تفاعلت غالب الشعوب العربية والإسلامية مع الأحداث الجارية على أرض فلسطين، بعد هبة المقدسيين لمواجهة مخططات الاحتلال الصهيوني في تهويد القدس وتهجير أهالي حي الشيخ جراح، وتصدي الفلسطينيين للاعتداء على المسجد الأقصى، وما أحيته المقاومة الفلسطينية في غزة بعد دخولها على خط المواجهة من معاني العزة والكرامة والقدرة على إحداث النكاية في الكيان الصهيوني الغاصب.
ومن اللافت، حسب مراقبين أن هبة المقدسيين، وانخراط فلسطينيي الداخل، وحراك الضفة الغربية، وتألق المقاومة الفلسطينية في مواجهة عنجهية الاحتلال الإسرائيلي، تأتي في وقت يشهد فيه النظام العربي الرسمي حالة استخذاء غير مسبوقة، بعد اندلاق أنظمة عربية نحو التطبيع الرسمي مع إسرائيل، وفي وقت علا فيه الكيان الصهيوني في محيطه الإقليمي علوا كبيرا، ما جعل الهبة الفلسطينية الحالية بكل عنفوانها أمرا مفاجئا وغير متوقع.
الفعل الفلسطيني المقاوم بقوته وصموده وفعاليته أرخى ظلاله على مختلف جغرافيا العالم العربي، فأجّج مشاعر الغضب والسخط ضد الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق إخوانهم الفلسطينيين من جهة، وأثار كوامن الحزن والأسى على حالة العجز العربي الرسمي والشعبي التي أقعدتهم عن نصرة إخوانهم، ومؤازرتهم في مواجهة العدو الغاشم من جهة أخرى، كما أعاد لهم في الوقت نفسه الأمل في إمكانية اجتراح أفعال بطولية مشرفة تعيد للشعوب المكلومة روحها وألقها وقدرتها على إحداث التغيير.
كما تأتي انتفاضة القدس لتعيد للقضية الفلسطينية ألقها ومكانتها المركزية في عمقها العربي والإسلامي، فـ "فلسطين هي مقياس عافية العرب، وبنضالها وصمودها كسرت حاجز الخوف والرعب، وحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر الذي آمنت به الأنظمة العربية، وخلقت توزنا جديدا في الصراع، وانتقلت من المقاومة بوسائل بدائية إلى الاستهداف المباشر لأهم مفاصل قوة العدو" وفق الكاتب والمحلل السياسي اليمني، عباس الضالعي.
عباس الضالعي.. كاتب وباحث يمني
وأضاف: "ورغم الحصار المفروض على الفلسطينيين من الاحتلال وأنظمة الحماية العربية (أنظمة القبة الحديدية لحماية إسرائيل) إلا أن الفلسطينيين اعتمدوا على قدراتهم الذاتية وغيروا معادلة الصراع من خلال إدخال عنصر القوة العسكرية وإن كانت اليوم بسيطة مقارنة بالقوة العسكرية للاحتلال إلا أن القوة العسكرية الفلسطينية تتغير وتتطور كل فترة، وهذا دليل على إرادة التحرر، فالإرادة وحدها هي من تعزز قوة النضال الفلسطيني".
وواصل الضالعي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ما يحدث في فلسطين أعاد للشعوب العربية وعيها وثقتها بقضاياها وهذا أهم انعكاس لما يحدث في فلسطين، فمقاومة الاحتلال بالقوة تعزز فكرة مقاومة الاستبداد والتسلط والفساد بالوسائل السلمية وبالإرادة ستنتصر الشعوب، فما كان مستحيلا في السابق أصبح اليوم واقعا والدليل ما يقوم به أبناء فلسطين".
وتساءل: "من الذي كان يتخيل أن 60% من الصهاينة سيعيشون في الملاجىء تحت الأرض، ومن كان يتخيل استهداف كل المدن والمناطق المحتلة؟ ومن كان يتخيل كسر هيبة الجيش الإسرائيلي بهذه الصورة؟ فإلى وقت قريب كان هذا شبه مستحيل خاصة مع هجمة التطبيع القوية التي أنفقت عليها مئات الملايين من أجل دفن القضية الفلسطينية، وقام الفلسطينيون بدفنها، لكن الفلسطينيين بإرادتهم الصلبة حطموا كل تلك المشاريع".
ورأى الضالعي أن "فلسطين هي مرتكز النضال، ومؤشر التحرر والتخلص من الاحتلال العسكري، أو على الأقل فإن كسر شوكته سيفتح الطريق أمام التحرر من الاستبداد والفساد وأنظمة القمع والتخلف التي تهيمن على الشعوب العربية، إذ خلقت الحرب الحالية في فلسطين وعيا عربيا وعالميا لدى الشعوب، وأوجدت تعاطفا شعبيا ونخبويا معها خاصة من شخصيات عامة ومشهورة في كل أنحاء العالم ما يمكن اعتباره نقلة نوعية مهمة".
ولفت إلى "أهمية قيام العرب (خاصة الأنظمة السياسية الحاكمة) بتوظيف هذا التعاطف"، لكنه "استبعد قيام الأنظمة باستثمار هذا الوعي لصالح القضية الفلسطينية وقضايا شعوبهم، لأن هذه الأنظمة أصبحت متكلسة وعاجزة عن إحداث أي تغيير"، مؤكدا أن "فلسطين وحدها تعيد للشعوب ثقتها بنفسها، وتستنهض طاقاتهم ومع الأيام سيحدث التغيير حتما، ففلسطين اليوم ليست فلسطين الأمس".
من جهته رأى الكاتب الصحفي الأردني، حاتم الهرش أن "ثمة ارتباطا وثيقا بين (الاحتلال) و(الاستبداد)، لأن أي احتلال معنيّ بالإبقاء على الأنظمة الاستبدادية التي ستحول بطبيعة الحال دون أي حراك شعبي يمكن أن يُفرز دولا ديمقراطية، لأن إنتاج الدول الديمقراطية يعني أنها ستلتزم بخيارات الشعوب إزاء دولة الاحتلال، وهو ما يعني أن الكيان الصهيوني سيكون في خطر، والعكس الصحيح".
حاتم الهرش.. كاتب وباحث أردني
وأردف: "إن الاستبداد في المنطقة العربية، يُفشل دوله بالارتهان للمعادلات التي يرسمها الاحتلال، وسياسات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة التي تخدم الاحتلال، ولأن تلك الدول ترتبط في مشروعية حكمها بمدى ما تُقدمه من تنازلات للعدو، والشواهد التاريخية في المنطقة العربية تؤكد هذه العلاقة".
وطبقا للهرش فإن "أي اختلال في بنية الاحتلال هو اختلال في بنية النظم المستبدة، والعكس كذلك، فإن أي اختلال في بنية الأنظمة المستبدة يعني خطرا استراتيجيا على العدو الصهيوني".
ولفت إلى أن "الثورات العربية كانت تستلهم نموذج الانتفاضة الفلسطينية، وتحاكي فعل الشباب الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب الصهيونية، لذا سنجد قوام الثورات العربية كان معتمدا على الأجيال الشابة التي كانت تتابع مجريات الانتفاضة في طفولتها أمام شاشات التلفزة، لذلك فإن الربط بين (الانتفاضة على المحتل) و(الثورة على المستبد) وثيق الصلة"، على حد قوله.
وتوقع الهرش أن "اشتعال انتفاضة فلسطينية سيحدّ من حضور (إسرائيل) في مشهد المنطقة شيئا ما، ومن ثم تراجع أدوارها في خدمة مشروع الثورات المضادة في مواجهة الثورات الشعبية، نتيجة لانشغال إسرائيل بمتابعة الانتفاضة خصوصا إذا ما اشتعلت على جبهات متعددة، وهو ما سيُخفف من قبضة الاحتلال على التغيرات التي يمكن أن تنشأ نتيجة اندلاع ثورات شعبية في العالم العربي".
وفي ذات الإطار قال الأكاديمي والباحث المغربي، الدكتور حفيظ هاروس: "لطالما اعتبرت الشعوب العربية القضية الفلسطينية قضية وطنية، إذ كانت حاضرة في أنشطة الأحزاب السياسية والجمعيات الإسلامية والثقافية، والحركات الطلابية، بل حتى عند النقابات المهنية، بحيث كنت تجد تقريبا في كل حزب أو جمعية أو ناد لجنة خاصة بالقضية الفلسطينية".
حفيظ هاروس.. كاتب وباحث مغربي
وأضاف: "هذا كان له أثره الواضح في تعميق الوعي بالقضية الفلسطينية من جهة، ودعم العمل الوطني من جهة ثانية، فالكثير من حركات التغيير والإصلاح كانت تجد في القضية متنفسا لكسر هيمنة الأنظمة الاستبدادية، وقد أشار إلى ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في أحد حواراته "كنا نمارس السياسة والحرية في المغرب زمن القمع من خلال القضية الفلسطينية"".
وأردف: "لكن القضية الفلسطينية عرفت في العقدين الأخيرين نوعا من الفتور لدى الشعوب العربية وحكوماتها بفعل عوامل متعددة منها: هرولة العديد من الأنظمة العربية نحو التطبيع، وتسخيرها لآلتها الإعلامية ونخبتها الثقافية من أجل تكريس ذلك، حتى أصبحنا نسمع شعارات مثل (فلسطين ليست قضيتي) في الخليج، أو شعار (تازة قبل غزة) عندنا هنا في المغرب وغيرهما".
ونبه هاروس في حواره مع "عربي21" على أن "وجود حراك عربي قوي في العقد الأخير، والذي ركز بالدرجة الأولى على المطالب الإصلاحية الداخلية مثل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أدّى إلى حد ما إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية سواء في الحراكات التي آلت إلى الحروب والاقتتال، أو تلك التي تغلبت فيها الثورة المضادة".
ورأى أنه "وفي ظل هذه التراجعات فإن تأثير انتفاضة القدس على الشعوب العربية وحراكاتها يبقى تأثيرا مرحليا ومحدودا، وذلك لأن اتساع رقعة التضامن مع الشعب الفلسطيني بالطريقة التي نراها عليه اليوم يكون في الغالب موسميا، ومرتبطا بالدرجة الأولى بالحروب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، فكلما استعرت نار الحرب اتقدت جذوة التضامن مع القضية، وكلما خبت نار الحرب خبت معها موجة التضامن، وتراجع حضور القضية".
وتابع: "لهذا يمكن أن نقول بأنه في أوج حركة التضامن فإن ذلك يؤثر فعلا على اتقاد الحراك الداخلي، فقد استطاعت حركة التضامن الواسعة مؤخرا أن تكسر الحظر على الحق في التظاهر في كثير من الدول العربية، وهذا مكسب مهم، لكن رغم ذلك فبمجرد انتهاء العدوان الغاشم على الشعب الفلسطيني ستتراجع معه حركة التضامن، وستجد الحراكات العربية نفسها تراوح مكانها مرة أخرى بفعل القبضة الأمنية الشديدة، وقدرة الثورة المضادة على قضم الكثير من المكتسبات التي حققها ذلك الحراك".
وخلص في ختام حديثه إلى القول: "والحقيقة أنه كما يحتاج الحراك العربي إلى فكرة القضية الفلسطينية لكي تمده ببعض ماء الحياة، فإنه أيضا مطالب بالاعتماد على ذاته من أجل تحقيق حراك دائم ومستمر، يستمد قوته من ذاته، وقادر في الوقت نفسه على دعم القضية الفلسطينية فعلا من خلال المكاسب التي يحققها على الأرض".