كتاب عربي 21

مستقبل الحكم العسكري على خلفية موقعة البط البكيني!

1300x600
بدا خبراً فكاهياً في أجواء مشحونة، لكني نظرت إلى تداعياته إلى أبعد من الجانب الفكاهي فيه!

كان الخبر الذي نشرته "بوابة الأهرام" يحمل عنواناً طويلاً "4 قراميط تفترس 10 بطات بكيني بحديقة حيوان الجيزة.. وحراس البحيرة ينجحون في اصطيادهم"!

أما متن الخبر فكان يعبر عن ملحمة حربية، وقعت في حديقة الحيوان الشهيرة، ربما لأن المحرر كتبه على وقع ملحمة حربية أخرى تقع على أرض فلسطين، وربما لأن قائد هذه الملحمة هو جنرال، وحيث وجد العسكريون كانت الملاحم.. ألم تر كيف انتصب بعضهم ذات يوم وهم يهتفون في جدية وحسم ووقار، وينطقون أسماءهم مع صفاتهم الوظيفية الجديدة، فهذا "قائد مقاتل على خط الجمبري"، وهذا "قائد مقاتل على خط البلطي"، وفي حضور الجنرال الأكبر، القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية بحكم منصبه، ومن يحمل أعلى رتبة عسكرية وهي "المشير"، بحكم وظيفته!

في البداية اعتقدت أنه مشهد هزلي، وإذ كنت في الأستوديو، فقد احتشدت لإعلان رفضي الإساءة إلى الجيش المصري على هذا النحو، لكن بعد قليل تبين لي أن ما أراه حقيقة، وليس صوراً هزلية، بيد أن الحسم العسكري يلزم بهذه الجدية الفائقة عند إعلان المواقع الحربية الجديدة، من قائد مقاتل على خط الجمبري، إلى قائد مقاتل على خط البوري!
كان خبر "بوابة الأهرام" مناسبة عظيمة لنقف على أن حديقة الحيوان بالجيزة تمت عسكرتها، وصار يرأسها من يحمل رتبة الجنرال. صحيح أن "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس" هو "لواء طبيب"

وجاءت صياغة خبر موقعة "القراميط" و"البط البكيني" بحديقة حيوان الجيزة، على التغطيات الحربية، وكأنه تغطية لحرب عظمى التقى فيها الجمعان، أو صياغة لخبر مرتبط بمناورة عسكرية كان ميدانها "حديقة الحيوان"، وكانت القيادة العليا برئاسة الجنرال المفدى "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس".. هكذا كتب اسمه كاملاً غير منقوص، حتى لا يضيع إنجازه العسكري باحتمال تشابه الأسماء، الذي لا ينسب الفضل لصاحبه، والانتصار الهائل لقائده!

وكان خبر "بوابة الأهرام" مناسبة عظيمة لنقف على أن حديقة الحيوان بالجيزة تمت عسكرتها، وصار يرأسها من يحمل رتبة الجنرال. صحيح أن "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس" هو "لواء طبيب"، لكن ما رشحه لهذا الموقع الحربي الكبير، الذي هو "حديقة الحيوان" بالجيزة، ليست الصفة الثانية (طيب) ولكن الرتبة (لواء)، وتردد أنه أحد الجنرالات الذين كانوا يقفون على خط النار في اليوم إياه، ولا أعرف بعد على أي خطوط القتال كان يقف يومئذ، خط الجمبري، أم خط الإستاكوزا؟ فلما أحيل للتقاعد وجد وظيفة في انتظاره، كانت مدنية، وقد جرت عسكرتها مع عسكرة وجه الحياة العامة في مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013!

إخلاء الحديقة:

ويبدو أن هذه العسكرة لحديقة الحيوان، فضلاً عن أنها مكافأة نهاية الخدمة للواء محمد رجائي عبد الحميد يونس، إلا أنها تبدو في الوقت نفسه لتنفيذ مهمة إخلاء الموقع الذي فيه الحديقة، التي تقع في قلب محافظة الجيزة، وعلى ثلاثة شوارع رئيسة بها، أهمها شارع مراد، الذي غير اسمه محافظ بهلوان كان يلعب بالبيضة والحجر، هو المستشار ماهر الجندي، عند زيارة الرئيس الفرنسي لمصر، وكان سيمر من هذا الشارع، إلى شارع شارل ديجول!
يبدو أن هذه العسكرة لحديقة الحيوان، فضلاً عن أنها مكافأة نهاية الخدمة للواء محمد رجائي عبد الحميد يونس، إلا أنها تبدو في الوقت نفسه لتنفيذ مهمة إخلاء الموقع الذي فيه الحديقة، التي تقع في قلب محافظة الجيزة، وعلى ثلاثة شوارع رئيسة بها

ولأن فلسفة تاجر الأراضي تسيطر على الحكم في مصر، فكلما وجد قطعة أرض فيها الطمع تم إخلاؤها، وليس آخر هذه القرارات قرار إخلاء منطقة نادي الصيد بالإسكندرية لصالح الإماراتيين، والحجة أنها منطقة عشوائية. والنظام ينشر الجمال في أنحاء العالم، وهي مقولة حق يراد بها باطل، فالأتراك لديهم تجربة رائدة في المناطق العشوائية كان ينبغي اعتمادها، فالبناء الحديث المنظم مع عدم طرد السكان، لو خلصت النوايا، ولم يكن صاحب القرار "تاجر أراض"!

والاتجاه الآن هو إخلاء أرض حديقة حيوان الجيزة، لنقلها من مكانها التاريخي إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والمشتري حاضر دائماً، يحصل على هذه الأراضي بالأمر المباشر، فلا أرض تباع في مصر إلا للإمارات، وقد يكون هناك مشتر سري يقف خلف هذه الدولة الخليجية. لكن لا يمكن القول إن "حديقة الحيوان" عشوائية والقوم ينشرون الجمال في ربوع المحروسة، لكنه الغرض الذي هو مرض، وقد تمت عسكرتها لهذا الهدف، الذي يحتاج إلى الجنرال محمد رجائي عبد الحميد يونس، صاحب ملحمة الحديقة، في موقعة القراميط والبط البكيني!

وتأمل الجنرال الموقف:
الاتجاه الآن هو إخلاء أرض حديقة حيوان الجيزة، لنقلها من مكانها التاريخي إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والمشتري حاضر دائماً، يحصل على هذه الأراضي بالأمر المباشر، فلا أرض تباع في مصر إلا للإمارات، وقد يكون هناك مشتر سري يقف خلف هذه الدولة الخليجية

في خبر "بوابة الأهرام" المنشور، أن "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس" تلقى خبراً باختفاء بطات من الحديقة، من النوع البكيني، وعندما بدأت التحقيقات تلقى بلاغاً جديداً باختفاء ثلاث بطات أخرى، وإذ تمت مراجعة كاميرات المراقبة الخاصة بالحديقة، فلم تسجل أية محاولة لأي فرد من الحراس اقترب من البحيرة التي يوجد بها البط البكيني!

والحال كذلك، والقضية قد تنتهي بالقيد ضد مجهول، وهو أمر من شأنه أن يطعن في الكفاءة العسكرية للواء محمد رجائي عبد الحميد يونس، الذي لم يستسلم لأمر يحتاج إلى "عقلية عسكرية"، فصاح صيحة الحرب وهتف في البرية: أنا لها!

وجاء في الخبر، أنه ذات صباح وصل "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس" للحديقة في ساعة مبكرة، ووقف في الحديقة يتأمل، ولأن تأملات أمثاله لا تنطلق من فراغ أو تصب فيه، فقد شاهد بعينيي رأسه مشهداً سريعاً لم يستغرق "عدة ثوان" لـ "حيوان مائي" يقفز من تحت سطح مياه البحيرة، واقتنص بطة بكيني واختفى بها تحت سطح مياه البحيرة، وعندئذ أصدر "أوامره العسكرية" بتجفيف مياه البحيرة، وهو ما حدث فعلاً، ليعثروا على أربعة قراميط، طول كل "قرموط" متر ونصف المتر، وقطره 25 سنتمتر، ليقف الجنرال الجهبذ على حقيقة الموقف، وهي أن هذه القراميط الأربعة هي التي افترست عشر بطات خلال الستة أشهر الماضية!

عندي تحفظ لا قيمة له على هذه الراوية، فلا يجوز لمدني مثلي أن يعرف أكثر من عسكري مقاتل، راقب حركة الحياة في البحيرة وتوصل لسر اختفاء عشر بطات من البط البكيني المعتبر؛ فلماذا التغول من قبل القراميط لم يكن قبل الستة أشهر، هل لأنها كانت صغيرة على الحب، أقصد على القنص؟ والملاحظة الثانية أن سمك القرموط وإن كان من نوع من الأسماك لا يقتصر طعامه على حشائش البحر، وعلى الأسماك الصغيرة، وما في حكم ذلك، إلا أنه يأكل الجيف، وليس الحي من البشر أو الطيور، لكن لا بأس!

دوي المدافع وطلقات الرصاص:

فالحاصل أنه بعد أن نشرت "بوابة الأهرام" هذا الخبر على وقع دوي المدافع وطلقات الرصاص بقيادة "اللواء محمد رجائي عبد الحميد يونس"، فقد سخر المعلقون من الخبر، الأمر الذي وجدت معه "بوابة الأهرام" نفسها في حرج، ليس لأنها نشرت مثل هذا الخبر، وبهذا الإيقاع، ولكن لأن السخرية نالت من الرتبة العسكرية، ومن إدارة القوم بشكل عام، فتم حذف "رتبة اللواء" التي تسبق اسم رئيس "حديقة الحيوان" بالجيزة "محمد رجائي عبد الحميد يونس"!

إلى ما قبل وقوع الانقلاب العسكري، كانت المؤسسة العسكرية ترفض نشر الرتب العسكرية للمتقاعدين من الضباط، وقد كتبت هنا عن قصة اثنين من الجنرالات كانا يكتبان في جريدة "الأحرار"، أحدهما نائب رئيس الحزب "اللواء أركان حرب" صلاح الدين الرفاعي، والثاني هو "اللواء" محمد شبل، وأمام إصرارهما على كتابة الرتبة كان الاتفاق أن يتبع هذا كتابة كلمة متقاعد بعد الرتبة العسكرية لكل منهما. لكن بوقوع الانقلاب العسكري، كانت الجرأة على هذه الرتب وشاهدنا من خرج من الخدمة برتبة "الرائد" محمود زاهر، يتم تقديمه في الإعلام الرسمي بأنه "اللواء"، وبدا هذا مقبولا بل ومرحباً به من رأس النظام، للتدليل على أنه تمت عسكرة الحياة العامة في مصر، كما بدا هناك تهافت على التأكيد للانتماء للمؤسسة العسكرية الحاكمة، ولم يكن هذا قائماً من قبل!
لا يدرك السيسي أنه هنا يعمل لصالح الدولة المدنية، لأنه استدعى العسكريين ليكونوا في التعامل المباشر مع الناس، وكانوا دائماً بعيداً عنهم

ولا يدرك السيسي أنه هنا يعمل لصالح الدولة المدنية، لأنه استدعى العسكريين ليكونوا في التعامل المباشر مع الناس، وكانوا دائماً بعيداً عنهم، فلم تكن حظوظهم في الحكم إلا باعتبارهم فئة من فئات اعتمدها نظام 23 تموز/ يوليو 1952. وقد غيب السياسة، فكان البديل هي فئات التكنوقراط، ولم يكن العسكريون أوفر حظاً من فئات أخرى معتمدة مثل أساتذة الجامعات، والقضاة، وضباط الشرطة، عند المقارنة بين النسبة والتناسب بين الذين يتولون المواقع التنفيذية في الدولة، من مناصب وزارية أو مناصب المحافظين وما شابه!

فالجيش كان بعيداً عن الحكم منذ مرحلة مبكرة، بدأت بإلغاء مجلس قيادة الثورة، ثم تجاوز المجلس الرئاسي الذي شكله عبد الناصر كبديل، وانتهى هذا بوقوع هزيمة 1967، بصيحة عبد الناصر، وليس أحداً غيره: "سقطت دولة المخابرات"، وانصرفت المؤسسات العسكرية إلى اختصاصها الوظيفي، مثل جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية، تعيد بناء سمعتها، ولا تكون طرفاً في النزاعات السياسية. وحكم مبارك بالشرطة على مدى ثلاثين عاماً، ولأن وزارة الداخلية بأجهزتها كانت "في الصورة"، وكانت في المواجهة في ثورة يناير، فان هذا الاحتكاك هو سبب الكراهية الشعبية لها!

وابتعد الجيش عن الحكم، وعن المواجهة، هو ما حفظ له مكانته، ولهذا لم يجد ثوار يناير حرجاً من أن يسلم مبارك الحكم بعد تنحيه للمؤسسة العسكرية، وكانوا قد هتفوا في اليوم الأول للثورة بحياة الجيش عندما رأوا مدرعاته، وباعتباره نزل لحمايتهم من ضباط الشرطة، لكن هذا الحضور الآن ينتقص من هذه "الكرامة" التي اكتسبها العسكريون من خلال البعد عن الحياة المدنية، لا سيما إذا علمنا أنه حضور مع سلطة الحكم العسكري، نافس الناس في معاشهم وزاحمهم في أرزاقهم، ولا سيما أن حديث المتحدثين منهم ممن يمثلون النخبة العسكرية في وسائل الاعلام، لم يكن على المستوى المقدر في السابق، وعند المبالغة في النشر عن إنجازاتهم يكون المردود عكسياً تماماً كما حدث في موقعة القراميط والبط البكيني!

لقد اضطرت "بوابة الأهرام" بعد سيل التعليقات على الخبر المنشور، إلى التدخل وحذف رتبة "محمد رجائي عبد الحميد يونس"، وهو حذف له دلالته الخاصة!

فدعوني أشكر الجنرال على كل ما يقدمه لصالح الدولة المدنية.. فيثاب السيسي رغم أنفه!

twitter.com/selimazouz1