في عددها لشهر تموز (يوليو) الماضي، ذكرت افتتاحية مجلة الجيش الجزائري أن "دولة مجاورة تتحرك وتعمل ضد الجزائر، لم تخف حقدها وكرهها لبلادنا، ليس من اليوم فقط، بل على امتداد قرون خلت"، قبل أن تضيف بالقول "من خان البطل النوميدي يوغرطة سنة 104 قبل الميلاد وسلمه إلى روما لتقتله؟ ألم يكن بوكوس ملك موريتانيا القيصرية، المغرب حاليا؟ من انقلب على الأمير عبد القادر في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1847 وتحالف مع العدو الفرنسي لحصاره؟ ألم يكن السلطان مولاي عبد الرحمن المغربي؟ ومن خان الزعماء الخمسة ووشى بهم إلى فرنسا شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1956 عندما كانت طائرتهم متوجهة من المغرب إلى تونس؟ ألم يكن ولي العهد المغربي؟ ومن هاجم بلادنا في أكتوبر 1963 وجراحها لا تزال تنزف لاحتلال مدينتي تندوف وبشار وضمهما لمملكته.. ألم يكن صاحب الجلالة وأمير المؤمنين الملك الحسن الثاني؟ ومن ومن ومن..؟
وفي 24 آب (أغسطس) الماضي، خرج وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، في ندوة صحفية، ليعلن أن الجزائر قد قررت قطع علاقاتها الديبلوماسية مع المملكة المغربية، في بيان طويل، استعاد خلاله الديبلوماسي المخضرم عددا من المحطات التاريخية التي اعتبرها دليلا على "استمرار الأعمال العدائية" للمغرب اتجاه بلاده.
رمطان لعمامرة لم يساير مجلة الجيش في تأريخها للعلاقات بين البلدين لفترة ما قبل الميلاد، واكتفى بسردية تاريخية منتقاة بدءا من حرب الرمال سنة 1963، وما ألحقته من خسائر فادحة بالجيش الجزائري، في اعتراف غير مسبوق يبدو أن السعي لتبرير خطوة القطيعة الديبلوماسية قد خففت من وقعه وتأثيره السلبي على الروح الوطنية ومعنويات القادة والجنود على حد سواء.
الأكيد أن "ملف العلاقات الجزائرية ـ المغربية بيد القيادة العسكرية ولا يمكن لرئيس مدني أن يبت فيه"، والكلام للضابط الأمني المنشق عن النظام كريم مولاي، الذي لم يدخر جهدا في التصريح لوسائل إعلام مختلفة بجزء مما يملكه من معلومات عن "تورط" مخابرات بلاده، التي كان منتميا إلى إحدى أجهزتها، في الهجوم الذي شنه مسلحون على فندق أطلس أسني بمدينة مراكش يوم 24 آب (أغسطس) 1994.
يومها شهد المغرب أول عملية إرهابية، أدت لمقتل سائحين إسبانيين، بعد أن اعتاد الجمهور على الصور المنقولة من الجارة الشرقية التي كانت غارقة في أتون حرب أهلية استمرت لعشر سنوات. كان الهدف حسب كريم مولاي "إعداد عمل لوجستي يهدف إلى تحقيق اختراق وإحداث ارتباك أمني بالمملكة المغربية". في نفس الأسبوع سقطت طائرة مدنية مغربية في رحلة داخلية بنواحي أكادير وقتل كل من فيها. "التحقيقات" أفضت إلى "رغبة" قائد الطائرة في الانتحار.
لم يكن مفاجئا ما ذهبت إليه الجزائر في خطوة قطع العلاقات مع الجار الغربي "المعتد بحليفه الصهيوني"، لكن التبريرات المقدمة هي ما يجعل إمكانية نجاح أية وساطة ممكنة في إقناعها على العدول عن موقفها الأحادي أمرا يكاد يكون مستحيلا. النظام الجزائري كان في حاجة إلى "عدو خارجي" يقيه شر السقوط في خلق "عدو داخلي" لما خلفه ذلك من مآس تشهد عليها أحداث "العشرية السوداء". النظام آثر اللعب على الحبلين معاً.
لم يكن مفاجئا ما ذهبت إليه الجزائر في خطوة قطع العلاقات مع الجار الغربي "المعتد بحليفه الصهيوني"، لكن التبريرات المقدمة هي ما يجعل إمكانية نجاح أية وساطة ممكنة في إقناعها على العدول عن موقفها الأحادي أمرا يكاد يكون مستحيلا.
والمغرب كان أكرم مما كان يتصور الباحثون عن طوق النجاة، فقدم لهم ما كانوا يرتجون من تجييش "الانتماء الوطني" أو بالإمعان في "الاستفزاز" أمام الداخل والخارج، في خطوات لم يعهدها النظام الجزائري من قبيل اليد الممدودة للمصالحة أو المساعدة التي تنتظر التأشير عليها من نظام ما كان ممكنا أن يقبل ما يعتبره "إهانة" لكبريائه وكبرياء مؤسسته العسكرية. لقد تغير المغرب، كما قال الملك محمد السادس في خطاب ثورة الملك والشعب، لكن كان حريا به أن يأخذ مشاعر حكام الجيران في الحسبان، فهذا التغيير هو ما يربك أصدقاءه قبل أعدائه المعلنين والمستترين.
اتهام المغرب بدعم الإرهاب من خلال منظمتي "الماك" و"رشاد" الجزائريتين التي يقطن قادتهما في فرنسا وبريطانيا أمر غير مفهوم. فحرِيّ بالاتهام أن يوجه لدول الاستضافة قبل غيرهما. فرنسا رفضت تسليم فرحات مهني رغم مذكرة التوقيف الصادرة عن السلطات الجزائرية، وبريطانيا سارعت إلى إخبار العربي زيتوت، وهو على المباشر، بخطر داهم يهدد حياته على الأراضي البريطانية.
أما الحديث عن القضية الفلسطينية لدغدغة المشاعر فلم تعد ورقة تنطلي على الشعوب. وعندما يعتبر رئيس الديبلوماسية الجزائرية تصريحات وزير خارجية الاحتلال من الرباط بخصوص الجزائر وإيران خطوة "عدوانية" فما ذاك إلا حق أريد به باطل. فقد كان أجدر به لجم تصريحات ممثلي حركة البوليساريو المسلحة وإنهاء تحركاتها داخل التراب الجزائري، وهي توجه مدفعيتها وقنابلها الصوتية في اتجاه المغرب اليوم بعد أن شنت ضده حربا استمرت لعقود بتمويل ودعم جزائري.
لام كثير من المحللين وزير الخارجية المغربية على عدم تعقيبه على تصريحات يائير لابيد. لكن ذاكرة هؤلاء قصيرة وسمعهم ثقيل. لقد قال لابيد "نحن نتشارك بعض القلق بشأن دور دولة الجزائر، التي باتت أكثر قرباً من إيران". و"نحن" هنا تعني الطرفين المجتمعين، فكيف لناصر بوريطة أن يعقب، والعلاقات المغربية الإيرانية مقطوعة منذ 2018، بسبب ما اعتبره المغرب يومها "ثبوت قيام حزب الله وبتنسيق من سفارة إيران في الجزائر بتقديم كل المساعدات لجبهة البوليساريو لتكوين قيادة عسكرية، وتدريب عناصر من الجبهة على الحرب فضلا عن تسليمها أسلحة".
معطيات قدمها الوزير المغربي لنظيره الإيراني جواد ظريف في العاصمة طهران دون جواب، فكان قطع العلاقات باعتبارها تشكل "تهديداً للأمن الوطني للمملكة المغربية"، وهو نفس ما ذهب إليه سفير طهران بالجزائر، تعليقا على المستجد بين الجارين المغاربيين، بالقول "بأن القضايا التي أدت إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، يجب أن تحظى باهتمام جدي وأن تلقى الرد المناسب على مخاوف الجزائر بشأن التهديدات الأمنية والمس بوحدتها وسيادتها".
لا يختلف اثنان أن المنتظر هو البحث في القضايا التي أدت إلى القطيعة الديبلوماسية، فلا فائدة ترجى من عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل 24 آب (أغسطس) 2021 أو ما قبلها في 24 آب (أغسطس) 1994. فما حدث في التاريخين مجرد استكمال لخطوات بدأت بحادث إرهابي تلاه فرض تأشيرة، لا تزال السلطات الجزائرية تطالب بالاعتذار عنها، فإغلاق حدود ثم قطيعة ديبلوماسية بعد ثلاثة عقود.
أما تاريخ الأزمات بين البلدين فبيان لعمامرة ومقال مجلة الجيش تكفلا بالبحث فيه وأسهبا. وفي انتظار ذلك، يجوب رمطان لعمامرة القارة الإفريقية، التي ترتبط 46 دولة من دولها الـ55 بعلاقات مع الكيان الصهيوني دون أن يثير ذلك روحه القومية، عارضا التوسط في حلحلة ملف سد النهضة، أو تقديم تجربة بلاده أمام الفرقاء الليبيين مع التبشير بفقه "المؤامرة"، أو دعم السلطة التونسية "الجديدة" ومباركة خطواتها مقابل تسليم لاجئين "مطلوبين"، أو التحضير لـ "قمة" تحيي التضامن العربي.
مجهود كان أجدر بالديبلوماسية الجزائرية استثماره في حلحلة وضع علاقاتها بالجار الغربي الذي يبدو، بالمناسبة، غير معني أو على الأقل غير مستعجل للأمر، فقد "أخذت المملكة المغربية علما بالقرار الأحادي للسلطات الجزائرية بقطع العلاقات الديبلوماسية مع المغرب" وانتهى.
العلاقات المغربية ـ الجزائرية حالة مزمنة مستعصية لا يمكن حلها إلا بجلوس طرفي الصراع إلى التفاوض دون شروط أو أحكام مسبقة لعل ذلك يمنحهما الفرصة لبسط وجهات النظر المختلفة والبحث عن مبادئ عامة يمكن البناء عليها من جديد. هذا مجرد سيناريو حالم لا مجال له ليتحقق إلا بمعجزة في زمن انتهت فيه المعجزات.
وضعية الستاتيكو ليست مريحة لمن ينفخون في الرماد ليبقى السبيل المتبقي حربا محدودة يجرب فيها الجانبان محدوية قوتيهما العسكرية ويعيدا قراءة موازين القوى، أو حربا شاملة تنتهي بإذعان مرحلي لأحد الطرفين مع ما يمثله الخيار من إهدار للمقدرات وإذكاء للضغائن والأحقاد ورهن لمصير أجيال قادمة لعقود. أما من يسعى للوساطة فما عليه إلا أن يجيب على هذا السؤال الإعجازي: من خان البطل النوميدي يوغرطة سنة 104 قبل الميلاد وسلمه إلى روما لتقتله؟
في الجواب يكمن مفتاح الحل.
تركيا وطالبان.. نقاط الخلاف ومسارات الالتقاء
ما قبل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان
طالبان.. المشاكل الحقيقية ستبدأ الآن