مازالت الأحداث تتطور سراعاً في أفغانستان وتكشف كل يوم عن جديد، إلا أن العنوان الأبرز في البلاد ما زال الغموض وعدم اليقين والمشهد المركب المعقد. ومما يعتريه الغموض الدور التركي في مستقبل أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، وعلاقات أنقرة بحركة طالبان، وبأفغانستان كدولة.
لدى إصرار طالبان على خروج القوات التركية المتواجدة في مطار كابول ضمن قوات الناتو مع تهديد ضمني ـ وأحياناً صريح ـ بإمكانية استهدافها، ذهبت بعض التقديرات إلى تركيا ستخرج تماماً ونهائياً من أفغانستان وبلا عودة. اليوم، تثبت هذه التقديرات أنها كانت متسرعة ولم تبن على قراءة صحيحة للوقائع والمصالح وقبل ذلك كله لتصريحات طالبان نفسها التي كانت تؤكد على رغبتها في علاقات جيدة مع تركيا والتعاون معها.
ورغم ذلك، وربما بسببه، تبدو علاقات تركيا بحركة طالبان مركّبة وشائكة نوعاً ما. ولذلك تتعرض تركيا باستمرار لانتقادات من طرفين وفي اتجاهين متناقضين. الأول ينتقد المسافة القائمة بين الجانبين وعدم اعتراف تركيا ـ حتى اللحظة على الأقل ـ بطالبان كطرف مسيطر أو حاكم في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، والثاني ينتقد إشادة أنقرة ببعض تصريحاتها وإجرائها حوارات معها. ومن الواضح أن الطرف الأول يريد تحالفاً بين الجانبين، بينما يريد الطرف الثاني قطيعة كاملة.
الطرف الأول ينظر للجانبين على أنهما "حركات إسلامية"، رغم خطأ هذا التقييم بشكل واضح في حالة العدالة والتنمية في تركيا مثلاً، وبالتالي يرى أن الواجب عليهما التحالف والتعاون وتنسيق الجهود في كافة المجالات. ولعل مما يدعم هذا التوجه لديه ما قيل وكُتِبَ عن الخلفية الفكرية والأيديولوجية لطالبان كتيار صوفي ماتريدي بل وحنفي المذهب، وهي الخلفية المتجذرة في الأناضول منذ الدولة العثمانية.
إن ما يحكم علاقة طالبان الطامحة لحكم أفغانستان من جديد وتركيا التي يحكمها العدالة والتنمية منذ عقدين أبعد ما يكون عن حدّية ثنائية التحالف والمقاطعة. بل هي علاقات مركّبة بمقدار تعقّد الأوضاع الميدانية والسياسية في أفغانستان وتشابك مصالحها وعلاقاتها الخارجية في الوقت الراهن ومستقبلاً.
بيد أن هذا التقييم أو الرغبة تغيب عنها اختلافات بل خلافات ثلاثة رئيسة بين الجانبين، والقصد هنا حركة طالبان في أفغانستان وتركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية:
الأول، نموذج الحكم الذي قدمه كل منهما. فعلى المستوى النظري، تقدم طالبان نفسها كإمارة إسلامية بينما العدالة والتنمية حزب سياسي حداثي تحت سقف الدستور التركي الذي يفرض العلمانية في البلاد، والتي يقول العدالة والتنمية إنه لا يرفضها وإنما يرفض الصيغة المتشددة منها وأنه يقدم تفسيراً أكثر تصالحاً لها.
وعلى المستوى العملي، فإن النموذج المنغلق والمتشدد الذي قدمته طالبان قبل الاحتلال الأمريكي - حتى بعد تنقيته من بعض المبالغات والشائعات غير الدقيقة - يتناقض مع العدالة والتنمية فكراً وخطاباً وممارسة.
الثاني، الناتو. فتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي الذي غزا أفغانستان تفعيلاً للمادة 5 من نظامه الأساسي تضامناً مع الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. صحيح أن القوات التركية لم تشارك في العموم في مهام قتالية في أفغانستان وبقي يُنظَرُ لها هناك بشكل مختلف عن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، إلا أنها بقيت تعدُّ ضمن قوات الناتو التي حاربتها طالبان زهاء عقدين. ولذلك مثلاً فقد أصرت الأخيرة على سحب القوات التركية أسوة بقوات باقي الدول كدليل إضافي على التحرير والاستقلال والسيادة، رغم أنها لم تُخْفِ رغبتها في التعاون مع تركيا.
الثالث، الشرائح "التركية". ثمة علاقة مباشرة لأنقرة مع أطراف وتيارات أفغانية من أوزبك وطاجيك وتركمان، ممن تعدُّهم من أبناء "العرق التركي" وبالتالي ترى واجباً عليها الدفاع عن حقوقهم، بينما كانوا ـ وربما ما زالوا ـ خصوماً ميدانيين لطالبان. وفي حين تدعو تركيا لإنشاء حكومة وطنية في أفغانستان تضم "جميع الأطراف السياسية والعرقية" في البلاد، ما زال من غير الواضح مدى تجاوب طالبان مع هذه المطالب. بل إن احتمالات اشتعال الحرب مرة أخرى بين طالبان وآخرين من بينهم هذه الأطراف "التركية" ما زال قائماً نظرياً.
في المقابل، في داخل تركيا ومن خارجها ثمة من ينتقد إشادة الحكومة التركية ببعض تصريحات قيادات الحركة الأفغانية وإعلان أردوغان عن تواصل بلاده معها وإطلاق حوار بخصوص العلاقات المستقبلية. يرى بعض هؤلاء أن طالبان حركة إرهابية، بينما يؤكد آخرون أنها تمثل نموذجاً بعيداً جداً عن تركيا، بما يفترض أن يحول دون التواصل واللقاء والحوار معها. ولعل هؤلاء، وتحديداً من الدول الكبرى، من رد عليهم أردوغان قائلاً إن بلاده "لن تأخذ إذناً من أحد" حتى تتواصل مع طالبان.
إذا كانت البراغماتية السياسية أحد ملامح العدالة والتنمية الرئيسة، فقد أظهرت طالبان حتى اللحظة وجهاً جديداً لها يبدو أكثر تعقلاً وحكمة وخبرة في العمل السياسي، ومن ضمن ذلك رسائلها المتعلقة بالداخل وكذلك انفتاحها على عدد من الدول الإقليمية والكبرى وحوارها معهم.
ورغم ما سبق من فروقات واختلافات بل وخلافات فكرية وعملية بين الجانبين، إلا أن هناك أسباباً ثلاثة رئيسة تدفعهما للتلاقي والحوار والتعاون:
الأول، البراغماتية السياسية. ثمة أمر واقع جديد في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي عنوانه سيطرة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية وتحولها لفاعل لا يمكن تجاهله وتجنبه. حين عرض بايدن على الرئيس التركي إبقاء القوات التركية في مطار كابول لتأمينه وإدارته، كانت الموافقة التركية مشروطة بضمانات معينة وكذلك بما أسماه أردوغان "حقيقة طالبان" التي لا يمكن تجاوزها. اليوم، تبدو هذه "الحقيقة" أرسخ في المشهد الميداني والسياسي في البلاد وأمراً واقعاً ينبغي التعامل معه، وهذا ما تفعله دول أخرى.
وإذا كانت البراغماتية السياسية أحد ملامح العدالة والتنمية الرئيسة، فقد أظهرت طالبان حتى اللحظة وجهاً جديداً لها يبدو أكثر تعقلاً وحكمة وخبرة في العمل السياسي، ومن ضمن ذلك رسائلها المتعلقة بالداخل وكذلك انفتاحها على عدد من الدول الإقليمية والكبرى وحوارها معهم.
صحيح أن تركيا لم تعترف بطالبان كفاعل سياسي أوحد متفرد في المشهد الأفغاني، إلا أنها أكدت أكثر من مرة رغبتها بتشكيل حكومة وطنية تجمع الكل الأفغاني، ما يعني أنها ستعترف بأي حكومة موسعة تتشكل في البلاد، وهو ما يتناغم مع السياسة التي اختطتها لنفسها بالتعامل مع ما تفرزه العملية السياسية (والأفضل الانتخابية) في كل بلد من البلدان دون تحفظات كبيرة.
الثاني، الاقتصاد. يمثل الاقتصاد أولوية مشتركة للطرفين، فطالبان ورثت دولة شبه منهارة باقتصاد ضعيف وتدرك أنها لن تحكم أو تنجح دون تنمية، وتركيا قوة إقليمية صاعدة وطموحة واقتصادها يعاني مؤخراً لا سيما في ظل كورونا. وإذا كانت الدول المتخاصمة أو المتواجهة سياسياً وأمنياً تستمر في التعامل الاقتصادي وتنمية حجم التبادل التجاري بينها، فإن العلاقات التاريخية والأخوية بين تركيا وأفغانستان ستدفع نحو شراكات اقتصادية وعلاقات تجارية متقدمة بينهما.
الثالث، المصالح المشتركة. أبعد من الأهداف الاقتصادية المباشرة، ثمة حاجة واضحة لطالبان للقبول الدولي وتجنب الحصار والمقاطعة ومحاولات الإفشال وكذلك إعادة الإعمار ولم الشمل الداخلي، وهي كلها مسارات تمتلك تركيا فيها خبرة وأدوات يمكن أن تستفيد منها الحركة.
في المقابل، ثمة مصالح واضحة لتركيا في أفغانستان تتعلق بتوازناتها الداخلية والتنافس الإقليمي والأهمية الجيوبوليتيكية والعلاقات مع الولايات المتحدة وغير ذلك، وهي مصالح لا تملك أنقرة رفاهية الزهد بها وتدرك أن العلاقة مع طالبان ـ كفاعل رئيسي في أفغانستان ـ مفتاح رئيسي لها.
في الخلاصة، فإن ما يحكم علاقة طالبان الطامحة لحكم أفغانستان من جديد وتركيا التي يحكمها العدالة والتنمية منذ عقدين أبعد ما يكون عن حدّية ثنائية التحالف والمقاطعة. بل هي علاقات مركّبة بمقدار تعقّد الأوضاع الميدانية والسياسية في أفغانستان وتشابك مصالحها وعلاقاتها الخارجية في الوقت الراهن ومستقبلاً.
وأما سقف العلاقة وشكلها ومجالاتها وتفاصيلها فهي مما سيحدده الحوار أو لنقل التفاوض الذي بدأ بين الجانبين بخصوص المطار، لكنه سيستمر بالتأكيد ليشمل كافة جوانب العلاقة بينهما ومستقبل الدور التركي في أفغانستان. وإن نظرةً معمّقة في تصريحات الطرفين تقول إنهما حريصان على الوصول لتفاهمات ترضي كليهما.
ما قبل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان
طالبان.. المشاكل الحقيقية ستبدأ الآن