الكتاب: في ذكراه المئويَّة: وعد بلفور في مدار سايكس ـ بيكو.
الكاتب: فهد سليمان
الناشر: المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات (ملف)، سلسلة كراسات ملف (15)، دمشق تشرين الثاني/ نوفمبر 2017.
ها قد دلفنا إلى السلالة الثانية، والأكثر توحشا من سايكس ـ بيكو، فالجديدة مزَّقت، وفتَّتت، ما سبق للسلالة الأولى أن قسَّمته من أقطار وطننا العربي. لذا، خيرا فعل المؤلف في اختيار موضوع كتابه، وتوقيت نشره، ومن يشك في ذلك، عليه أن يراجع ما جرى في أقطارنا العربية، تحت تأثير ما أُطلق عليه "الربيع العربي" (2011)!
اتفاق بريطاني ـ فرنسي
أشار سليمان إلى مسمَّى هذه الاتفاقية على صاحبيها: البريطاني، مارك سايكس، والفرنسي، جورج بيكو، على الرغم من مشاركة روسيا القيصرية، وإن بمسافة، فيها، وعلى الرغم من توقيع روسيا، وإيطاليا على هذه الاتفاقية.
في تعريف الاتفاقية، جاء "هي اتفاقية اقتسام، وتقاسم إقليمي، بين قُطبيْن إمبريالييْن، لمغانم الاحتلال، الذي ترتب على الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، ما قاد إلى إقامة خمسة كيانات سياسية، في المشرق العربي، هي: العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، وشرق الأردن؛ إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، بفترة قصيرة.
لكن المؤلف أغفل مراسلات حسين ـ مكماهون، التي ما إن انتهت باتفاق ما بين الحسين بن علي، شريف مكة، والسير هنري مكماهون، المعتمد البريطاني في مصر، آنذاك، وفيها وعد مكماهون الشريف حسين، بتملك الولايات العربية، التي سيتم إجلاء العثمانيين عنها، الاستقلال! وما إن تم هذا الاتفاق، حتى بدأت محاولات الدولتين الإمبرياليتين، بريطانيا، وفرنسا، التي توِّجت بالاتفاق إياه.
اقترن هذا الاقتسام بسلخ مناطق واسعة عن سوريا، لحساب تركيا، كما تم ترسيم الحدود بين الكيانات المستحدثة، ومورست السيطرة الاستعمارية، بواجهة قانونية: هي الانتداب، المرسَّمة بتفويض من "عصبة الأمم"؛ واختتمت بريطانيا انتدابها على فلسطين، بنكبة شعبها، وقيام إسرائيل (1948).
تمثَّل الحل الاستعماري لوراثة الدولة العثمانية، منذ الحملة الفرنسية على مصر (1798)، بـ "المسألة الشرقية"، العنوان الكودي، وتحدَّر من صلب سايكس ـ بيكو، تصريحات، ومؤتمرات، ومعاهدات (وعد بلفور، مؤتمر سان ريمون، معاهدة سيفر، ومعاهدة لوزان، وصكوك الانتدابات من "عصبة الأمم". وفي 25/ 4/ 1920، قام "مؤتمر السلام الأعلى"، في أثناء انعقاد "مؤتمر "سان ريمون"، بتوزيع الانتدابات على الولايات العربية، وتكرَّست تلك الانتدابات بصكوك الانتداب، عن "عصبة الأمم".
بخروج روسيا من الحرب، أضحى الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي مع الأولى خارج البحث؛ واقتصر على اقتسام تركة الدولة العثمانية، فيما بين بريطانيا، وفرنسا، فحسب.
فلسطين.. العقدة في المنشار
تحت عنوان "فلسطين.. العقدة في المنشار سايكس ـ بيكو"، وبعد شد وجذب بين بريطانيا وفرنسا، تم الاتفاق على وضع فلسطين تحت إدارة دولية، ومع إحراز القوات البريطانية انتصارات عسكرية في جبهة القتال، كان يصدر عنها ما يشي بتنصلها من اتفاق سايكس ـ بيكو. وانتهى الأمر بإعلان لويد جورج، رئيس الحكومة البريطانية، بأن بريطانيا أقدر على حماية الأراضي المصرية من أيّ كان! وكان أن انتزعت بريطانيا قرارا من مؤتمر "السلام الأعلى" (1920)، قضى بانتقال فلسطين إلى النفوذ البريطاني، كما جرى ضم الموصل إلى العراق، بعد سلخ الأولى من سوريا، بمجرد اكتشاف النفط في الموصل.
بينما لم يتجاوز الحضور العسكري الفرنسي حدود بيروت، والساحل اللبناني. لكن حكومة مييران الاستعمارية المتشدِّدة، قررت أن تحتل القوات الفرنسية، سوريا (1920)، وقد كان.
هكذا، "زرعت (اتفاقية سايكس ـ بيكو)، معطوفة على (وعد بلفور)، دولة إسرائيل". (ص 15)
رأى المؤلف بأن "وعد بلفور"، مثَّل "تقاطع الظرفي مع الاستراتيجي"، وخصص له سليمان الفصل الثالث.
ظل الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين محدودا، على مدى الحكم العثماني، وفي 2/ 11/ 1917، نشرت الحكومة البريطانية بيانا لسياستها (تصريح بلفور)، الذي اشتُهر بـ "وعد بلفور"، لأن إعلان تلك السياسة، مثَّل وعدا للصهاينة بإقامة وطن لهم في فلسطين، وظلت الصهيونية وثيقة الصلة بالإمبريالية البريطانية، إلى أن أخلت الأخيرة موقعها، على رأس المعسكر الإمبريالي، لصالح الولايات المتحدة، فسارعت القيادة الصهيونية إلى نقل مركز ثقلها إلى الأخيرة (1942). وكانت حكومات الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا قد أعطت صوتها لـ "وعد بلفور"، في جينيف.
هذا، في حين روَّجت الحكومة البريطانية لذاك الوعد، "كأمر (اقتضته موجبات الدعاية)، لتحشيد الرأي العام اليهودي، وإمكانياته، خلف الحلفاء". (ص 28)
تحدَّث المؤلف عن "تعاطف البروتستانتية، بمرجعيتها التوراتية، أيضا، مع طموح (أو حنين) اليهود في الالتحاق بـ "أرض الميعاد". وإن رأى المؤلف، محقا، بأن هذين التبريرين ليسا أكثر من ذريعتين واهيتين.
هنا، غابت الإشارة السريعة الضرورية، إلى تحول الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى مرحلة الإمبريالية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، الأمر الذي اقترن بضغوط على الفئات الوسطى في أقطار أوروبا الغربية، وبضمنها الفئات الوسطى اليهودية، هناك، وهي التي طفقت تفتش عن حل فريد لأزمتها، فوجدته في الملاذ الاقتصادي الآمن، وصكت تلك الفئات "أرض الميعاد"، و"العودة" إليها. واتشحت بالدين اليهودي، حتى تكسب جمهرة اليهود إلى صفها. ومع ذلك فإن المشروع الصهيوني تردد ما بين أوغندا، والأرجنتين، وسيناء، وقبرص، وإن كانت الإمبريالية البريطانية نصحت باختيار فلسطين، وقد كان.
ومعروف بأن بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس وزرائها، كتب إلى قنصل بريطانيا في إسطنبول، يُلح عليه من أجل خلق جسم غريب، يفصل شرق الوطن العربي عن غربه (1840). وغدت الصهيونية، منذئذ، مخلب قط الإمبريالية البريطانية في الوطن العربي، وحين انتقلت زعامة المعسكر الإمبريالي إلى الولايات المتحدة (1942)، سارعت القيادة الصهيونية بنقل مركز ثقلها من لندن، إلى واشنطن! ومع مرور السنين، غدت إسرائيل القاعدة الاستراتيجية الأهم للولايات المتحدة في الوطن العربي؛ بها تضرب أي قوة عربية تسعى للتحرُّر، ولتكون إسرائيل عائقا في طريق الوحدة العربية.
جاء "صك الانتداب"، بمنزلة "غلاف وعد بلفور"، حسب عنوان الفصل الرابع، فبعد "معاهدة سيفر"، بين بريطانيا، وتركيا (10/ 8/ 1920)، صدر مشروع "صك الانتداب" على فلسطين، عن "عصبة الأمم"، الذي نص على "أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تطبيق تصريح بلفور". واجتاز الصك ثلاث محطات: في "عصبة الأمم"، حيث أعلن (6/ 7/ 1921)، وتمت المصادقة عليه (24/ 7/ 1922)، ووضع موضع التنفيذ (29/ 9/ 1923)، وانتهاء الحكم العسكري في فلسطين، في 21/ 7/ 1920، افتتح هربرت صموئيل، الصهيوني المتعصب، الحكم المدني في فلسطين، وصموئيل هو أول وزير بريطاني اقترح "الوطن القومي اليهودي، في فلسطين، برئاسة بريطانيا (1914)، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
حاضنة للمشروع الصهيوني
أما كيف تحوَّل "الانتداب" إلى حاضنة للمشروع الصهيوني، فكان عنوان الفصل الخامس، حيث حوَّل صك الانتداب "وعد بلفور"، إلى التزام أممي. وأنكر هذا الوعد وجود الشعب الفلسطيني، فانحدر بتعريفه إلى مجرد "الطوائف غير اليهودية المقيمة، الآن، في فلسطين"، أو مجرد "فئات الأهالي الأخرى"، بينما اعترف الوعد، نفسه، "بالصفة التاريخية، التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي، في تلك البلاد"، كما اعترف "صك الانتداب" بوكالة يهودية، معنية بجميع القضايا المتعلِّقة بإنشاء "الوطن القومي اليهودي، ومصالح السكان اليهود في فلسطين"، هكذا، اعتبرت القاعدة الإمبريالية أن "حق التصرُّف بالبلاد المحتلة، لا يعود لسكانها... بل لمحتليها"، وبذا، يكون الصك قد التزم أمام الحركة الصهيونية، بالأركان الثلاثة، التي تقوم عليها الدولة بمفهومها الحديث: الأرض، الشعب، والحكومة، بينما حجب الصك هذا الحق عن الشعب الفلسطيني، ما شكَّل عائقا حقيقيا أمام الفلسطينيين، عجزوا عن تجاوزه طيلة فترة الانتداب.
الحركة الوطنية
عن "العلاقة مع الاحتلال، والمحيط، وأشكال النضال"، جاء الفصل السادس. ملاحظا أن كلّا من "سايكس ـ بيكو"، و"وعد بلفور"، ومعه الاحتلال البريطاني، اجتهدوا لخلق الشروط المواتية لتنفيذ إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين.
أشار سليمان إلى انطلاق القيادة المتنفذة للحركة الوطنية، بأن العدو هو الصهيونية وحدها، وساورها (القيادة) وَهْم إقناع بريطانيا بوقف الدعم للمشروع الصهيوني، وبإلغاء "وعد بلفور"، من خلال عرض المزايا التي يمكن تتوفر لبريطانيا، من خلال تعاون العرب معها، بدل الحركة الصهيونية. (ص 57 ـ 58).
على أن هذا كله ينطبق على تلك القيادة، التي احتكرت توجيه الحركة الوطنية الفلسطينية، على مدى المرحلة الأولى من تلك الحركة، فحسب، (1918 ـ 1929)، وتمثَّلت في كبار الملاك، وهم الذين عادوا اليهودية كدين، وفرضوا أساليب كفاح متواضعة على الحركة الوطنية، لم تتعد البيان، والمؤتمر، والوفود إلى حكومة لندن حينا، وإلى المندوب السامي البريطاني، في القدس، أحيانا! على أن البرجوازية العربية الفلسطينية اشتد عودها، ودخلت شريكة صغيرة في قيادة الحركة الوطنية، منذ مطلع الثلاثينيات، ونجحت في فرض أساليب كفاح صدامية مع العدو، الذي حددته في الاستعمار البريطاني، أما الصهيونية فمجرد ذيل له، وكانت انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1933 ثمرة هذا البرنامج، بعد أن عزَّزت البرجوازية هجومها بالحركتين العمالية والفلاحية.
استطرد سليمان لرأي أن تلك القيادة لم تستوعب ميزان القوى الحقيقي، ولا طبيعة العلاقة بين الاستعمار والصهيونية. ما دفع تلك القوة إلى عقد تحالفات خارجية خاطئة، بل مدمِّرة. وبالنتيجة، عجزت تلك القيادة عن أداء مهمتها على النحو الصحيح. كما لم تستوعب طبيعة العلاقة مع حكام العرب التابعين - في أغلب الأحيان - لبريطانيا، وفرنسا. ما أدى إلى التأثير السلبي على القرار الوطني (ثورة 1936)، وصولا إلى مصادرته (بعد انتهاء تلك الثورة)، وحين أخذت قطاعات مؤثِّرة في العمال، والفلاحين، مواقعها القيادية في الحركة الوطنية، انقطعت سلسلة القيادة، بين المستوى القاعدي والوسيط من جهة، والمستوى الأول المتآكل القدرة، باطراد.
يقفز المؤلف إلى "إقامة السلطة الوطنية"، حيث كان الفشل في بنائها؛ بعد أن تشتتت الحركة الوطنية. بين رغبتها في جعل فلسطين جزءا من وحدة سياسية أكبر (سوريا الكبرى)، وبين هدف فلسطين مستقلة؛ ما دفعها إلى مساومة الإمبريالية البريطانية على انتداب بغير "وعد بلفور"! أو حتى حكم ذاتي فلسطيني، تصان فيه مصالح بريطانيا! والنتيجة، فشل قيادة الحركة الوطنية في إقامة بنى وطنية، تقود البلد على طريق الاستقلال، غداة الحرب العالمية الثانية.
لأن الانتداب البريطاني كان الطرف الأقوى في المعادلة، فقد سعى مبكرا إلى صرف أنظار الحركة الوطنية عن توفير مدخل إلى السلطة الحقيقية، وعن مواصلة الانتداب بشكل حاسم، تشكل مؤسسات التمثيلية الفلسطينية. واستحدث الانتداب بنى في الإدارة الدينية، لتجنيد تلك النخبة، وإعطائها بعض مظاهر السلطة ومكاسبها، دون أي مضمون. وأجج الانتداب الصراع بين القائمين على هذه المؤسسات، والنخب التي استُبقيت خارجها. (ص 32).
رأى المؤلف بأن "وعد بلفور أسقط فلسطين من نطاق الانتداب"، وجعل من هذه الجملة عنوانا لفصله الثامن. ملاحظا أن بقية الشعوب العربية قد شقَّت طريقها نحو الاستقلال بنضال شعوبها، بينما وحدها فلسطين خرجت عن هذا المسار. وبذا وضعت فلسطين في خانة "الاستعمار الاستيطاني"، بأبشع أشكاله. (ص 34 ـ 35).
لا يزال "وعد بلفور خطرا ماثلا أمام شعوب المنطقة"، بعد أن تحوَّل إلى عقيدة صهيونية راسخة؛ ما يعني أن فلسطين ليست وحدها في مرحلة تحرر وطني، بل أيضا ـ وبحدود معيَّنة ـ عدد من الدول العربية، واستنتج المؤلف بأن "الدفاع عن الدولة الوطنية... بات مقترنا، بشكل وثيق، بالنضال الوطني التحرري، ما يستدعي تأكيد ضرورة العمل المشترك بين مختلف المكونات السياسية في المنطقة، رسمية كانت أم شعبية. ولعل هذا من أهم ما يمكن الدعوة إليه، في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم". (ص 35).
لقد أغنى المؤلف كراسه هذا، بجملة من الملاحق الضرورية. فأصبحنا أمام موضوع بالغ الأهمية، كثَّفه المؤلف في كبسولة؛ في عصر تكاثر القراء الباحثون عن "التيك أواي"، ويضجرون من المجلدات.
الهجرة الدولية في ظل العولمة.. أرقام ودلالات (1من2)
وعي الهزيمة.. الذاكرة الفلسطينية بعد ربع قرن من "أوسلو"
سيدة الأمهات آمنة بنت وهب.. تأملات في سيرة رسول الإسلام