من تمكنت منه الهزيمة، لا يستطيع أن يستوعب انتصار طالبان!.. وفي وقت تبدو فيه الهزيمة قدراً، فإن أي انتصار لابد أن يكون نتاج مؤامرة، فالقوى الدولية التي هزمت المهزوم، هي التي قررت أن تقوم بدور المهزوم في المشهد الأفغاني!
كثيرون ممن يفتون الآن في الشأن الأفغاني لم يكونوا منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان، يتابعون الأخبار القادمة من هذا البلد البعيد، وكان أول اهتمام لهم بالأمر، والأخبار واردة من هناك تفيد بأن طالبان على أعتاب العاصمة كابل، ثم صورة قيادة الحركة في القصر الرئاسي، ولم ينتبهوا بالتالي إلى أنه انتصار بالتراكم وبالصمود على مدى عشرين عاماً، توج أخيرا بالنصر!
وكان من نتاج المتابعة المتأخرة لقلوب تعيش الهزيمة، أنها نظرت إلى ما جرى باعتماد نظرية المؤامرة، وقد انتصر هؤلاء البسطاء، فلا معنى إلا أنها تمثيلية متفق عليها مع الولايات المتحدة الأمريكية، قررت فيها هذه القوى العظمى، أن تتنازل عن سمعتها، وأن تفرط في انتصارها بإرادتها الحرة، حتى تمكن طالبان من الوصول للحكم، لمحاصرة الصين وإيران، فالأمر مرده إلى عمالة الحركة!
على مدى عشرين عاماً، لم تتوقف طالبان عن النضال، وقد دفعت الثمن كاملاً غير منقوص، ولم تقصر الولايات المتحدة في إقامة حكم عميل لها، وبناء جيش أفغاني قوي، أنفقت عليه أكثر من 83 مليار دولار، ومدته بأحدث الأسلحة، بجانب مساعدات أخرى من حلف الناتو قدرت بنحو 70 مليون دولار، فضلا عن أن هذا الجيش كان قوامه ثلاثمئة ألف أفغاني!
ولم يتهاون البيت الأبيض عن حماية الحكومة ومساعدة الجيش، لكن مع شدة المقاومة، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام حرب استنزاف، فدخلت مفاوضات مع حركة سبق لها أن وصفتها بأنها "إرهابية".
ليست جديدة
هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية، ليست جديدة، وكذلك انتصار الأفغان على القوى الكبرى، فلم يكن ما حدث مفاجئاً إلا للمهزومين الذين تعشش الهزيمة في صدورهم، وفي أكثر من ساحة هزمت أمريكا، وقد هزمت في فيتنام، ولم تنتصر في كثير من العواصم التي احتلتها إلا انتصاراً وقتياً، يشبه كثيراً ما يُعرف بمصطلح "اللقطة الأمريكاني"، والذي يطلق على عملية تصوير بالكاميرا، تصدر ضوءاً، ولا تلتقط صورة، فالنصر دائماً في البداية بتسليط الضوء واحداث الابهار، الذي يقوم به الجيش الأمريكي، وكأننا في مشهد من مهرجان كان!
والحفاة العراة في أفغانستان، هم الذين سبق لهم أن هزموا قوى عظمى، مما كان بداية لانهيارها ، حيث نجح من سموا بالمجاهدين الأفغان في الحاق الهزيمة بالاتحاد السوفييتي، مما أدى لتفككه بعد ذلك، وسبق الأفغان أن هزموا بريطانيا العظمى!
وكما الجيوش النظامية التي تهزم ـ على قوتها ـ في حروب الشوارع، فكذلك الامبراطوريات، فليس أقسى من مواجهة من لا يوجد في حوزته ما يخسره، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الحروب الكبرى.
وبعد التجربة القاسية، يحسب للولايات المتحدة الأمريكية أنها لم تزايد على نفسها وتستمر في احتلال أفغانستان ودفع ضريبة ذلك من لحم الحي، لاسيما وأنها بعد عشرين سنة من المواجهة لم تنجح في القضاء المبرم على العدو!
وهذا الأمر هو الذي مكن لطالبان أن تفرض شروطها في جولات المفاوضات الأخيرة، وليس من المنطق أن تفرط واشنطن في سمعتها، بالرضوخ لهذه الحركة من أجل هدف بعينه، يدفع قادة البيت الأبيض للجلوس وجهاً لوجه مع من كانوا يصنفونهم في السابق "إرهابيين"، والهزيمة تحققت بمجرد الموافقة على الدخول في هذه المفاوضات!
السمعة الأمريكية
إن القادة الأمريكيين يدركون تماماً حجم المخاطرة بالسمعة الأمريكية في بقاء القوات في أفغانستان، ولهذا ومنذ ترشيح أوباما، والدعاية تقوم على سحب القوات من الخارج، لكن أوباما كان ضعيفا فلم يجرؤ على هذه الخطوة، ولم يختلف الديمقراطيون والجمهوريون على ضرورة سحبها، وقد بدأ ترامب المفاوضات التي واصلها بايدن مع ما بينهما من خلاف كبير وعميق، لاسيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية صارت لديها أولويات أخرى، حيث الحرب المعلنة مع إيران، والحرب الباردة مع الصين، وهي تريد حشد المنطقة في هذه الحروب!
الحفاة العراة في أفغانستان، هم الذين سبق لهم أن هزموا قوى عظمى، مما كان بداية لانهيارها ، حيث نجح من سموا بالمجاهدين الأفغان في الحاق الهزيمة بالاتحاد السوفييتي، مما أدى لتفككه بعد ذلك، وسبق الأفغان أن هزموا بريطانيا العظمى!
ومن هنا يحلو للبعض اعتبار أن انتماء طالبان لأهل السنة يمكن ان يدفع بهم لتمثيل أداة أمريكية للدخول في حرب بالإنابة، وقد يحدث هناك توافق في الأهداف بين واشنطن وطالبان، لاسيما وأن إيران كانت دائماً تريد أن يكون لها موقع في أفغانستان، ولهذا دخلت في أزمات كبيرة مع حركة طالبان بل ومع المجاهدين الأفغان من أهل السنة، ويعجب المرء عندما يعلم أنه في الوقت الذي كانت فيه طهران مصرة على الاحتفاء بقاتل السادات خالد الاسلامبولي، بإطلاق اسمه على أحد الشوارع رغم اعتراض النظام المصري على ذلك، وهو ما كان يستخدم ذريعة للقطيعة بين البلدين، أن يتم اعتقال شقيقه من قبل الإيرانيين!
لكن عودة طالبان للحكم، هزيمة شكلية لطهران، تشبه إلى حد كبير انتصارها الشكلي بهزيمة الحركة وعزلها بواسطة الأمريكان، فلم تجن إيران شيئاً من وجود الحكومة الأفغانية التي فرضت بعد عزل طالبان!
تبدو طهران حريصة على عدم الدخول في مواجهة، وفي اعتقادي أن دخول طالبان الحرب مع طهران أمر مستبعد، ولو كان لواشنطن نية في شيء من هذا لفعلته من خلال حكومتها الأفغانية "الهاربة"، والجيش الذي أنفقت عليه المليارات، فكان كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
انتصار طالبان
الحقيقة، أن طالبان انتصرت، كما انتصر المجاهدون الأفغان من قبل، وأن انتصارها حدث بالتراكم وبالنقاط ولم يكن فجأة، لكن الذين يعيشون الهزيمة لا يمكن أن يقروا بذلك، وقد صاروا عبئاً على أنفسهم باللجوء لنظرية المؤامرة، وقد اعترف بايدن بالهزيمة ولم يبق له إلا أن يقسم بالإيمان المغلظة أنه هزم ولن يصدقه المروجون لنظرية المؤامرة. ولم تكن هزيمة للقوات الأمريكية فقط ولكن لكل جيوش الغرب هنا، بما في ذلك حلف الناتو، فهل تواطأت كل هذه الدول مع واشنطن في ادعاء الهزيمة؟!.
اطرد الهزيمة من داخلك.. يُكتب لك الشفاء.
مشاكل متعددة مزمنة بالاقتصاد الأفغاني
أفغانستان الطالبانيّة في زمن تراجع الإمبراطورية الأمريكية