بين العاصمة الأفغانية كابل ومدينة تل أبيب في الكيان الصهيوني رابط مهم رغم المسافة الطويلة وعدم وجود علاقات جغرافية أو سياسية مباشرة بين المدينتين .
ففي مطار كابل شهدنا في الأيام الماضية طوابير المتعاملين مع الاحتلال الأمريكي وهم يسعون لركوب الطائرات المغادرة خوفا من انتقام حركة طالبان، وفي تل أبيب هناك من يتوقع في يوم ما أن نشهد طوابير المستوطنين والمحتلين الصهاينة وهم يغادرون مطار بن غوريون خوفا من صواريخ المقاومين ورصاصاتهم .
فهل سنشهد هذه الصورة قريبا ويفكك الكيان الصهيوني ويعود الشعب الفلسطيني إلى أرضه؟ أو سينجح ما أطلق عليه "المشروع الإبراهيمي" وهو الإسم الحركي لمشروع "صفقة القرن" والهادف للتطبيع بين الكيان الصهيوني والدول العربية وتصفية القضية الفلسطينية وتكريس السيطرة الصهيونية على القدس وإنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين من خلال مشاريع اقتصادية وسياحية ودينية مشبوهة؟.
هاتان الصورة هما خلاصة كتابين صدرا مؤخرا في بيروت وتزامن صدورهما مع المشهد الأفغاني الجديد والذي أنهى الاحتلال الأمريكي لأفغانستان بعد عشرين سنة من احتلالها وأعاد حركة طالبان إلى حكم كابل، الاول بعنوان: "إسرائيل إلى نهايتها" للكاتب والباحث اللبناني سركيس أبو زيد وقد صدر عن دار أبعاد، وهو دراسة مكثّفة حول الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى نهاية الكيان الصهيوني وتفككه وانتصار الشعب الفلسطيني على محتليه .
والكتاب الثاني بعنوان: "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد" للكاتبة والباحثة المصرية الدكتورة هبة جمال الدين محمد العزب، وقد صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وهو يقدّم رؤية شاملة وتفكيكية لمشروع "صفقة القرن" والذي كانت تعمل عليه الإدارة الأمريكية ودول عربية وبالتعاون مع الكيان الصهيوني وجهات دينية ومؤسسات أكاديمية وثقافية ومجتمعية وبيئية تحت عنوان: "المشروع الإبراهيمي" أو "مشروع إبراهم"، والذي يهدف لتصفية القضية الفلسطينية ونشر التطبيع بين العرب والمسلمين من جهة وبين الصهاينة والمحتلين لفلسطين من جهة أخرى، ومن خلال استعمال الأبعاد الدينية والبيئية والاقتصادية.
الدراسة التي أعدها الكاتب سركيس أبو زيد والتي يؤكد فيها: "أن الكيان الصهيوني يواجه أزمة وجودية وخطيرة وهي ستعرضه للتفكيك أو الزوال مستقبلا مما سيدفع الصهاينة لمغادرة فلسطين"، تتلاقى مع الكثير من الدراسات والمشاريع التي تطرح من قبل القوى المقاومة أو الباحثين المختصين بالكيان الصهيوني، من أن مستقبل هذا الكيان إلى زوال، وذلك من خلال الكثير من الأدلة والمعلومات والأفكار التي تطرح حتى من قبل باحثين وكتّاب إسرائيليين، وهذه الدراسة أعدها أبو زيد قبل عدة سنوات، ولكنه أعاد تجديدها ونشرها اليوم بعد معركة "سيف القدس" الأخيرة وقدّم لها الباحث الأستاذ حسن حمادة بمقدمة هامة تؤكد رؤية أبو زيد، وقد استند الباحثان إلى نتائج معركة سيف القدس والتي تؤكد أن قوى المقاومة أصبحت قادرة على تهديد هذا الكيان ودفع الصهاينة للبحث عن ملجأ لهم في العالم، وهذه الدراسة تتلاقى مع المشروع الفكري والسياسي والبحثي الذي يتم الإعداد له من قبل "اللقاء الإعلامي الوطني" في بيروت والذي يسعى لبلورة مشروع متكامل حول الحرب الإقليمية المقبلة التي يمكن أن تندلع دفاعا عن القدس وفلسطين .
ورغم أن ما طرحه الكاتب أبو زيد ليس جديدا وقد تحدث عنه علماء وكتّاب وباحثون كثيرون خلال العقود السابقة وقد تنبّأ بعضهم بنهاية قريبة للكيان الصهيوني، لكن أهمية الدراسة اليوم أنها تتزامن مع المتغيرات الدولية والإقليمية والتي تكشف عن تراجع الدور الأمريكي في العالم وفي المنطقة العربية والإسلامية خصوصا، مما قد يفقد الكيان الصهيوني أحد داعميه الأساسيين، إضافة لما يواجهه من تحديات استراتيجية وداخلية.
نحن إذن أمام مشروعين متناقضين: الأول يدعو لمناصرة القضية الفلسطينية وإنهاء الوجود الاحتلالي الصهيوني وصولا لتفكيك الكيان الصهيوني، والثاني يدعو لتثبيت هذا الكيان والتطبيع بينه وبين الدول العربية والإسلامية تحت عنوان "المشروع الإبراهيمي واستغلال الجانب الديني، وهو يهدف لتصفية القضية الفلسطينية وتثبيت الكيان الصهيوني .
لكن في المقابل فإن ما تكشفه الباحثة المصرية المميّزة الدكتورة هبة جمال الدين محمد العزب في كتابها الهام عن "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي" يؤكد خطورة ما جرى الإعداد له منذ سنوات طويلة من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية، لكن من خلال البعد الديني والاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتحت عناوين الحوار والدفاع عن البيئة وتقديم الخدمات للمجتمع ونصرة المرأة والشباب وتقديم المساعدات المتنوعة للمجتمعات المحلية ولا سيما في عدد من الدول المعنية بالقضية الفلسطينية كالأردن ومصر ولبنان والعراق وسوريا وتركيا وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة لاستهداف إيران ودول عربية وإسلامية أخرى.
نحن إزاء مشروع خطير جدا كشفت عنه الدكتورة العزب، والكتاب يتضمن كمية كبيرة من المعلومات والمخططات والتي جرى الإعداد لها خلال السنوات العشرين الأخيرة والتي كشفت عن أبعادها ودلالاتها "صفقة القرن" التي كانت تعمل لها الإدارة الأمريكية خلال عهد الرئيس دونالد ترامب ولم تنته كلية حتى الآن، وإن كانت الأدوات والأفكار والمشاريع قد تتغير وفقا لتغير الوقائع والمعطيات وفي ظل ما يشهده العالم وما تشهده المنطقة العربية والإسلامية من متغيرات .
وإضافة إلى المعلومات الهامة فقد اعتمدت الباحثة أسلوبا جديدا في التحليل وهو ما سمّته "التحليل الشبكي للمعلومات" وهو نظام خاص لتحليل المعلومات استخدمته الباحثة المصرية في معهد التخطيط القومي الدكتورة أماني الريس في العديد من دراساتها وهو يساعد في فهم الترابط بين المعطيات والمعلومات والأدوات والأهداف .
والخطورة الأكبر فيما كشفته الباحثة هبة العزب: أن مشروع صفقة القرن أو المشروع الإبراهيمي هو مخطط استعماري يستغل العنف والتطرف الديني من أجل إقامة نظام عالمي جديد تحت عناوين مختلفة ومن خلال استخدام الأبعاد الدينية ومؤسسات دينية متنوعة وشعارات التسامح والحوار والمواطنية العالمية ونشر أديان جديدة وإضعاف الدول القومية وإنشاء أقاليم واتحادات جغرافية جديدة مع اعتماد الفيدرالية بين هذه الاتحادات والأقاليم، وكل ذلك مستند على معلومات موثقة وعرض تاريخي تفصيلي دقيق حول كل المبادرات التي أطلقت خلال العقدين الأخيرين وتوجّت بصفقة القرن.
نحن إذن أمام مشروعين متناقضين: الأول يدعو لمناصرة القضية الفلسطينية وإنهاء الوجود الاحتلالي الصهيوني وصولا لتفكيك الكيان الصهيوني، والثاني يدعو لتثبيت هذا الكيان والتطبيع بينه وبين الدول العربية والإسلامية تحت عنوان "المشروع الإبراهيمي واستغلال الجانب الديني، وهو يهدف لتصفية القضية الفلسطينية وتثبيت الكيان الصهيوني .
فأي المشروعين سيتحقق؟ المشاهد الأخيرة في مطار كابل وخروج المحتل الأمريكي من أفغانستان بعد عشرين سنة من الاحتلال، والإعلان أيضا عن خروج الأمريكيين من العراق في آخر العام الحالي ولو أنهم سيبقون بصفة تدريبية واستشارية، وما يحدث اليوم في فلسطين من تنامي روح المقاومة وتطورها، وما يجري في لبنان من تحدي للإرادة الأمريكية والصهيونية لمعالجة الأزمة الاقتصادية وتأمين النفط والمحروقات، كل ذلك يحمل مؤشرات جديدة في العالم، والمهم أن يكون لدينا المشروع الحضاري والسياسي والفكري البديل والذي يحفظ لهذه البلاد وحدتها ويحقق للإنسان كرامته وعزته ويحافظ على التنوع الديني والثقافي والفكري، بدل الانخراط في صراعات جديدة تحت عناوين مختلفة.
@kassemkassir
دروس أساسية من الخبرة الأفغانية... المواطنة من جديد (65)