أفكَار

ما هي تداعيات انتفاضة القدس على الساحة الفكرية العربية؟

انتفاضة القدس زادت من عزل المثقف المتسول للدعم والجوائز- (عربي21)

لم تتوانَ غالبية الشعوب العربية والإسلامية عن مؤازرة الفلسطينيين في هبتهم الأخيرة للدفاع عن المسجد الأقصى، على اختلاف مناطق تواجدهم، سواء كانوا في بيت المقدس أو في الداخل الفلسطيني أو المقاومة في قطاع غزة، فكانت القدس وفي قلبها المسجد الأقصى العنوان العريض الذي وحد الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والفصائلية. 

وبدا واضحا أن تجرؤ الكيان الصهيوني على المساس بالمسجد الأقصى، أو السماح للمستوطنين بتدنيس قدسيته، كفيل بإلهاب مشاعر المسلمين في فلسطين وخارجها، فهو بما يحمله من رمزية دينية عالية يشكل قضية عقائدية هامة عند عموم المسلمين، ما يوجب عليهم بذل كل جهودهم، وحشد جميع طاقاتهم لحمايته من أي تهديد يمس هويته الدينية، مع التطلع الدائم إلى تحريره من قبضة الاحتلال الصهيوني. 
 
ووفقا للكاتب الأردني، هشام البستاني فإن عامة الشعوب العربية والإسلامية "تفاعلت تفاعلا كبيرا، وتضامنت تضامنا واسعا مع الجولة الأخيرة من النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ومع النقلة النوعية الكبرى التي حصلت من خلال انتفاضة فلسطينيّي 48، ومبادرة القصف الصاروخي من قبل المقاومة في غزة للرد على الاعتداءات الاستيطانية والتهجيرية في القدس، والنضال المستمر ضد التهجير، والمواجهات في مدن الضفة". 

 

                         هشام البستاني.. كاتب وباحث أردني

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "الأمر الذي أعاد ربط أوصال الفلسطينيين بعضهم ببعض، وأعاد الموضوع الفلسطيني إلى جذره الأول: النكبة ومشروع الاستعمار الاستيطاني، دافعا بالفهم التشويهي اللاحق (المتعلق بخطاب: الدولة والتعايش والسلام) إلى مكانه العبثي الصحيح". 

وأضاف: "على الرغم من ذلك التعاطف الشعبي الواسع إلا أن صوت ما يسمّى بـ"المثقفين" و"المفكرين" كان خافتا، وأحيانا كثيرة غائبا، وهو ما يرقى إلى الشراكة في الجريمة عبر السكوت عنها، وهذا نتيجة طبيعية لجهود إلحاقية كبرى عملت عليها السلطة لاحتواء الكتاب و"المثقفين"، تارة عبر آليات الاعتراف والدعم، وأخرى من خلال الجوائز والمهرجانات والاستضافات، وثالثة من خلال التقديم الإعلامي و"النجومية" الأدبية.

وتابع: "وهو ما جعل "المثقف" اليوم في حالة من الاستجداء الدائم، وحالة من الصمت الوقائي الذي يرجى منه ألا يُغضب المثقف أحدا حتى لا يفقد فرصة في الجوائز والنجومية والاعتراف، وباقي أشباه الرذائل الطارئة والاحتوائية" مشيرا إلى "أهمية ملاحظة أن بعض هذه الدول التي ترعى الجوائر الكبرى وتدغدغ أحلام النجومية الأدبية للكتاب هي دول عربية تتحالف اليوم مع الصهيونية، وتروج لهذا التحالف".

ووصف البستاني الثقافة العربية بـ"أنها تعيش حالة من الانحطاط النقدي الفكري، وصعودا لنموذج المثقف المتسول، الذي يطلب الدعم والجوائز والاعتراف والنجومية من السلطة، نتيجة لتخلي العديد من الكتاب عن مهماتهم النقدية ومواقعهم المواجهة للسلطة، ومن يستجدونها ويسكتون عنها، ويتجنبون إغضابها، وهذا ما شهدناه خلال الأحداث الأخيرة في فلسطين؛ غضب هائل وتضامن كبير في الشارع العربي، وصمت وخجل في أوساط كثير من "المثقفين" و"المفكرين" والكتاب". 

وأشار إلى أن "المعركة الأخيرة كشفت عن انفصامات وانسلاخات وتشظيات الساحة الفكرية العربية، إن صحت هذه التسمية، فمن جهة: هناك خجل من تأييد المقاومة المسلحة في مواجهة العنف الصارخ والإرهابي والمستمر بلا توقف للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ومن جهة ثانية هناك مجاملة للمجموعات العربية التي تندرج اليوم ليس في (سلام) مع الصهاينة فقط، بل وفي تحالف واضح معهم..". 

من جهته رأى الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، المتخصص في شؤون المشرق العربي، والحركات الإسلامية، الدكتور شفيق شقير أن تطورات الأحداث في فلسطين تأتي "والمنطقة ما زالت تعيش تداعيات الانقسام ما بعد الربيع العربي، فهناك من كان معه، وهناك من كان ضده، وهناك من وقف مع قوى الثورة وأيدها، وهناك من وقف مع قوى الثورة المضادة". 

 

                         شفيق شقير.. باحث في مركز الجزيرة للدراسات


وأضاف: "وهذا الانقسام ما زال يؤثر على الموقف من راهن القضية الفلسطينية، فنجد أن المثقفين الذين أيدوا الثورات يقفون مع القضية الفلسطينية، ويؤيدونها تأييدا مطلقا، أما الذين كانوا ضد الربيع العربي، وضد الثورات فلديهم تحفظات بشأن المقاومة العسكرية، لأنها لن تقود وفق رايهم إلا إلى مزيد من التدهور، ولن تنجز مطلب تحرير فلسطين". 

وطبقا لشقير فإن "خطاب عموم الشارع العربي، والذي يمثل غالب توجهات الأمة ويحدد مواقفها من القضية الفلسطينية، هو الأكثر حضورا بتأييده ودعمه ومؤازرته لها، وهو ما ظهر تفاعله الأكبر في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المظاهرات والمسيرات والاعتصامات الجماهيرية في الواقع".

ولفت شقير في تصريحاته لـ"عربي21" إلى أن دخول فلسطينيي الداخل (48) على خط المواجهة، وظهورهم كفاعل في النضال الفلسطيني، سيضيف كثيرا على الصعيد الفكري التنظيري، كما أنه أضاف الكثير على الصعيد السياسي، فهناك اتجاهات داخل الخط الأخضر، ونحتاج إلى توضيح خياراتها بشكل أكبر، فهناك من يريد التعايش مع إسرائيل، ولو مرحليا وتكتيكيا، لأنه يخشى من الفناء والاندثار، ويبحث عن أفكار جديدة لتحقيق ذلك، وهناك من يرفض التعايش مع إسرائيل من البداية، ويراه هزيمة، وبين هذين الرأيين تظهر الحاجة إلى نقاش أوسع وأعمق". 

ولاحظ شقير أن تداعيات المواقف المختلفة من الداعمين للمقاومة الفلسطينية، كإيران وسوريا، وطريقة إدارة نتائجها سيترك آثارا سلبية على شريحة واسعة من العرب على اختلاف جنسياتهم، وسيوسع دوائر النقاش حول كيفية الجمع بين مقاومة الاستبداد ومقاومة الاحتلال، وحينما تتناقض مصالح أولئك الذين يقاومون الاستبداد، وأولئك الذين يقاومون الاحتلال، ما الذي يجوز لهم، وما الذي لا يجاوز لهم أخلاقيا وسياسيا، وهو الذي سيكون الأخطر على القضية الفلسطينية، وكذلك على القضايا العربية الوطنية، وعلى الوعي العربي بشكل عام" على حد قوله. 
 
وفي ذات الإطار قال الأكاديمي والباحث المغربي، الدكتور فؤاد هرّاجة: "من المعلوم أن الساحة الفكرية العربية في علاقتها بالقضية الفلسطينية منقسمة إلى صنفين: أولهما: أقلام تدور في فلك السلطة الحاكمة وظيفتها إعادة تدوير وإنتاج مواقف النظام الحاكم، بعدما رهنت هذه الأقلام كل مقدراتها الفكرية لخدمة السلطة الحاكمة، وثانيهما: فهي الأقلام المناضلة والثائرة والرسالية، وهي تتميز بالمبدئية والوقوف مع القضايا العادلة محليا ودوليا". 

 



وأردف: "ولأن الزمن، هو زمن التطبيع، فقد أغاظ الصنف الأول ما حققته المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها السلمية والعسكرية، وأظهرت وحشية الكيان الصهيوني، وعرّت وأسقطت كل ذرائع التطبيع، ومن ثم فإن هذه الأقلام اعتبرت الانتفاضة الشعبية والمواجهة العسكرية مجرد مغامرة غير محسوبة، ومقامرة بأرواح الفلسطينيين، وسلامة أجسادهم، وأنها تفويت وإضاعة لفرص السلام، وهذا الخطاب المنبطح منتظر من هذا الصنف الذي يتميز بقدرة فائقة على التلون والتبرير". 

أما الصنف الثاني فلكونه مبدئيا في أفكاره ومواقفه، فرأى هرّاجه في حديثه لـ"عربي21" أنه "لا يتخلف عن واجبه عندما يكون الأمر متعلقا بأم القضايا العادلة، ألا وهي القضية الفلسطينية، فكثيرة هي الأقلام في الوطن العربي التي حملت على عاتقها استنهاض همم الشعوب، وحقنها بجرعات المناعة الفكرية حتى لا تصاب بداء الاستسلام والهزيمة والتطبيع". 

ورأى أن "المطلوب اليوم من النخب الفكرية العربية كل من موقعه، وكل في مجال تخصصه، أن ينبروا بأقلامهم وأفكارهم لبيان النصر الاستراتيجي الذي حققته المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، بوسائلها الذاتية وإمكاناتها المحدودة، وإقناع شعوب الأمة بأن اقتلاع الاحتلال الصهيوني أمر ممكن وليس مستحيلا أو قدرا محتوما". 

بدوره لفت الكاتب والباحث العراقي، إياد عطية، إلى أن "غالب أبناء الأمة الإسلامية يرون أن القدس هي قضية الأمة بأجمعها، وكل معركة تخص القدس سوف يكون لها أثر بالغ وكبير في تحريك وجدان الناس في العالم، وفي مقدمتهم النخب الفكرية، ولا بد لسائر الشعوب والأمم الأخرى أن تفهم أن قضية القدس وحق الدفاع عنه لا يقع على عاتق أهل غزة، وتحديدا حماس فقط بل هو واجب الأمة جميعها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال فصل قضية القدس عن قضايا الأمة". 

 

                             إياد عطية.. كاتب وباحث عراقي

وأكدّ في حواره مع "عربي21" أن "قضية القدس تحتل في وجدان الشعوب العربية والإسلامية محور قضاياها ومحركها الرئيسي، وهذا من أهم واجبات النخب الفكرية العربية والإسلامية في تبيين ذلك وترسيخه، وإيصاله للعالم، ولقد استطاعت المقاومة تثبيت حقها في الدفاع عن أهلها وأرضها ومقدساتها، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تفاعل الشعوب في العالم وتأييدهم للفلسطينيين وحقهم في الدفاع عن أنفسهم ومقدساتهم". 

وركز عطية في ختام كلامه على "ما أظهرته المواجهات الأخيرة من مركزية قضية القدس، فهي الهدف السامي والكبير الذي يندرج ضمن أهم الأهداف العريضة التي يتفق عليها غالب أفراد الأمة على اختلاف توجهاتهم الفكرية، وعلى الرغم من التشرذم والتنازع الموجود داخل تيارات الأمة في القضايا الأخرى".