لو سلّمنا تحليلا بمقولة "الإسلام السياسي" باعتباره الاسم الذي تطلقه الدوائر الإعلامية العربية والدولية على الجماعات والأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة أو في المعارضة فإنّ هذا الجسم الهلامي يَعرف اليوم منعرجا حاسما وتحوّلا مفصليا. ففي الوقت الذي تشهد فيه تونس انقلابا داخليا على المسار الديمقراطي وعلى حزب "النهضة" الإسلامي ممثلا في رئاسة البرلمان والكتلة الأكبر فيه، تعرف أفغانستان انتصارا ساحقا لحركة طالبان الإسلامية بعد عقدين من مقاومة الغزو الأمريكي الغربي المشترك.
الإسلام السياسي ـ لو صحّت التسمية هنا ـ واقع في هذا المنوال التحليلي بين طرفي نقيض: انكسار بيّن في التجارب العربية وانتصار ظاهر في التجارب غير العربية كما هو الحال في تركيا أو أفغانستان. كيف يمكن قراءة التحولات الأخيرة في تمثيليات الإسلام السياسي عربيا ودوليا؟ ما هي التقاطعات الممكنة بين المنوالين أم إنّ السياقات أكثر تباينا من أن تخضع لتحليل مقارَن؟
الإسلام السياسي عربيا
عرفت التسمية انتشارا واسعا خلال السنوات العشر الأخيرة خاصة بعد بلوغ أحزاب وتشكيلات سياسية محسوبة على هذا التيار السياسي إلى سدّة الحكم في مصر وتونس والمغرب وليبيا ومناطق أخرى من العالم. تميّز التجارب العربية بفشلها في إنجاز المطمح السياسي وفي استكمال مسارات التغيير رغم وصولها في سياقات عديدة إلى قمة السلطة.
يعارض كثيرون من مساندي التيار الإسلامي بالقول إن الإسلاميين لم يحكموا يوما واحدا بل كانوا فقط واجهة انتقالية سرعان ما وقع الانقلاب عليها. غير بعيد عن هذا الموقف يرى آخرون أن الاسلاميين لم يُفسح لهم المجال للحكم وإن كانوا متواجدين في سدّته إذا تكالب عليهم الداخل والخارج لمنعهم من النجاح ولإفشال تجربتهم. رغم تعدد القراءات والتبريرات والأعذار فإنه لا يمكن أن ننكر أنّ تجربة الإسلاميين في السلطة قد تكللت بالفشل في أغلب التجارب العربية.
الإسلام السياسي ـ لو صحّت التسمية هنا ـ واقع في هذا المنوال التحليلي بين طرفي نقيض: انكسار بيّن في التجارب العربية وانتصار ظاهر في التجارب غير العربية كما هو الحال في تركيا أو أفغانستان. كيف يمكن قراءة التحولات الأخيرة في تمثيليات الإسلام السياسي عربيا ودوليا؟ ما هي التقاطعات الممكنة بين المنوالين أم أنّ السياقات أكثر تباينا من أن تخضع لتحليل مقارَن؟
من جهة أخرى لا يمكن الحديث عن تجارب إسلامية سياسية في البلاد العربية فهم في المغرب مثلا واجهة حكومية أكثر منها تنظيما حاكما لأن السلطة الحقيقية بيد الملك والمخزن. أما في مصر فقد كانوا تيارا معارضا للعسكر طيلة أكثر من نصف قرن ثم ما لبث أن انقلب عليهم حين فازوا في الانتخابات. في تونس كذلك اتسم حضورهم بالتردد الشديد بين البقاء في السلطة ولو بشكل هامشي وبين الذهاب إلى المعارضة وإعادة صياغة منوال سياسي جديد. أما شعبيا فلا يزال الإسلاميون يحافظون على قاعدة جماهيرية عريضة رغم الهزات التي تعرضوا لها خلال ثورات الربيع الأخيرة وما صاحبها من قمع وتنكيل وانقلابات.
لكنه من الواجب التذكير بأن صفة "الإسلام السياسي" لا تقتصر تحليليا على تنظيم "الإخوان" وإن كان المصطلح في الأدبيات السياسية مخصصا لهم، بل تتجاوزهم إلى مكونات إسلامية أخرى لا تسمح بإنزال المصطلح عليها كالتنظيمات السلفية سواء منها العلمية أو الجهادية. من هذه الزاوية ألا يصحّ اعتبار النظام الملكي في السعودية إسلاما سياسيا؟ أليس النظام الحاكم في المغرب إسلاما سياسيا وكذا النظام الحاكم في إيران؟ لماذا اقتصر المصطلح على الإخوان المسلمين دون غيرهم؟
لا شك في أن المستهدف بالتسمية هو تنظيم الإخوان المسلمين بشكل خاص لأنه التنظيم الأكثر حضورا جماهيريا وقدرة على الفعل السياسي. أما بقية الأنظمة الحاكمة باسم الدين في السعودية وإيران والمغرب فإنّ المسألة الدينية لا تعدو أن تكون غطاء خارجيا لإكساب النظام شرعية جماهيرية وتمتيعه بهامش أكبر للمناورة والهروب من المساءلة.
انتصارات كابل وهزيمة تونس
لا صوت يعلو على صوت انتصارات طالبان في أفغانستان، إذ نجحت الحركة بعد حوالي عقدين في دحر أكبر التحالفات العسكرية الدولية بقيادة الولايات المتحدة. حقيقة الانتصار لا جدال فيها سواء على المستوى العسكري أو على المستوى الدبلوماسي بعد جولات المفاوضات في الدوحة إذ لا يمكن إنكار النصر الأفغاني مهما كان دور العوامل الأمريكية الداخلية حاسما. طالبان ليست حركة جهادية بالمفهوم العربي العابر للحدود بل هي حركة تحرر وطني تعمل على طرد الغزاة من أرضها وبناء دولتهم وإقامة تصورها للمجتمع والسلطة والأخلاق.
هذا الانتصار يشكّل اليوم رجّة كبيرة في صفوف الجماعات الإسلامية بمختلف أطيافها فانتصار طالبان هو انتصار للبندقية وللمقاومة رغم حملات التشويه الضخمة التي تعرضت لها الحركة. ارتبطت طالبان وحتى أفغانستان في المخيال العالمي بالعنف والقتل والتفجير والإرهاب بعد أن شنّت المجاميع المالية الدولية المتحكمة في وسائل الإعلام حملات ضخمة ضد البلاد وضد حركة المقاومة داخلها.
في المقابل ورغم اختلاف السياق طبعا فإن الحركة الإسلامية الأبرز في تونس قد مُنيت مؤخرا بهزيمة قاسية بعد الانقلاب الذي قاده الرئيس التونسي ضد البرلمان الذي كانت تقوده الحركة. هذا الانكسار يمثل انكسار لآخر معاقل الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة بعد ثورات الربيع وهو ما يجعل من الحدث حدثا على قدر كبير من الأهمية والخطورة. صحيح أنّ السياق التونسي بعيد عن السياق الأفغاني لكنه لا يمكن بأي حال فصل المنوالين عن السياق العام الذي يحكم صيرورة المسارات الدولية المتشابكة.
إن خطورة المقابلة بين السياق الأفغاني والسياق التونسي أو المصري إنما تتمثل في ارتدادها المتوسطة والقريبة على قواعد الجماعات الإسلامية وهي تلمس بيدها نجاح الحركات المسلحة وفشل التجارب الإسلامية السلمية. لقد قوبل انتصار طالبان بحالة من الغليان العاطفي في مختلف الأمصار العربية والإسلامية في حين وُصفت تجارب الإخوان في تونس ومصر خاصة بالتجارب المرتعشة من قبل كثير من قواعد الجماعات الإسلامية.
إن الانقلاب على مشاركة الإسلاميين في السلطة سيكون كارثيا على مستقبل المنطقة برمتها وهو أمر لا ينزّه هذه الحركات وقياداتها من أخطاء كارثية ارتكبتها في حق نفسها وفي حق قواعدها. لقد قدّم الإسلاميون في تونس ومصر بشكل خاص كل أنواع التنازلات الممكنة من أجل أنجاح المسارات الديمقراطية لكنّ النظام الدولي كان له رأي آخر وسرعان ما حرك بيادقه في الداخل وأجهز على التجارب في المهد وهو ما يفتح هذه المنطقة من العالم على كل الاحتمالات الممكنة بما فيها الأكثر رعبا.
لن تكون البيادق المتحركة على الرقعة العربية بما فيها العسكر قادرة على الذهاب بعيدا بهذه الأوطان، لأنها لا تملك شروط استمرارية الدولة والمجتمع والاقتصاد والأمن. كل ما يمكن لوكلاء الاحتلال في البلاد العربية فعله هو تسليم البلاد للمستعمر بعد تخريبها كما حدث في العراق وسوريا، وهو الأمر الذي يؤكد أنّ الموجة الثورية الأولى التي أغلقت مؤخرا ستلحقها موجات جديدة لن تكون كسابقاتها ولن ترتكب ما ارتكبته من أخطاء.
ما يلزم طالبان.. مكتب لردِّ الشبهات والأكاذيب
مشاكل متعددة مزمنة بالاقتصاد الأفغاني