجتمع العربي إلى معسكرين متناحرين، لكل رؤيته الخاصة للماضي والحاضر، والتراث والحداثة والعقل والعقلانية، وأهدافه وشعاراته السياسية والاجتماعية العامة، وكوّن هذا مركز تفجر أزمة هذا المجتمع وتعثر مسيرته النهضوية الحالية. فكان الصراع حادا مثلا منذ نهاية القرن الماضي بين دعاة السلفية الإسلامية الجديدة (الأفغاني ـ عبده ورشيد رضا) ودعاة التطورية العلمانية (شبسيلي الشميل ـ فرح الظون وسلامة موسى) الموالين للثقافة الغربية الحديثة.

واستمرت هذه المناقشة صارمة طيلة النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، متخذة شكلا سياسيا حاسما يتواجه فيه أنصار الثقافة الإسلامية والعروبة وأنصار التعاون والتعامل مع الغرب والاندماج الكلي في ثقافته، وفق تعبير أنور الجندي في مؤلفه الفكر العربي في معركة التغريب والتبعية، فكان الصراع الحاد بين التيار الإسلامي والتيارات العلمانية الليبرالية أو الماركسية أو القومية اللائكيين.

والحال أن جوهر القضية يكمن بالنسبة إلى التيارات كافة، وبالخصوص التيار الديني السلفي موضوع الدراسة في الإيمان أو عدم التسليم بعالمية الحضارات واتصالها، وكذلك خطية التاريخ وتصاعده عبر الزمن وعدم تكرر فتراته ومراحله، أم لا؟ وهذا التيار لا يؤمن بعالمية الحضارة الأوروبية، فهي حضارة غربية محض صالحة للغرب دون غيرها من الربوع، وعالميتها شكلية ظاهرية فحسب، لا تحمل إلا الهيمنة والسيطرة التي تهدف إلى القضاء على الحضارات الأخرى، وقتل  خصوصيتها المحلية وإزالتها تماما من الوجود، وفق تأكيد فهمي جدعان في مؤلفه "أسس التقدم عند مفكري الإسلام".

يفترض أصحاب الرؤية السلفية الدينية أن الثقافة العربية الإسلامية والقيم المرتبطة بها (الحرية ـ العلم ـ العقل ـ العمل ) لا يمكن أن تكون سببا مباشرا في انحطاط حضارة العرب في العصر الحديث، وعدم قدرتها على تحقيق التقدم المنشود، بل الانحطاط نفسه ناتج في نظر هؤلاء عن التخلي عن هذه الثقافة وقيمها وعدم فهم أصولها بصورة صحيحة للجهل بالتراث وقيمه الحقيقية. فإحياء التراث الديني والثقافي عنصر أساسي وضروري لتحقيق النهضة والتقدم عندهم، وفق تأكيد فهمي جدعان في المرجع السابق نفسه. والملاحظ عند هؤلاء السلفيين الجدد، اختصار الثقافة العربية في وجهها الديني العقائدي أساسا؛ أي في الدين الإسلامي فقط، ففيه التعبير الصحيح عن روح الحضارة العربية وثقافتها الأصلية، ولذلك اقتصر دفاعهم عن مختلف مظاهر الثقافة الدينية العليا أساسا، قبل أي شيء آخر.

في ضرورة المراجعة النقدية الفكرية العميقة للتراث 

يرى السلفيون الجدد أنه لم تتهيأ للتراث العربي الإسلامي الفرصة التاريخية ليصبح جزءا مندمجا في عقول الشعوب العربية الإسلامية، ويصبح من ثم جزءا راسخا من تكوين الإنسان العربي الذهني الحديث في المنطقة العربية، بل نافسته ثقافة أجنبية أخرى في نخبة منه وران الجهل المطبق على عامة الناس في المدن والأرياف. وذلك يجر إلى أن التراث نفسه في حالة الانقطاع التاريخي، يصبح محتاجا بالضرورة إلى مراجعة نقدية فكرية عميقة، حتى يعود إليه لمعانه وتأثيره في النفوس بعد حصول مزيد من عمليات التعديل والتصحيح فيه، وهي الرؤية الصحيحة التي تؤدي إلى تقدم فكري صحيح، ومعنى ذلك أن الإحياء الحقيقي للتراث الثقافي الديني، كما رامه السلفيون الجدد، إنما هو فحصه فحصا نقديا عقلانيا يحقق تجاوز صوره الجامدة منذ القديم، واتخاذه سلّما لمزيد الصعود والارتقاء الذهني؛ وهو الشرط الأساسي لكل ازدهار نهضوي.

يقول المراكشي؛ إن دعاة السلفية الجديدة، وعلى رأسهم الأفغاني، سارعوا بالنداء الحار لإعادة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ومقاومة عظيمة للتقليد، وذلك عقب احتلال أوروبا لبلاد الإسلام وبروز بعض المخترعات كالراديو والتلغراف ووسائل المواصلات السريعة. فقد صاح الأفغاني قائلا وهو يرد على من أنكلر الاجتهاد رافضا ومستغربا ومتسائلا: "ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سدّ باب الاجتهاد؟ وأي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين وأن يهتدي بهدي القرآن؟ أو أن يجدّ ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه؟ وفق ما ورد في مؤلف الأفغاني "من الخاطرات".

فكأنما عني الأفغاني بهذا الاستفهام الاستنكاري؛ تقريرا قويا لمشروعية الاجتهاد في عصر المسلمين الحديث لخدمة مصالح المسلم الحيوية، في عالم التقنيات والصناعات والمواصلات السريعة بين الأمم؛ فلا يمكن ـ في نظره ـ أن يكون الاجتهاد ضيق النطاق مقتصرا على استخراج الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، كما ذهب إلى ذلك مثلا الإمام الشوكاني قبله عندما عرّف الاجتهاد بقوله في كتابه "إرشاد الفحول" بـ "واجتهاد الرّأي استخراج الدليل من الكتاب والسنة".

إن موضع الحديث عن الاجتهاد يندرج ضمن الكلام عن الحداثة والتجديد في العهد المعاصر بمختلف الربوع الإسلامية، التي تشكو تخلفا اقتصاديا مهولا وقصورا معرفيا واضحا، والتحديث تجديد متواصل للفكر والحياة، وهو يستهدف تجديد فهمنا القرآن ما دامت الحقيقة عند المسلمين مصدرها الوحي. ويعني الفهم الجديد لروح الكتاب والسنة وصياغة فقه جديد لمعنى الرسالة القرآنية وأحكام الإسلام، ويتطلب ذلك حركية كاملة في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية المعاصرين بصورة أقوى وأعمق مما تحركت عليه في الماضي وحتى الآن، حتى يكون الاتصال كاملا بين الدين والحياة في جميع جوانبها.

الأيديولوجيا والحداثة عند الأفغاني وتلميذيه

اشتغل المؤلف خلال هذا الكتاب على إشكالية رئيسية، من خلال دراسة تفكير الأفغاني وعبده ورشيد رضا، تتعلق بالإيديولوجية من جهة والحداثة من جهة أخرى؛ سعيا منه للبحث عن مدى توفرهما في تفكير الأفغاني وتلميذيه، وقد تم تصوير الإشكالية المذكورة في صورة السؤال المحوري: هل شكّل تفكير هؤلاء الأعلام الثلاثة الإيديولوجية؟ وما نصيب تلك الإيديولوجية من الحداثة إن وجدت بالفعل؟ إذ إنّ مشروع هؤلاء كان في ما تبين له بعد البحث والدراسة، صياغة فكر مسلط على الواقع العثماني المتردي؛ قصد تغييره في تجاه ديني صريح هو الأفضل والأرقى في تصورهم، حتى وإن تجاهلوا بعض الحقائق التاريخية الدامغة في بعض الأحيان، مثل بروز الكيانات الوطنية الإقليمية الضيقة على الصعيد السياسي، وهي تناقض طولا وعرضا دعوتهم الملحة إلى إحياء الخلافة الإسلامية والترابط برباط الجامعة الإسلامية الموسعة مثلا، فقد كان تفكيرهم في نهاية المطاف شموليا.

ويضيف المراكشي بالقول؛ إن النزعة الإيديولوجية ظاهرة فيه ومسيطرة عليه، وكانت أفكارهم التي سجلوها في "العروة الوثقى" أو بعض المقالات في "الأهرام" أو "الوقائع" أو "مجلة المنار"، ترمي كلها بوضوح إلى تغيير ذلك الواقع العثماني المتردي تحت نير الاحتلال الأوروبي المسلح، وفق صورة مثالية مبنية على أفضلية المقدّس والعقيدة الدينية في تغيير حياة الإنسان العربي المعاصر نحو الأرقى والأحسن.

مقومات الأيديولوجيا الإصلاحية

ينتهي المراكشي إلى أن أهم مقومات إيديولوجية التيار السلفي الإصلاحي متمثلة في أربع مقومات رئيسية هي: العنصر الأول هو إحياء النظام الخلافي والمناداة بالجامعة الإسلامية ومقاومة الكيانات الوطنية الضيقة، التي زرعها المحتل الأوروبي في أرض العروبة والإسلام على الصعيد السياسي لإعادة بناء الأمة الإسلامية القديمة. والعنصر الثاني يتمثل في تبني التعليم الديني قاعدة أساسية في كل تكوين الناشئة العربية المسلمة، مع شيء من الحرص على تطعيمه ببعض العلوم العصرية المفيدة. أما العنصر الثالث من هذه الإيديولوجية، فهو التمسك بالمعاملات المالية اللاربوية وضرورة تدخل الدولة لمنع الاحتكار الرأسمالي، وتجميع الثروة مما هو مناف لأخلاقية الإسلامية في مجال المعاملات الاقتصادية العامة والمناداة بالاشتراكية الإنسانية المعتدلة. أما رابع هذه الأيديولوجية، فهو تعلق السلفية الجديدة بالدور التقليدي للمرأة في البيت والمحافظة على التقسيم القديم بينها وبين الرجل في مجال العمل، داخل نظرة لم تتطور كثيرا للنظام الأسري الإسلامي القديم، وهو نظام أبوي صريح.

يقول المراكشي؛ إن السلفيين الإصلاحيين حاولوا تصور مشروع بناء مجتمع إسلامي حديث وناهض، دون اعتماد أدوات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر مثل آليات الفكر الفلسفي الحر والتأثر بمجاري العلوم الإنسانية الصحيحة وقانون النسبية في الحكم على الأشياء والظواهر، والإيمان بفكرتي التطور والتقدم اللا محدودين.

إن فكرة الحداثة عند السلفية الإصلاحية، تكمن في مدى نجاحهم في استغلال خلاصة العلوم اللإنسانية في عصرهم ونجاعة تفكيرهم لتحقيق عملية صعبة وعسيرة للغاية، هي التأليف العميق والذكي بين ركائز الإسلام وثقافته، المبنية على الروح والأخلاق والتسامي الديني ومقومات الثقافة الأروبية الحديثة.

الإسلام ديانة سماوية كاملة لا يمكن أن تناقض معطيات العصر

بالرغم من نقده لفكرة الحداثة عند السلفية الإصلاحية، يؤكد د. محمد صالح المراكشي قصور رؤية الكثيرين وفهمهم فيما يتعلق بنظرتهم وتقييمهم للفكر السلفي الجديد. فهذا التيار الفكري العريق في عصر النهضة، الذين تبنوا العقيدة والدين منطلقا جوهريا كما رأينا ومصادرة رئيسية في عملية الإصلاح، قد تمسكوا بأصول الإسلام ومقومات التراث العربي القديم لاستلهامها عقلانيا واستنباط حلول دينية لمختلف قضايا العرب المسلمين العديدة، باعتبار العقيدة الدينية المحمدية الصافية التي لم تكدرها المذهبية الدينية ولا طريقة المتصوفة، يمكن أن تكون قاعدة صلبة في كل عملية إصلاح يرومها المسلمون، دون الابتعاد عن جذورهم التاريخية والذوبان في الآخر، وذلك اعتقادا منهم أن الإسلام ديانة سماوية كاملة لا يمكن أن تناقض معطيات العصر الحديث الأساسية في المجتمع الأوروبي المهيمن، وهو حرية العقل والتفكير والعلم التجريبي والتقنية والديمقراطية السياسية والاشتراكية الاجتماعية المعتدلة؛ لأنها كلها من روح الإسلام ومبادئه العليا ومقاصده السامية في تصوره. 

بهذا ينتهي د. محمد صالح المراكشي، إلى أن تصور الكثير بأن الفكر السلفي الجديد في المشرق العربي أو الغرب تيار إصلاحي رجعي، يريد أصحابه العودة بالمسلمين إلى الوراء والماضي وقلب اتجاه التاريخ، ويمكن أن يعطل مسيرتهم النهضوية ويقضي عليها، إنما هو تصور قاصر وانطباعي لا غير.

 

إن السلفيين الإصلاحيين حاولوا تصور مشروع بناء مجتمع إسلامي حديث وناهض دون اعتماد أدوات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر مثل آليات الفكر الفلسفي الحر والتأثر بمجاري العلوم الإنسانية الصحيحة وقانون النسبية في الحكم على الأشياء والظواهر والإيمان بفكرتي التطور والتقدم اللا محدودين.

 



يرى د. محمد صالح المراكشي أن التفكير السلفي الجديد بالمشرق العربي قبيل الحرب العالمية الثانية، لم يكن مجرد أفكار ضبابية ومشتتة هنا وهناك في "العروة الوثقى" أو "المنار"، وإنما أصبحت عنده بعد الدراسة التي خصّها سابقا لتفكير رشيد رضا، والدراسة التي بين أيدينا تمثل "أفكارا منظمة بصورة واعية من أصحابها الثلاثة، ضمن جهاز فكري شامل متماسك الجوانب يخضع إلى فكرة قاعدية جاهزة للتطبيق والعمل، استغلها الإخوان المسلمون في مصر (1927) وجمعية العلماء المسلمين بالجزائر (1931) التي تزعمها عبد الحميد بن باديس (توفي 1940) بالخصوص.

ويعتقد المراكشي أن هذه الأيديولوجية السلفية لم تكن قيمتها الإصلاحية إلا ظرفية محدودة لمقاومة الطريقة الصوفية الجامدة وآثار الاحتلال الغربي السلبية، ومساهمة أصحابها في إثراء الفكر العربي المعاصر. كما أن قيمة تلك الأيديولوجية بدت محدودة لأنها "خلت من إضافات فكرية طريفة في مستولى المفاهيم والنسق الفكري العام، تجعلها حديثة ومواكبة لحاجات المسلم المعاصر، رغم أن الأفغاني الرائد الأول لهذا التيار الفكري الأصلي في عالم النهضة، اتسم فكره بشيء كبير من روح الحداثة والثورة؛ مثل إيمانه بالعقل والتفكير الحر ووحدة الأديان في أهدافها ودعوته إلى فتح باب الاجتهاد في الدين والحكم الدستوري الصحيح في مجال إصلاح نظام الحكم والدولة".