عندما يتحدث محمد الضيف ويستعيد أبو عبيدة نشاطه ويخاطب إسماعيل هنية العالم، وعندما تضطر دولة الاحتلال لكشف عورتها، لمن لا يزال في حاجة لدليل، على سياستها الممنهجة في ارتكاب جرائم حرب كاملة الأركان أمام أنظار العالم دون خجل، فاعلموا أنها فلسطين تستعيد المبادرة وتعلن قواها الحية عن معادلات جديدة في موازين القوى المختل بدعم الدول الغربية لإسرائيل، وخيانة أو تواطؤ الإخوة في الوطن والأشقاء في ربوع الإقليم.
لسنوات طويلة، ظل الخطاب الفلسطيني حبيس محدودية تأثير رد الفعل المندد بخطوات دولية تسعى لتصفية القضية الفلسطينية بمباركة إقليمية، أو مبادرات عربية قُطرية تقربت زلفى لدولة الاحتلال؛ ظنا منها أن الحصار والاعتقال وقطع الأرزاق بالداخل وبدول الشتات سلاح فعال لتدجين أصحاب القضية أو ردعهم عن التأثير فعليا في رسم مسار الأحداث.
الأجيال الجديدة يمكنها أن تغير قواعد اللعبة وتبتدع طرقا غير مألوفة للمواجهة شريطة أن ترضع الحق الفلسطيني من منبعه، لا أن تتحول عندها فلسطين إلى مجرد صور وشعارات أو قصص تحكيها الجدات.
ولقد كان لخطاب شيطنة المقاومة، الذي ساهمت فيه أطراف داخلية ظلت صامدة أمام كل محاولات التقارب بين الفرقاء، باعتبار الوحدة الوطنية معينا لا ينضب في مواجهة العدو مبادرات سياسية أو مواجهات عسكرية، الأثر الكبير في خلق مناخ داخلي وإقليمي يكاد يبدو معاديا لخطاب المواجهة، ومباركا للحلول الاستسلامية مبادرة عربية وُلدت ميتة أو اتفاقات قُطرية اتخذت من تكريس السلام، كحق أُريد به باطل، شعارا لها.
لقد ظن هؤلاء أنهم نجحوا أخيرا في صناعة "الفلسطيني الجديد". لكن سعيهم خاب واستفاقوا على وهم انكسر وتشتت أشلاء على صخرة الصمود والأنفة، والاستعداد لبذل النفس وما دونها في سبيل كرامة أهدرتها الاتفاقات، وداس عليها الساسة لتكريس سيطرتهم على الرواية ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
(فيلم واجب ـ 2017) للمخرجة آن ماري جاسر
يعود الشاب شادي إلى مدينة الناصرة لمساعدة والده على التحضير لزفاف أخته آمال. وخلال رحلة الاثنين لتوزيع دعوات الفرح يحضر الماضي بذكرياته والحاضر بتعقيداته، فتتعدد النقاشات وتختلف زوايا الرؤية بين جيل شائخ "راض" بواقعه وجيل شاب "ثائر"، لكنه في جزء منه غير مستعد لتحمل مسؤولية المساهمة في التغيير من الداخل، ويفضل عليها، ربما اضطرارا، التنظير من الخارج وتقديم الدروس.
يرفض شادي مرافقة والده لدعوة "صديق" إسرائيلي.
أبو شادي: شو المشكلة. أنا مجبور أعزمه.
ينزل شادي من السيارة..
أبو شادي: شادي.. أنا بشتغل معاه. هذا صاحبي مش شاباك. عم بيساعدنا في المدارس.
شادي: هذا مش صاحبك. شغلتو يراقب المدارس. شغلو يقرر شو نتعلم وشو ما نتعلم. مين المعلمين ومين حتى البوابين.
........
أبو شادي: أنت مبتعرف ولا إيشي.. ولا إيشي..... ليش مستحي تقولي إنك خايف تقول لصاحبتك من المنظمة إني عازم واحد يهودي على العرس.
شادي: مش لأنو يهودي.. لأنو جاسوس وشاباك.
أبو شادي: مش جاسوس ولا شاباك. صاحبي وضيف عندي في العرس. هيك أنا صرت أقل وطنية؟ إحنا انفرض علينا نعيش معهم.
شادي: العيشة ما بتنفرض على حدا. العيشة إنك تختار كيف تعيش.
أبو شادي: هاي العيشة أحسن من كتير محلات بره.
شادي: عمرك اطلعت بره؟ عمرك بحياتك شفت إيشي تاني؟
أبو شادي: ما بديش أطلع بره. مابديش أشوف شي تاني غير هون. مابديش أروح ع أوروبا وألبس قمصان آخر موضة وأقعد بصالون الست ندى والبابي تبعها وأحط رجل على رجل وأحكي عن تحرير فلسطين. شو هاي فلسطين؟ ويييينها؟ أنا عايشها هون.
شادي: هاي بتسميها عيشة؟ عشان تصير مدير مدرسة بدك رضا واحد مفطس أسمو روني زفت. وأي مدرسة؟ مدرسة ممنوع علينا نتعلم فيها عن تاريخنا، ممنوع نفكر لحالنا. أنا كبرت وأنا أتفرج عليك كيف بدك رضاهم، تطلب منهم إذن أنك موجود، تطلب منهم إذن إنك تتنفس. صرت تعرف لغتهم أحسن منهم، وهما مش شايفينك من نص متر.
وبالرغم من كل محاولات طمس الهوية تلك، لم يتأخر أبناء اللد وعكا وطبريا وغيرها من مدن الـ 48 عن الواجب، فخرجوا في مظاهرات تنتصر لقضايا شعبهم بالقدس وغزة وبقية المدن الفلسطينية المنتفضة. وهو الواجب الذي بادرت قوى المقاومة في القطاع إلى تلبيته بصواريخ، وإن كانت محلية الصنع في أغلبها، فقد تمكنت من كسر أسطورة التفوق الإسرائيلي، وزرعت الرعب في نفوس المستوطنين بالجيوب المتاخمة لغزة، بل أبعد من ذلك كثيرا بـ "عاصمة" الاحتلال.
لم يكن صادما البتة أن يتجرأ الكيان المحتل على مقدسات المسلمين في أيام شهر رمضان. لكن "الصادم" كان حجم الاستعداد لدى تنظيمات المقاومة الفلسطينية للرد على العدوان الذي لم يفرق بين مقر أمني أو أبراج سكنية مدنية، شهد العالم، على المباشر، جريمة الاحتلال في قصفها وتدميرها. لقد أطلق تفجير برجين بمدينة نيويورك الأمريكية، على المباشر، قبل سنوات شرارة "تضامن" دولي، أعقبتها حرب شعواء حولت أفغانستان ودول الجوار وبعدها بلدان منطقة الشرق الأوسط إلى كومة رماد، وزرعت فيها قنابل موقوتة قابلة للانفجار، وقودها نزاعات إقليمية وأحقاد إثنية وتنظيمات مسلحة يتحكم فيها الراعي الغربي ويضربها بعضا ببعض، متى رأى في الأمر مصلحة أو تهديدا لنفوذه المستمر منذ عقود.
لكن ما تشهده غزة وقبلها القدس الشريف ومدن الخط الأخطر، من تدمير وتهجير واعتداءات عنصرية لا يحرك في "الضمير" العالمي شعرة، فإسرائيل تملك الحق، دون غيرها، في الدفاع عن النفس في مواجهة "العنف" الفلسطيني.
فيلم (إن شئت كما في السماء ـ 2019) للمخرج إيليا سليمان
يغادر المخرج إيليا سليمان (الذي يقدم دوره في الفيلم) فلسطين في رحلة خارجية بحثا عن ممولين لمشروع فيلمه الجديد. في فرنسا يقابل أحد المنتجين بمكتب الأخير.
المنتج: السيد سليمان، أشكرك بداية على تقديمك لهذا المشروع. أنت تعلم أن هذه النوعية من الأفلام تهمنا. إنه فيلم عن الصراع الفلسطيني ونحن متعاطفون مع القضية الفلسطينية. نحن لم نهدف يوما لتقديم فيلم ديداكتيكي أو غرائبي عن فلسطين. لكننا نجد أن المشروع المقدم ليس "فلسطينيا" بالقدر الكافي. أنت تعرف عن السبب ليس تجاريا بتاتا، فنحن ننجز مثل هذه الأفلام لنساهم في دعم القضية، لكن المشروع لا يتوافق مع سياستنا التحريرية حيث تولد لدينا إحساس أن الأحداث تقع في فلسطين، لكن يمكنها أن تقع في أي مكان آخر في العالم بما فيه فرنسا. لهذا السبب، نأسف لعدم دعم مشروعك هذا رغم تحمسنا المبدئي له... (يسود صمت بين الرجلين قبل أن يضيف المنتج الفرنسي بلغة إنجليزية) هل فهمت ما وددت قوله؟
الصراع على الرواية أشرس من الصراع على الأرض، وبعض العرب صاروا أبواقا أشد سعيا ومجاهدة في نشر الرواية الإسرائيلية، كما صار مشرعا للدراما الإسرائيلية أبواب الشاشات الموجهة للعرب في انتظار أن نراها مجسدة على قنوات عربية خالصة ذات يوم.
الفلسطينيون بالنسبة للغرب ولكثير من أبناء العمومة، أطفال يرشقون الجنود بالحجارة أو لاجئون يجوبون الأزقة بسلاحهم أو يصطفون أمام أبواب منظمات الإغاثة لعلهم يظفرون بمساعدات، أو فدائيون يلتحفون الكوفية ويتدربون على حرب "عصابات". ينسى هؤلاء أو تناسوا أن الفلسطيني إنسان يفرح ويغضب، يضحك ويبكي، ينام ويصحو، يتزوج ويتوالد، يشتغل ويجاز، يلعب ويمرح، يستكين وينتفض، يصول ويجول ويمشي في الأسواق، يستغل بعضه بعضا، وهو في كل حالاته تلك يقاوم احتلالا غاصبا واستيطانا استعماريا، لا يترك له مجالا للحركة إلا بعد صراع مرير وجهد جهيد، وفي طريق التحرر تلك سيسقط خونة وعملاء، فالفلسطينيون في الأول والآخر بشر لا مخلوقات من نور.
الأجيال الجديدة يمكنها أن تغير قواعد اللعبة وتبتدع طرقا غير مألوفة للمواجهة، شريطة أن ترضع الحق الفلسطيني من منبعه لا أن تتحول عندها فلسطين إلى مجرد صور وشعارات أو قصص تحكيها الجدات. فالصراع على الرواية أشرس من الصراع على الأرض، وبعض العرب صاروا أبواقا أشد سعيا ومجاهدة في نشر الرواية الإسرائيلية، كما صار مشرعا للدراما الإسرائيلية أبواب الشاشات الموجهة للعرب في انتظار أن نراها مجسدة على قنوات عربية خالصة ذات يوم.
صمود عائلات حي الشيخ جراح ومعهم المقدسيون في مواجهة الآلة القضائية للكيان المحتل وقطعان المستوطنين، وهبّة أبناء الخط الأخضر نصرة لقضايا شعبهم المحتل، وقائع أظهرت أن أكبر خطر يتهدد الحق الفلسطيني هو ثقافة الهزيمة والاستسلام والاعتماد على النظام الرسمي العربي، أو مظاهر التضامن الموسمي الشعبية التي لا تشتعل جذوتها حتى تخبو في انتظار صور عدوان جديد. أما صواريخ المقاومة، التي أظهرت محدودية القبة الصاروخية التي طالما تغنى بها الاحتلال، وكذا عجز الأجهزة الاستخبارية بما توفر لديها من وسائل تقنية متطورة أو معلومات على الأرض تجمعها من المتعاونين من الأفراد والمؤسسات، فدليل لا شك يرقى إليه في أن امتلاك القدرة لا تتطلب أكثر من الإرادة والإخلاص والإيمان.
ثمن المواجهة غال سيدفعه من الفلسطينيين مقاومون ومواطنون عاديون، لكنه في ميزان السعي للتحرر والانعتاق وإبقاء القضية مركزية في الوجدان والواقع العالميين رخيص.
فيلم (غزة مونامور ـ 2020) للمخرجين الأخوين طرزان وعرب ناصر.
بعد خروج عيسى، وهو صياد غزاوي هرم، من إحدى المقار الأمنية التابعة لسلطة حماس، يصادف مهرجانا احتفاليا يتغنى بصواريخ القسام ويبرزها للجمهور. قضى عيسى كل وقته في الفيلم وهو "يجاهد" لإظهار عجز حماس في إدارة القطاع وفساد سلطتها واستخدامها العنف طريقة لإركاع السكان.
ينظر إلى الصاروخ مستهزئا ثم يستقل سيارة أجرة، فهو موعود بتحقيق حلمه في الزواج من ليلى التي لم يكف عن الحلم بمضاجعتها.
سائق التاكسي الشاب: وااااو... صاروخ. اتفرج.. هذا ما يستحقه اليهو. العين بالعين والصاروخ بالصاروخ. يخبط على وجوههم زي ما بيخبطوا علينا.
نظرات استهزاء من الشيخ الهرم وطائرة إسرائيلية تراقب المشهد من أعلى، والأناشيد الحماسية تملأ المكان: قم زلزل زلزلة.. زلزل أمن إسرائيل.
البقية تحكيها صافرات الإنذار التي لم يتوقف صفيرها منذ أيام بعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الأقصى والقدس وتصحيح مفهوم "المواطنة الحابسة".. المواطنة من جديد (51)
ماذا كسب الفلسطينيون في هبّتهم الأخيرة؟
القدس إذ تحقق انتصاراتها في زمن الانحطاط الرسمي