في ظل بيئة صراعات وحروب مستمرة منذ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان عام 1979، وما تلا خروج الروس عام 1989 من صراعات بين القادة الأفغان، ثم تولي طالبان الحكم عام 1996 وصراعها مع بعض الجهات المحلية كجبهة أحمد شاه مسعود، وضرب القوات الأمريكية أفغانستان في تشرين أول/ أكتوبر 2001، والتواجد الغربي والأمريكي منذ ذلك الحين وحتى الخروج التدريجى للقوات الدولية الذي بدأ عام 2012، واستمرار القوات الأمريكية حتى الحادى عشر من الشهر المقبل، كان من الطبيعي أن يتأثر الإقتصاد بتلك الحالة من عدم الاستقرار التي استمرت حوالي 42 عاما، لتستمر معدلات الفقر المرتفعة التي تصل 54.5 بالمائة، ومعاناة الكثير من السكان من نقص المساكن والمياه النظيفة والكهرباء والرعاية الطبية والوظائف.
مع ضعف الإستثمارات القادمة وتدني قيمة الصادرات بالمقارنة لكبر حجم الواردات السلعية، والعجز المزمن بالموازنة وضعف النشاط السياحي، أصبحت المعونات الخارجية هي الملاذ لتدبير العملات الأجنبية، في ضوء انعقاد عشر مؤتمرات للمانحين ما بين عامى 2003 و2016، والمعونات الأمريكية السخية، بالإضافة إلى تحويلات العمالة الأفغانية بالخارج في ظل وجود أكثر من خمسة ملايين شخص بالخارج أكثرهم في إيران وباكستان.
والمشكلة الرئيسية التي عانى منها الاقتصاد هي العجز التجاري المزمن، حيث تقل قيمة الصادرات السلعية كثيرا عن الواردات السلعية، والذي تزيد حدته مع ارتفاع أسعار النفط، حيث يتم تصدير الأفيون والفواكه والمكسرات والخضر والسجاد اليدوي المنسوج والصوف والقطن والجلود والأحجار الكريمة وشبه الكريمة والأعشاب الطبية والرصاص.
دولة غير منتجة للنفط
بينما تستورد الوقود لعدم إنتاجها للنفط والسلع الغذائية من دقيق وحبوب والمنسوجات والآلات والمعدات والسيارات والأدوية والأسمنت والحديد والصلب والمطاط والمنتجات الورقية.
والمشكلة الأكبر هي تدني نسبة تغطية الصادرات للواردات السلعية، حيث تراوحت نسب تغطية الصادرات للواردات خلال العشرين عاما الأخيرة ما بين نسبة 4.7 بالمائة كأقل نسبة عام 2012، ونسبة 18 بالمئة كأعلى نسبة عام 2008، وهي مشكلة كانت موجودة خلال حكم طالبان بالنصف الثاني من التسعينيات مع تحسن نسبة التغطية وقتها لتصل لأكثر من 30 بالمائة بمعظم السنوات، وذلك بسبب نقص الواردات وليس بسبب زيادة الصادرات حينذاك.
وتتميز التجارة الأفغانية الخارجية بالتركز الشديد، حيث استحوذت البلدان الخمس الأولى للصادرات على نسبة 90 بالمائة من الإجمالي عام 2019، وهي دول الهند وباكستان والصين وتركيا والإمارات العربية، كما بلغ نصيب الدول العشر الأولى حوالي 97 بالمائة من إجمالي الصادرات.
وتكرر التركز بالواردات السلعية لتستحوذ الدول الخمسة الأولى على نسبة 60 بالمائة من الإجمالي، ولتصل النسبة إلى 83 بالمائة مع الدول العشر الأولى بالواردات السلعية، وكل تلك الدول العشر تحقق أفغانستان عجزا تجاريا معها.
وكان نصيب دول الجوار الجغرافي الستة لدولة كل حدودها برية وهي: باكستان وإيران والصين وطاجكستان وأوزبكستان وتركمستان، نسبة 40 بالمائة من الصادرات ونسبة 57 بالمائة من الواردات، وكان نصيب الدول العربية 6 بالمائة فقط من صادرات أفغانستان مع تركزها بالإمارات العربية والعراق والسعودية، كما كان نصيب الدول العربية من وارداتها نسبة 2.5 بالمائة فقط مع تركزها بالإمارات العربية.
وظهرت بقائمة أعلى دول الواردات الإفغانية عددا من الدول الإسلامية، منها إيران وباكستان وتركمنستان وتركيا وكازاخستان وأوزبكستان وماليزيا وطاجكستان وإندونسيا.
الدفاع يتصدر الإنفاق بالموازنة
والمشكلة الثانية هي العجز المزمن بالموازنة، وإن كانت بنسب قليلة كان أعلى معدل لها خلال السنوات العشر الأخيرة 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020 بسبب تداعيات كورونا، ويتوقع تفاقم المشكلة حاليا بسبب اعتماد إيرادات الموازنة على المنح والمعونات، ففي عام 2019 مثلت المنح نسبة 48 بالمائة من إيرادات الموازنة مقابل نسبة 31 بالمئة من الضرائب، وظلت المنح تمثل النصيب الأكبر من الإيرادات منذ عام 2005 وحتى 2019.
وفى داخل الإيرادات الضريبية تفوق نصيب الضرائب على الدخل بأكثر من الثلث قليلا وذلك من عام 2012 وحتى 2019، يليه الجمارك بأقل من الثلث قليلا والضرائب عل السلع والخدمات بقيمة تقترب من الجمارك، وكانت الجمارك هي الأولى في أنواع الحصيلة الضريبية من 2006 وحتى 2011.
إن الصورة ليست قاتمة تماما، حيث أشار صندوق النقد الدولي فى بياناته المنشورة في نيسان (أبريل) الماضي إلى تدني نسبة الدين الحكومي للناتج بأفغانستان لأقل من 8 بالمائة، كذلك فإن هناك موارد خاصة تصل طالبان منها ما كانت تفرضه من ضرائب بالمقاطعات التي كانت تحكمها وخبرتها في هذا المجال.
وفى جانب المصروفات تفوق نصيب الأجور بنسبة 47 بالمائة يليه شراء السلع والخدمات 20 بالمائة، وحسب التوزيع الوظيفى للمصروفات بالموازنة تفوق نصيب الشؤن الاقتصادية عام 2019 بنسبة 23 بالمائة، يليه الدفاع 22 بالمائة والنظام العام والأمن 15 بالمائة والتعليم 11 بالمائة، والخدمات العامة 7 بالمائة والصحة 5 بالمائة والحماية الاجتماعية 4 بالمائة والإسكان والمرافق الاجتماعية 2 بالمائة.
وكان عام 2019 إستثناء فى تصدر نصيب الشؤون الاقتصادية، حيث ظلت نفقات الدفاع هي صاحبة الصدارة منذ عام 2010 وحتى 2018، وتراوح مركز نصيب نفقات الأمن الداخلي ما بين المركز الثاني والثالث خلال السنوات الماضية.
تدني نصيب الفرد من الناتج
المشكلة الثالثة هي تحول الفائض بميزان التجارة الخدمية إلى عجز منذ عام 2013، وذلك بسبب الخروج التدريجي لقوات الأمن الدولية بسبب ما كانوا ينفقونه داخل الإقتصاد، لتصبح البلاد مصابة بالعجز بميزان التجارة الخدمية خلال السنوات التالية وحتى العام الماضي، ليزيد العجز السنوي بميزان السلع والخدمات، والذي لم تستطع المعونات وتحويلات العاملين تغطيته، ليصاب ميزان المعاملات الجارية بالعجز المزمن.
ورغم محاولة الولايات المتحدة إنعاش الإستثمارت الأجنبية في إفغانستان إلا أن ما وصل إليه في السنوات العشرين الماضية منذ عام 2001، نحو مليارين و146 مليون دولار بمتوسط سنوي 107 ملايين دولار، إلا أن ما ورد إليها بالعامين الأخيرين بلغ 30 مليون دولار فقط عام 2019، والذي انخفض إلى 13 مليون دولار فقط بالعام الماضي.
صغر حجم الاقتصاد يُعدّ مشكلة أخرى، حيث بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالعام الماضي 19.8 مليار دولار بالمركز 112 بين دول العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بينما يجعلها عدد سكانها البالغ 37.5 مليون نسبة بالمركز 39 بين سكان العالم، كما تسبب تدني الناتج المحلي في انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي ليصل إلى خمسائة دولار سنويا، بالمركز 185 بين دول العالم من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي.
إلى جانب انخفاض معدلات نمو الناتج خلال السنوات الأخيرة ليتراوح خلالها ما بين 1 بالمائة إلى 3.9 بالمائة، ثم يتحول إلى الانكماش بالعام الماضىي بنسبة 5 بالمائة.
رغم الصعوبات العديدة التي سيواجهها الإقتصاد والحصار الغربي، توجد بعض النوافذ التي يمكن أن تساهم في إمكانية تسيير الأمور خلال تلك المرحلة الإنتقالية، وحتى تتضح الأمور أكثر محليا ودوليا خلال الشهور المقبلة.
وتكثر الأسئلة عما يمكن أن تفعله طالبان مع هذا الاقتصاد الضعيف الذي يعتمد على المعونات بشكل رئيسي، فى ظل إحجام من قبل الدول الغربية عن الاستمرار في تقديم المعونات لها كما أعلنت ألمانيا، وفي ظل تأثير تلك الدول على المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث أعلن الصندوق أن أفغانستان لن يمكنها الوصول إلى موارد الصندوق.
كما أجلى البنك الدولي موظيفه وعائلاتهم، وكذلك وجود احتياطيات العملات الأجنبية في دول غربية أعلنت أمريكا كواحدة منها عدم استطاعة طالبان الاستفادة من تلك الاحتياطيات لديها، وكذلك إعلان شركة ويسترن يونيون المختصة بالحوالات تعليق توصيل الحوالات إلى أفغانستان.
توقع مواقف إيجابية من الصين وتركيا
وهنا نقول إن الصورة ليست قاتمة تماما، حيث أشار صندوق النقد الدولي فى بياناته المنشورة في نيسان (أبريل) الماضي إلى تدني نسبة الدين الحكومي للناتج بأفغانستان لأقل من 8 بالمائة، كذلك فإن هناك موارد خاصة تصل طالبان منها ما كانت تفرضه من ضرائب بالمقاطعات التي كانت تحكمها وخبرتها في هذا المجال.
إلى جانب أن الصين في سعيها لملء الفراغ الناتج عن إنسحاب القوات الأمريكية، ستدخل من باب التجارة لتقديم جانب من الاحتياجات اليومية من السلع ولو بتسهيلات، ويمكن أن تكرر تركيا ذلك بشكل أقل حجما، كما أن ما تزخر به أفغانستان من معادن نادرة يمكن أن يكون أحد مجالات التعاون لاستخراجها.
كذلك فإن التحويلات المالية التي تعتمد عليها مئات الآلاف من الأسر تصل عن طريق وسائل متعددة بخلاف شركة ويسترن يونيون، منها المصارف والإرسال مع زملاء العمل عند سفرهم للبلاد ووسائل أخرى.
كما أن الدول الغربية ستحاول انتهاج بعض المرونة مع نظام طالبان، كي لا تدفعه للارتباط أكثر بالصين وغيرها من الدول التي لها مصالح متعارضة معها، خاصة مع الإشارات الإيجابية التي صدرت منه حتى الآن، ومن مصلحة باكستان استقطاب نظام طالبان حتى يندفع نحو الهند بما بينهما من خلاف، وما أعلنت عنه طالبان من السماح للشيعة بممارسة طقوسهم الخاصة يمكن أن يخفف من تشدد إيران معها.
كما نتوقع تدخل قطر على الخط بالعون المالي للحفاظ على التزامات طالبان بألا تكون ملاذا لتنظيم القاعدة بموافقة غربية غير معلنة، كذلك سيساهم تراجع معدلات الفساد مع حكم طالبان فىي توفير نفقات كبيرة كانت تضيع على الموازنة، وأيضا خفض الإنفاق على الدفاع والأمن.
وهكذا ورغم الصعوبات العديدة التي سيواجهها الاقتصاد والحصار الغربي، توجد بعض النوافذ التي يمكن أن تساهم في إمكانية تسيير الأمور خلال تلك المرحلة الانتقالية، وحتى تتضح الأمور أكثر محليا ودوليا خلال الشهور المقبلة.
أفغانستان الطالبانيّة في زمن تراجع الإمبراطورية الأمريكية
عودة طالبان.. الرابحون والخاسرون على رقعة الشطرنج الإقليمية