أنا جارالله محمد مسعد عمر الكهالي، واللقب عمر يعود إلى 9 أجداد والكهالي نسبة إلى قرية كهال التي أنتمي إليها وولدت فيها، وهي من أعمال مديرية النادرة التابعة لمحافظة إب، تبعد عن صنعاء بحوالي 130 إلى 140 كلم جنوبا، وتقع على بعد 15 كلم من يريم، وتبعد عن مدينة ظفار عاصمة الدولة الحميرية التاريخية 12كلم.
عائلة الكهالي موزعة على عدة مناطق يمنية. تجدها في "عيال سريح" وفي "رداع" في منطقتنا وفي "يافع" جنوب اليمن، وهي عائلة كبيرة ومنها مجاهد القهالي الذي ينتمي إلى بلدة "قهال" التابعة لمديرية "عيال سريح" في جنوب شرق محافظة عمران.
الحديث عن القبائل اليمنية واسع جدا؛ لأن هناك من يؤكد معطيات حولها وهناك من ينفي، ولا تعثر على من يؤكد الأصول أو الأوراق والتواريخ إلا لمدة 300 أو 400 سنة؛ ذلك أن اليمن كانت تتعرض بصورة دورية للحروب والأمراض والنكبات التي تدمر المستندات والوثائق أو تتسبب بتلفها وضياعها.
نشأت يتيما وماتت والدتي غرقا في خزان للماء
ولدت عام 1942 لأبٍ معلم في كتاتيب القرية والقرى المجاورة ويكتب العرائض والعهود للناس، توفي وأنا عمري بضعة أشهر. أسرتي موزعة على عدة قرى في "محافظة إبْ"، وتصل إلى عشرات بل مئات الأفراد. لي أخت واحدة. كفلتنا والدتي سعدية التي توفيت أواخر عام 1993 ولم تكن متعلمة. توفي والدي ولديها 27 عاما. والدي أيضا نشأ يتيما بحكم وفاة والده. كانت الأمراض في اليمن تحصد الناس. عانى منذ نشأته لأن أمه تزوجت من شخص آخر، وكانت أسرة عمه وأقاربه يمنعونه من زيارة والدته وقت الحاجة، ويعنفونه ويضربونه أحيانا.
تذكّر والدي هذه الحالة، كما أخبرتني أمي، قبل يوم واحد أو يومين من وفاته، إذ دعاها وقال لها: أرجوك لا اريد أن يكون مصير ابني كمصيري. وهكذا حصل؛ إذ امتنعت والدتي عن الزواج وكنت في صغري مسرورا لهذا الامتناع، والآن أشعر بحسرة ومسؤولية لأن هذه المرأة كافحت من أجلي ومن أجل أختي، وفي سيرتها الكثير من التراجيديا التي تعكس حياة المواطنين في أرياف بلادنا المتعبة في تلك الأيام.
ترك والدي بعض الأراضي الزراعية لإعالتنا، لكنه خلّف دينا يساوي تركته، فهو كان وجيها في المجتمع وكان مضطرا للاستدانة، فتولت والدتي العمل اليدوي بما في ذلك التطريز وصناعة الخزف وتربية الدجاج والبقر حتى سددتْ الدين، وكانت تحبه كثيرا ونفذت وصيته إذ أدخلتني المدرسة.
لم يكن يدخل "الكُتّاب" إلا قلة من الأطفال، لكن أبي كان معلما وفقيها، وكان لا بد من أن تلحقني بـ "كُتّاب" القرية.
تولى عم والدي التعليم من بعده، فدرست عنده واستمرت والدتي في رعايتنا. تزوجت أختي واسمها رحمة من أحد أقاربنا، لكن الزواج لم يكن موفقا فمكثت في بيتنا حوالي عشرة أعوام، ثم تزوجت من شخص آخر رغبت به ورغب بها، وكان قاضيا في محكمة استئناف في منطقة "النادرة"، واسمه عبد الغني الكهالي، وهو من أحب الناس إلي، وقد سميت أحد أبنائي باسمه الأول عبدالغني. أنجبَت له بنتا وولدا. وُلِدتْ البنت قبل ذهابي إلى عدن وقبل أن أدخل السجن، وولد الصبي في أثناء وجودي في السجن، ثم أصيب الاثنان بمرض وتوفيا. حزنت أختي عليهما وماتت كمدا عام 1970.
كنت يومها في السجن مهددا بالإعدام، وكنت أخشى أن تتأثر والدتي بهذه المأساة. حمت نفسها من أي خلل عقلي ونفسي بالتقرب إلى الله وبالصلاة، وباعت الكثير من ممتلكاتنا وكانت تنفق على مشاريع خيرية. عندما خرجت من السجن إلى عدن في السبعينيات، لُوحقتْ والدتي في القرية وطُردتْ من البيت في أثناء وصول الحملات العسكرية إلى منطقتنا، ثم ضُرِبَ بيتنا ولكنها كانت شجاعة وصبورة.
هي سيدة زاهدة في الحياة وقريبة إلى التصوف. انتهت حياتها بشكل مأساوي، فقد غرقت في خزان ماء بجانب القرية، كانت تمشي بمحاذاته وزلّت قدمها وهي لا تجيد السباحة. كان الطقس ماطرا ولم يعثروا عليها إلا وهي طافية على سطح الماء. كنت يومذاك وزيرا للثقافة والسياحة، فهرعت إلى القرية وحزنت عليها حزنا شديدا؛ لأن هذه المرأة التي ربتني واحتضنتني وضحت بحياتها وطبيعتها ماتت قبل أن تراني مستقرا في الحياة.
علاقاتي الأسرية مازالت قوية مع أولاد العم والعائلة. أحتفظ بعلاقة ودية مع كل أبناء قريتنا والقرى المجاورة. الناس مترابطون عن طريق المصاهرة وأزورهم في كل المناسبات وخصوصا في الأعياد.
كان محيطنا زيديا لكن لا توجد إشكالية طائفية في المنطقة الوسطى، فالاختلاط قائم وكلهم يصلي كما يريد، يسربل أو يضم، وفي بعض القرى تجد بيتا زيديا وآخر شافعيا، لا توجد مشكلة طائفية أو أي عقدة من أي نوع، ولا توجد حساسيات جهوية. يسود المذهب الشافعي في جنوب منطقتنا وتجاورها قرية إسماعيلية. التعايش يتم بتسامح وهناك تزاوج بين المذاهب. معلوم أن المذهب الزيدي يجل الصحابة ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب.
ألحقتني والدتي بـ "كُتاّب" القرية عندما كان عمري 7 أو 8 سنوات، تعلمت القراءة والكتابة وحفظت بعض أجزاء القرآن. لم تكن ترغب في أن أذهب إلى مدينة بعيدة. كانت تجاورنا قرية كبيرة وفيها تدريس متقن للمصحف والتجويد وعلوم القرآن الأولية، فأرسلتني والدتي إليها وعشت فيها في منزل الحاج عبدالله الكهالي، وهو رجل عظيم. بقيت لمدة عام عدت بعدها إلى القرية. رغبت والدتي أن أكون معلما مثل أبي وقالت؛ إن هذا القدر من القراءة يكفي. كنت أرغب في أن أستزيد من العلم وأن أكون قاضيا. قضيت سنوات أقنع والدتي بالدراسة في مدينة ذمار التي كانت مركزا للتعليم الفقهي والقضائي دون جدوى. كان علي أن أرعى أغنامنا وأغنام جيراننا لفترة معينة من الوقت، وما انفكت والدتي ترفض وأنا أرفض الاكتفاء بالتعليم الذي حصلته.
قصة ذهابنا إلى التعليم في ذمار
في إحدى المرات، عاد بعض طلاب قريتنا من "مدينة ذمار". شوقوني للتعلم فيها. ومنهم عبدالواسع عبدالله الطيب، وهو من عائلة قضاة. كانت ملابسه نظيفة وأنيقة فشدني هذا المظهر. طلبت سرا من أحد العائدين أن يأخذني معه إلى ذمار، ووضعت والدتي أمام الأمر الواقع، فأدركتْ بأن ذهابي لا مندوحة عنه. كان عمري حينذاك حوالي 15 سنة، وكنت أجيد القراءة والكتابة الأولية، كان ذلك في عهد الإمام أحمد.
ذهبت إلى مدينة ذمار مع عبد الواسع عبدالله الطيب ونزلت في المدرسة الشمسية، وهي عبارة عن جامع يضم زوايا لتعليم قراءة القرآن. قراءة حفص ونافع وكتب الفقه الزيدي. وفي بعض الزوايا يعلمون الحديث والتفسير لأهل السنة في الجامع نفسه. وكانت والدتي تعمل جاهدة لتوفر لي كل 3 أو 4 أشهر ريالا أو ريالين، وترسل لي الدقيق والسمن والحطب كل 3 أو 4 أشهر. كنا نطبخ بأنفسنا بواسطة "الدافور"، كما كان تقليد المدرسة يقوم على إعطاء غذاء يومي هو عبارة عن رغيف أو رغيفين للمهاجرين من خارج المدينة، تقدمها بعض العائلات التي لها أوقاف ويسمى راتبا يوميا.
كنت أطبخ أنا وابن عمي ناجي عمر الذي أقنعته في العام الثاني أن يلتحق بذمار. وصل إلى رتبة عميد في الشرطة وقد توفي هذا الشهر. أقنعته بالسفر معي إلى ذمار لكن والده رفض؛ ذلك أن أبناء القرية كانت لديهم هواجس تجاه التعليم ويعتبرون أن دخول المدينة يغير من شخصية الأبناء بصورة سلبية، ويؤدي إلى معارضة الإمام عبر دراسة العلوم الحديثة التي لا يحبذونها.
ولذلك، حرصت على اصطحاب ابن عمي الثاني معي هربا إلى مدرسة ذمار، وفي السنة الثالثة أخذت ابن عمي الثالث، وحاولت أن أقنع شباب القرية بالذهاب للدراسة، ولكن الأهل خشوا عليهم من المدينة. كانت هناك شائعة منتشرة بين المواطنين في المنطقة تقول بأن الذين يدرسون في المدارس الدينية، يختصرون القرآن إلى 7 أجزاء، وأن الدستوريين الذين ثاروا على الإمام يحيى عام 1948 كانوا ينكرون أجزاء من القرآن وينكرون الصلاة، وكلها شائعات وتحريض إعلامي من طرف الإمام وأنصاره. كان تحريضا مؤثرا و ناجحا؛ لأنه شل حركة التعليم في المدن حتى صار محصورا بأبناء العائلات والأسر الموثوقة.
كان علينا في ذمار أن نبذل جهودا مضاعفة (لأن أعمارنا قد فاقت الـ 15 عاما) كي نلحق بمن سبقونا في نظام حفظ المتون، ومتن ألفية ابن مالك ومتن الإعراب ومتن الأزهار. كان علينا أن نحفظ متونا كثيرة وأن نقرأ ليلا ونهارا. تعلمنا فن الجدل والحوار، وأنه لا توجد أسئلة محرمة، ولكل سؤال جواب بحسب المعتزلة، وكان هذا أساسا مهما لثقافتنا العقلانية اللاحقة.
تعلمنا أيضا أصول الفقه في كتب " كافي اللقمان " و"كافي الطبري" ودرسنا "شرح الأزهار" ثم "فتح القدير". تخرجت قاضيا وارتديت العمامة ونزلت إلى القرية أصلي بالناس. قبلت أمي بهذا الوضع وأخذت تستبشر خيرا وتقول؛ إن ابني سيكون يوما حاكما أو قاضيا أو موظفا كبيرا في الدولة، وسوف يسعدني بعد أن شقيت كثيرا.
في تلك الفترة، كان بعض الدارسين يأتون من محافظة تعز، وكان بعض مثقفي ذمار على صلة بالزبيري ونعمان، يأتون إلينا في المدرسة مع بعض أبيات من الشعر المعارض للحكم الإمامي لنحفظها. كنا نعجب بهذه الأشعار وبدأنا نتأثر قليلا بالمعارضة، إلى أن انتقلنا من بعد إلى المدرسة العلمية في صنعاء ودار العلوم.
من ذمار إلى صنعاء
الدخول إلى مدرسة صنعاء لم يكن متاحا لكل الناس. حاولنا عدة مرات الانتساب إليها دون جدوى. كان القاضي عبدالله الحجري وزيرا للتعليم حينذاك. استمرت المراجعة لمدة عامين قبل الدخول إلى دار العلوم. كانت رحلات المراجعة تتم سيرا على الأقدام بمعظمها، وكنا نقطع المسافة بين ذمار وصنعاء خلال 3 أيام.
في عام 1961 أتيح لنا الالتحاق بالمدرسة العلمية التي أصبح اسمها فيما بعد "دار العلوم". كانت هذه المدرسة تعتبر فرعا غير رسمي للأزهر في مصر بحسب مناهجها؛ وهي فقهية ولغوية وأصولية من حيث الدين، وهناك عدد محدد فيها لا يزيد عن المئات ولا يستطيع أن يلتحق بها إلا عدد قليل كل عامين أو ثلاثة، وكان فيها ما يسمى بالمنح (الفرصة). واصلنا الدراسة هناك على خلفية دراستنا في مدرسة ذمار الشمسية، واختلف وضعنا في صنعاء عن ذمار بأن توفر لنا سكن رسمي داخلي في المدرسة، ووجبة غذائية يومية صباحا وظهرا ومساء.
كان هذا امتيازا لم نعرفه من قبل في حياتنا كلها. أما المواد الدراسية، فقد كانت أكثر عصرية من مدرسة ذمار، لكن أقل عمقا وأقل جدية وأميل إلى التعدد في الأدب والشؤون السياسية العامة.
بعد ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 أقفلت المدرسة العلمية، لكننا أكملنا المقررات ولم نستلم شهاداتنا. عندما جاء المصريون إلى اليمن انتقلنا إلى مدرسة إعدادية وأخذنا الشهادة الإعدادية من "مدرسة الوحدة"، وقد أنشأها المصريون للانتقال إلى الدراسة الحديثة.
التحقت بكلية الشرطة عام 1964 وحصلت على دبلوم في الحقوق خلال سنة ونصف وتخرجت منها برتبة ضابط. حينذاك زار صنعاء الرئيس جمال عبد الناصر وكنت من طلاب الحرس الذين اصطفوا في ميدان التحرير لاستقباله، وما زلت أذكر القصيدة الشهيرة التي ألقاها عبدالله البردوني في المناسبة، ومطلعها:
من جمال ومن يسمى جمالا ... معجزات من الهدى تتوالى
كان التعليم في كلية الشرطة مدنيا، وهي هيئة شبه عسكرية. تدربنا على التعليم العسكري الأولي والسلاح المتوسط والخفيف، ودرسنا علوم الشرطة كما درسنا الحقوق وبعض مواد الفقه على يد مدرسين مصريين منتقين بعناية شديدة، ومن ضمنهم محمد معروف والأستاذ محمد العشري والعميد أحمد فرحات وجمال تمّام.
كانت الدراسة صعبة ونجح في دفعتنا حوالي النصف فقط، كنت الثالث في الدفعة الأولى وفي الدفعة الثانية كنت العاشر أو الحادي عشر. وكلفت من بعد بقيادة سرية؛ لأن الأوائل يقودون سرايا وأنا قدت سرية ومازلت طالبا أعطوني رتبة رقيب. تخرجت ملازما وخلال هذه الفترة كلفتنا حركة القوميين العرب بأن ننشط في تنظيم الشرطة وضباطها، وبذلنا جهدا كبيرا وكان عملنا سريا.
قبل ذلك وخلال عام واحد 1961 1962 كانت اليمن تمر بمرحلة من الاضطرابات المتتالية بسبب تتالي محاولات الاستيلاء على السلطة، وتعرض الإمام أحمد لمحاولة اغتيال على يد اللقية والعلفي (تعرض الإمام أحمد لمحاولة اغتيال في مستشفى الحديدة في سبتمر ـ أيلول عام 1962، نظمها ونفذها محمد عبدالله العُلُفي وعبدالله اللُقية بالاتفاق مع حسين المقدمي ومحسن الهندوانة)، ثم تمردت فرقة القناصة يومئذ، ورد الإمام على ذلك بأحكام الإعدام لبعض خصومه السياسيين. لقد عشت في صنعاء بوادر الثورة على الحكم الإمامي وتطوراتها اللاحقة، بل كنت في خضمها.
اقرأ أيضا: القائد الاشتراكي اليمني الذي كان سيطلق سراح قاتله لو بقي حيا
البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية