أشهر طويلة من الانسداد والتأزم السياسي بتونس، أثر بشكل واضح على الرأي العام الذي بات في حالة خوف وارتباك مما قد يحصل خاصة بعد تواتر الحديث عن تقاتل وحرب أهلية قد تعصف بالبلاد والكشف عن وثيقة سرية وصلت مديرة الديوان الرئاسي وهي خطة "انقلابية"، ليخرج بعدها بساعات متقاعد عسكري عبر بيان للرأي العام يتحدث فيه عن ضرورة إنقاذ البلاد مستغلا صفته العسكرية السابقة.
وبطريقة مفاجئة وغير
متوقعة يخرج رئيس الجمهورية قيس سعيد، في لقاء برئيس الحكومة هشام المشيشي،
الأربعاء، ويعلن براءته من الوثيقة ويؤكد أنه ليس من دعاة الانقلاب وأن الاختلاف في
المقاربات بين الرئاسات أمر طبيعي ولكنها لابد أن تعمل في تكامل.
تحول جذري يؤكده
متابعون في حديث سعيد الذي اتسم بالهدوء وغاب عنه التشنج لتطرح فرضية فتح صفحة
جديدة إلا أن هناك من استبعد ذلك وقلل من بوادر الانفراج.
مشهد جديد؟
وقال الباحث
والأكاديمي زهير إسماعيل في قراءة خاصة بـ"عربي21" إن رئيس الجمهورية
تغيّر في الشكل وتغير في المضمون من خلال تأكيد وحدة الدولة ودعوته إلى التكامل
وضرورة التنسيق بينها، وهذا ما كان يرفضه منذ توليه الرئاسة، وأيضا من خلال الردّ
على وثيقة "الانقلاب الدستوري" وعلى مرجعية القانون والدستور في تسيير
الدولة، وأيضا من خلال استعادة موضوع الصلاحيات والتلميح إلى رئيس مجلس النواب ولكن
بخطاب إداري دبلوماسي تخلى فيه الرئيس عن لغة الإدانة وقراءة النوايا وما تخفيه من
مؤامرات.
واعتبر الباحث إسماعيل
أن "هناك تغيّرا في الأسلوب واللهجة والمضمون بما يمكن معه الحديث عن تراجع
واستعداد للانفتاح دون الاعتراف بذلك" كاشفا أن "أي تقارب، بل مجرد
هدنة، سيغيّر المشهد السياسي رأسا على عقب".
وعن هذا التحول
المفاجئ للرئيس يرد الباحث "يبدو أن تعاقب الملفات المحرجة لرئيس الجمهورية، الطرد
المسموم، ووثيقة الانقلاب الدستوري، هزّت مؤسسة الرئاسة ونبّهت إلى خلافات عميقة
تشقها، ولا يستبعد تأثير الوضع الإقليمي والدولي والترتيبات المنتظرة وما لتونس
من دور فيها مهم لم تنتبه إليه رئاسة الجمهورية كما يجب الانتباه".
وانتهى زهير إسماعيل
إلى أن "الجبهة المناهضة للديمقراطية ومسارها تهتز وقد كانت رئاسة الجمهورية
تمثّل قطب الرحى فيها، وإنّ أي مراجعة جادة من قبل سعيّد باتجاه احترام الدستور
وعدم مناهضة مسار بناء الديمقراطية سيعطي مشهدا جديدا".
ولكن وفي مقابل ذلك
يذهب السياسي والباحث عبد الحميد الجلاصي في قراءة خاصة بـ"عربي21" إلى
أنه "من المعيب أن تعيش الجمهورية العربية المدنية الوحيدة على وقع سيناريوهات
الانقلابات منذ ست سنوات، ومن المخزي أن يعيش الجمهور منذ نصف سنة على وقع سلسلة
من التسريبات تبث الحيرة في الرأي العام وتشوش صورة البلاد عند أهم المتعاملين والأخطر أن تقضي على كل فرصة لرأب الصدع بين أهم الفاعلين".
ويتابع الباحث موضحا: "قد يحدث البعض نفسه بانقلاب، ولكنه لن يحصل للرئيس مقارباته ولكنه ليس في
وارد الانقلابات ولا يمتلك مقوماته حتى إن أراد ولكن هذا لا يعني أن الأوضاع
عادية، تونس بين تطاحن عدمي وإمكانية انفلات وفوضى، وهذه تتطلب معالجات سياسية لا
خطاب تحشيد وارتهان الرأي العام ومناصري الأحزاب وأجهزة الدولة إلى مخاوف أو
طموحات مرضية".
وعن فرضية انفراج
الأوضاع قلل الباحث من ذلك قائلا: "لا أنتظر شيئا من الفاعلين الحاليين الذين
سيواصلون سياسات الهروب إلى الأمام ورهن البلاد إلى استراتيجيات أجنبية. وحتى
العقلاء داخل المؤسسات والأحزاب لا يملكون القدرة على إيقاف وحتى تعديل النسق
الجنوني لتدمير البيت على ساكنيه، كل ساكنيه".
بيان الأميرال
ولم تتوقف الأزمة
السياسية بالبلاد عند الصراع بين السلطات أو حتى بالوثيقة المسربة ليخرج متقاعد
عسكري كمال العكروت وعبر ما أسماه بيانا للرأي العام الوطني يتحدث فيه عن ضرورة
إنقاذ البلاد من منظومة الفشل والرداءة والتحايل السياسي وتخليص البلاد من منظومة
استبداد بعض الأحزاب.
وهذا البيان أحدث
بلبلة بالبلاد خاصة من ناحية اشتغال بعض الجهات الإعلامية عليه والترويج له بشكل
لافت ولكن أغلب الجهات السياسية اعتبرته مجرد ظاهرة لن تدوم أو تعمر كثيرا وسيكون
صفحة يطويها النسيان قريبا.
مناورة
من جانبه قال المحلل
السياسي الحبيب بوعجيلة في قراءة تحليلية خاصة للمشهد السياسي بتونس لـ"عربي21" إنه "من الواضح جدا أن الواقع الإقليمي والدولي وموازين القوى بالبلاد تبدلت
من خلال دخول جو بايدن البيت الأبيض ودعمه للانتقال الديمقراطي بتونس، ضعف
الصمود الإماراتي الفرنسي في المنطقة، اتجاه الليبيين للمصالحة.
وأضاف كذلك فشل محاولة
إدخال البلاد في الفوضى وبلغت ذروتها كانون ثاني/يناير المنقضي، وبتسريب خطة
انقلابية دخلنا مرحلة جديدة وهي تحميل مسؤولية فشل كل الخطط لمديرة الديوان
الرئاسي نادية عكاشة وكان ذلك عبر تدخل المسؤولة السابقة في الرئاسة رشيدة النيفر
والتي أكدت أن الرؤية الانقلابية ليست للرئيس وإنما المحيطين به وبالتالي تحميل
مرحلة كاملة من التخطيط لعكاشة وتكون كبش فداء".
وأشار بوعجيلة إلى
معطى جديد هام وهو "تبرؤ الرئيس من أنه ليس له أي حليف وبالتالي التنصل من
الكتلة الديمقراطية الذين تكلموا بنفس مضمون الوثيقة المسربة، إذا فالرئيس يعلن
نهاية التحالف ورشيدة النيفر تحمل كل المسؤولية لعكاشة".
وعن إمكانية دخول أزمة
تونس السياسية في بوادر انفراج أجاب المحلل "نحن أمام مناورة جديدة خاصة بعد
زيارة سعيد الأخيرة لفرنسا، الرئيس أنهى مرحلة عبر تبرئة نفسه وتمسكه بالشرعية
ورفض الانقلاب وتحميل المسؤولية لعكاشة والكتلة الديمقراطية، الرئيس ظهر بالأمس
يتحدث بشكل ودي لرئيس الحكومة هشام المشيشي ولكنه أبقى على الحدة مع رئيس البرلمان
راشد الغنوشي في ما يتعلق بملف رفع الحصانة على بعض النواب".
وأوضح بوعجيلة مفسرا
"الرئيس يدخل في محاولة لمناورة جديدة، هو أقر بأنه يعيش في عزلة منذ مدة ولم
ينجح في أن يجعل الحكومة في مأزق فهي تتحرك وبدأت تنجح في حل مشاكلها، الشارع لم
يستحب لدعوات إسقاط المنظومة، وفرنسا لم تعد تريد التصعيد، إذا فالورقة الأخيرة
للرئيس محاولة استدراج المشيشي لصفه ربما يخفت فيها الصراع ويبرد خاصة مع رئيس
الحكومة".
ولكن هل ينجح في ذلك
ويتم استبعاد رئيس البرلمان يجيب بوعجيلة: "أقدر أنها محاولة ستفشل لأن
التحالف قوي بين رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وهو قرار دولي لا سبيل لفك الارتباط
بينهما لأنه التحالف الأكثر ضمانا لاستقرار البلاد، وننتظر في الساعات القادمة
لقاء بين قيس سعيد وراشد الغنوشي".
وختم بالقول: "لابد لرئيس الجمهورية أن يبحث عن ذلك اضطرارا، والمشيشي
نفسه يدرك جيدا أنه لا قيمة له دون رئيس البرلمان وحزامه دون النهضة، القوى
الإقليمية أيضا لا ترى استقرارا دون النهضة، الرئيس سيغير مرة أخرى من خطابه
وسيبحث عن مد الجسور مع رئيس البرلمان قريبا كما البارحة مع رئيس الحكومة".
الرئيس التونسي: أدعو لتطبيق القانون لا إلى الانقلاب
مستشارة سابقة برئاسة تونس: تفاصيل دقيقة بوثيقة الانقلاب
طالع النص الكامل للوثيقة الرئاسية المسربة للانقلاب بتونس