من المباحث الأساسية التي توفرنا على الاهتمام بها مبحث
الشرعية وحقيقته الكامنة فيه، وارتباطه بمعاني الهوية والمشاركة ومفاهيم سياسية أخرى، والتمييز ما بين مفهوم الشرعية الذي ينصرف إلى معنى الرضا الجماعي؛ والمشروعية كمفهوم قانوني يعبر عن الالتزام والامتثال للقانون. إلا أن الجانب المفتقد ضمن منظومة المفاهيم تلك هو الربط بين تلك المفاهيم جميعا، وعلى رأسها الشرعية بمفهوم
المواطنة. ذلك أن الشرعية في أبسط تعبيراتها هي رضا المحكومين عن حكامهم، هذا الرضا بما يشكل حالة نفسية جماعية إنما يعبر عن مفاهيم الرضا العام والرأي العام والمصلحة العامة من دون أن يهمل بأي حال من الأحوال المعاني التي تتعلق بالإنجاز والمسائل التي تتعلق باكتساب الشرعية ونقصانها وفقدانها، وبغض النظر عن تلك المستويات والمداخل التي تشير إلى تعقيد ذلك المفهوم فضلا عن الصعوبة التي تتعلق بالاستدلال على ذلك الرضا الجمعي.
إن ما يتعلق بفقدان السلطة لشرعيتها أو تآكلها قد يحدث احتجاجات واسعة وانتفاضات عديدة؛ تشكل في النهاية حالة ثورية تؤكد حق هذه الشعوب في محاسبة السلطة التي تقوم بالحكم والتحكم في مفاصل السياسة.
ومن هنا، فإن المستبد إنما يحاول بشكل أو بآخر أن يبدد المكونات الأصيلة لمفهوم الشرعية، وهو لا يحرص على اكتسابها وإنما يحاول من كل طريق إضفاء شرعنة على نظامه وعلى ممارساته وسياساته الطغيانية، كما أنه يحترف المسائل التي تتعلق بغسيل المخ الجماعي وتشكيل الرأي العام إلى حد "التصنيع"، من خلال وسائل عدة تتعلق بسياسات الأجهزة الأمنية واستراتيجيتها في الترويع، واتباع سياسات أخرى ضمن عمليات ممتدة ومتراكمة من التطبيع والتطويع، واستراتيجيات الاستخفاف الكبرى التي يمارسها بالمواطنين، فيكرس ذلك في النهاية منظومة استبدادية تحاول التمكين لقابليات الاستبداد وإحكام حلقاته ودعمه لشبكات من الفساد تشكلل الحاضنة الحقيقية لتلك السياسات الاستبدادية.
ومن هنا فإنه يهتم بنقض كل معاني الشرعية الحقيقية، ومحاولة إرساء شرعنة زائفة على باطل سياساته وممارساته الطغيانية. والشرعية بالنسبة له وقد شكل نظاما تابعا لدول خارجية تقوم بشكل داعم له بأساليب مباشرة وغير مباشرة؛ تظل شرعية من الخارج، وتظل المنظومة الاستبدادية تتجه في خطابها حول الشرعية إلى الخارج أكثر من توجهها إلى الداخل، إلا من بعض كلمات قد يطلقها المستبد هنا أو هناك من أنه يعبر عن إرادة الناس ويعمل لمصلحة الجماهير، وهو خطاب يعبر عن فائض سلطته بفائض من الكلام لا أثر له ولا معنى إلا أن يحكم حلقات استبداده وطغيانه أكثر فأكثر، مبررا تلك السياسات بأساليب أخطر وسياسات أحقر.
استحضرنا كل ذلك بصدد الآراء والتفسيرات المختلفة حول متغيرات مواقف النظام السياسي
المصري، والمعطيات المختلفة التي أدت إلى أن النظام المصري يعدل من حركته في محاولة أن يحدث حالة من التوازن الجديد. وهذا ربما سببه أن هناك أجنحة داخل النظام بدا لها أن تستعيد بعض الملفات التي وضعت في يد المنقلب، والذي استولى عليها وتفرد باتخاذ القرار فيها، وتحكم في معادلة الحكم وقد اختطف معظم إن لم يكن كل المؤسسات المتنفذة والتي تسهم في صناعة القرار في مصر؛ ومن ثم بروز دور المخابرات في الملف
الفلسطيني مرة أخرى، ذلك أن هذا الملف كان تقليديا في يد المخابرات العامة. وربما بعض ما نشاهده من تغيرات في السياسة المصرية يشير إلى عملية إعادة تموضع؛ وقد يكون ما يقوم به السيسي في هذا الوقت ليس سعيا نحو دور جديد أو المشاركة في تحالفات أخرى، ولكن جوهر موقفه الضغط على التحالف القديم من خلال التلويح بتكوين تحالف جديد.
وعطفا على كل ما سبق من معطيات ورصد المتغيرات، فإن مفهوم الشرعية يتعلق بالأساس بالمواطن ورضا المواطن ورضا المحكومين عن حكامهم؛ لكن النظم الاستبدادية استعاضت عن المعنى الحقيقي الذي يؤكد على وزن الداخل في قضية الشرعية ليركز على معنى خارجي للشرعية، أي مدى قبول النظام في المنظومة الدولية. والمنظومة الدولية تعاني من حالة ازدواجية في المعايير وفي الخطابات؛ ازدواجية المعايير واضحة في معالم كثيرة، في حين أن ازدواجية الخطاب تتجلى أكثر ما تتجلى في قضية دعم النظم الاستبدادية، حيث يظل خطاب الغرب عن الديمقراطية خطابا شكلانيا بينما سياساتها الفعلية تتناقض مع خطابها؛ حيث تدعم النظم الاستبدادية في إطار تحقيق مصالحه المباشرة وفي سياق يرسخ أهمية المصالح الاقتصادية، أو ما يسميه بالمصالح الاستراتيجية، من مثل إمدادات الطاقة وخلافها، على اعتبار أن هذه المصالح تجعله يتغاضى عن تحقيق خطابه حول الديمقراطية.
والغرب بذلك يمارس مساومات بينه وبين النظم الاستبدادية، حيث يقبل بالسكوت عليهم أو على أقصى تقدير طرح خطاب للزينة والتبشير والدفاع عن حقوق الإنسان، مُمَرِرا في النهاية الاستبداد وأنظمته في سبيل تحقيق مصالحه من خلال هذه النظم. وبدورهم يستغل المستبدون ذلك في إطار إسناد وعمل شرعنة لأنظمتهم من خلال هذا الرضا من النظم الرسمية في الخارج.
وذلك في حقيقة الأمر لا يمكنه أن يشكل عملية استقرار حقيقي أو استمرارية ذات مصداقية في حقيقة مفهوم الشرعية. ونظن أن هذا الاغفال من هذا النظام المستبد من جانب، ومن منظومة الدول الغربية من جانب آخر، قد يؤدي في الأمد المنظور والمتوسط إلى انفجارات في المنطقة على غرار هذا الانفجار الذي يتعلق بالأقصى وحي الشيخ جراح. ونظن أن رد معادلة الشرعية إلى أصلها في اعتبار الداخل وقضاياه الحقيقية التي تتعلق برضا المحكومين عن حكامهم؛ إنما يشكل بيت القصيد في الاستقرار الحقيقي وفي الاستدامة ذات المصداقية العالية.
ومن ثم فإن النظام المصري ضمن خياراته تلك في عملية إعادة التموضع؛ لن يملك الأسس القويمة التي تبنى عليها سياسة خارجية وإقليمية حقيقية، إلا من خلال مصالحة داخلية تؤكد على ضرورة إسناد تلك السياسات وإعادة التموضع في حالة مصالحة اجتماعية ومجتمعية شاملة. وبدون ذلك يكون الاستقرار مشكوكا فيه، والاستمرارية مهددة في مكوناتها وغاياتها.
ومن ثم فلا نجد تفسيرا لكل تلك المشاهد التي تتعلق بإعادة تموضع النظام السياسي المصري، وسياسات التقارب المختلفة، وبناء مواقف مغايرة عن تلك المواقف الثابتة التي اتخذها من حصار غزة ومن التجاهل والإهمال والتغافل عن كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتغاضي عن ممارسات الكيان الصهيوني في انتهاك الأقصى وتهويد القدس، وكل تلك السياسات التي اتبعها الرئيس السابق "ترامب" مساندا هذا الكيان الصهيوني وداعما له في كل قراراته وفي كل سياساته.
وعلى هذا تبدو لنا فكرة المواطنة غائبة عن تصورات النظام في قضية الشرعية، بل هو لا يأبه بالمواطن أصلا أو رضاه، ممارسا كل السياسات والممارسات التي تتعلق باستراتيجية الاستخفاف والإغفال للمواطن في كل أحواله.
محصلة القول إذا أن الشرعية في الأساس ليست مفهوما خارجيا، بل هي مفهوم داخلي يشير إلى قواعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم المشكّلة لعلاقة ومعادلة ما بين السلطة والمجتمع؛ تقوم على قاعدة من الشرعية الحقيقية والرضا العام، ولا تقوم بأي حال من الأحوال على أساس من الرضا الخارجي المسكون بحالة من حالات التبعية أو الرضا الزائف الذي يتصور النظام أنه يمكن أن يشكله على قاعدة من غسيل المخ الجماعي.
إن رد الشرعية إلى أصلها وإلى مفهومها الجوهري هو المنوط به عملية الاستقرار الحقيقية التي يستند إليها المستبد؛ ضمن مساومات ومقايضات لا تشكل حالة استقرار ثابتة ولا استمرارية صادقة.
وهي أمور تؤكد أن طبعة المستبد حول الشرعية طبعة خاصة؛ ليس للمواطن فيها من مكان وليس لرضاه أو إرضائه أي مقام أو مكان. وهو أمر يضرب مفهوم المواطنة في مقتل ويفرغه من معناه؛ ويجعل المواطن مقصيا من حقوقه منفيا في أراضيه، وأكثر من ذلك، يثبت معاني المواطنة المقهورة والمهدورة والمحبوسة في داخل الوطن والمطاردة في خارجه.
ومن هنا وجب علينا دائما أن نتبصر شبكة العلاقات بين تلك المفاهيم، خاصة مفهوم الشرعية الذي يعد من مفاهيم الأساس التي ترتبط به وتنتظم من خلاله مجموعة مفاهيم تتعلق بالمواطنة وحقوق الانسان والعدالة والاهتمام بشأنه ومعاشه والاعتداد بكرامته ورأيه، إلا أن المستبد يسير على كل هذه الأمور وتلك الحقوق، ناقضا إياها ومعاكسا لها ومنتهكا لجوهرها.
ستظل هذه الفجوات المواقف والمظالم المتراكمة بشأن الحقوق والتشوهات في السياسات؛ تنتقم من هؤلاء جميعا في الداخل والخارج على حد سواء، وسواء كان كيانا محتلا غاصبا أو نظاما مستبدا طاغيا، أو نظاما دوليا مشوها ظالما.. كل هؤلاء الذين اعتقلوا المعاني الحقيقية للشرعية الداخلية والدولية وفرغوها من جوهرها، وكذا إغفال الالتزامات الأكيدة التي تمثلها الشرعية الدولية في قراراتها المتراكمة. وسيظل الاستخفاف بالمواطن ومحاولة تغليف سياسات النظام المستبد بحُجُب من الرضا الزائف والتبرير المزور، إذ يخاطب معاني الاستخفاف والعنصرية ويحاول تلبيسها بالوطنية والمواطنة ومصلحة الوطن، وتظل تلك المواقف المسكونة بالاستخفاف والعنصرية تنسف معاني الإنسانية والمواطنة معا، وتنقض أيضا الحقوق وتتبنى معاني التفوق الكاذب الذي يضاد كل قيمة إنسانية وحقيقة وطنية.
twitter.com/Saif_abdelfatah