لم يكتف المحامي الفلسطيني عبد الكريم أبو ضاحي بأن تكون زوجته تحمل اسم مدينة فلسطينية محتلة (بيسان)، بل أصر على أن تكون طفلته هي كذلك تحمل نفس الاسم لتبقى فلسطين مغروسة في حياته وحياة عائلته مثله مثل بقية الفلسطينيين.
وتروي الإعلامية الفلسطينية بيسان الشرافي لـ "عربي21" قصتها مع اسمها الذي يمثل واحدة من أجمل المدن الفلسطينية المحتلة شمال فلسطين وكيف أطلق زوجها نفس اسمها على طفلتها البكر التي تبلغ من العمر سبع سنوات.
وأوضحت أن والدها أشرف الشرافي وهو أسير محرر ومناضل معروف كان يتمنى أن يرزق بطفلة ليمنحها اسم بيسان، حتى وإن رزق طفلا فإنه كان ينوي أن يحمل اسما يدلل على حب الوطن، مشيرة إلى أن أختها الأكبر منها حملت اسم "حنين" نظرا لحنينه للوطن بعد 3 سنوات من الأسر في سجون الاحتلال.
واعتبرت أن اختيار والدها اسم بيسان لها يحمل بعدا وطنيا ويأتي ضمن الظروف التي كان يعيشها من سجن وملاحقة الاحتلال له ونضاله ضده.
وأكدت الشرافي على أنها تحب اسمها كثير لا سيما وأنه يحمل اسم واحدة من أجمل مدن فلسطين.
وقالت: "نحن كبرنا على هذه القيم وحب الوطن والعداء للاحتلال، وكبرنا على الأغاني الوطنية والشعبية وتعلمنا الدبكة الشعبية".
وأضافت: "الاسم لم يكن منفصلا عن البيئة التي كان والدي يعيشها إبان مطاردته من طرف الاحتلال ولا حتى الآن في ظل العدوان والحصار المستمر؛ فالأمر كان تكاملا".
وأوضحت الشرافي أن ما انطبق على والدها انطبق على زوجها حيث ارتبطت بزوج يحمل نفس أفكار والدها وهو من عائلة مناضلة وهو المحامي عبد الكريم أبو ضاحي.
وأشارت إلى أن زوجها وخلال فترة الخطوبة كان يقول لها أنه يتمنى أن يرزق بطفلة لكي يطلق عليها اسمها، موضحة أن بيسان الصغيرة الآن تبلغ من العمر 7 سنوات.
وأكدت أن ابنتها لم تستغرب أنها تحمل اسم أمها لأنها باتت تعرف أن بيسان هو اسم لمدينة فلسطينية جميلة شمالي فلسطين ونحددها لها على خارطة فلسطين فتسعد كثيرا.
وأشارت الشرافي إلى أنها رزقت بعد بيسان بطفل أسمته "كنان" ويبلغ من العمر 3 سنوات، مؤكدة أنها تحب أن ينادونها باسمها "بيسان" وليس "أم كنان" حتى تظل هذه المدينة المحتلة حاضرة في الذاكرة والوجدان.
وبيسان واحدة من آلاف الفلسطينيين الذين يحملون أسماء المدن والقرى المحتلة من أجل أن تبقى هذه المدن محفورة في ذاكرة الفلسطينيين رغم أنها تقع تحت الاحتلال منذ عام 1948م، وتبعد عنهم عشرات الأميال.
واعتاد الفلسطينيون على تسمية أطفالهم بهذه الأسماء مثل: يافا، بيسان، صفد، كرمل، جنين، حمامة، مجدل وغيرها من أسماء المدن والقرى المحتلة.
أما الشاب محمود جمعة والد الطفلة كرمل والتي تبلغ من العمر سبع سنوات فاعتبر أن تسمية ابنته باسم كرمل لأنه أحد جبال فلسطين في الأراضي المحتلة شمالي فلسطين.
وقال جمعة لـ "عربي21": "اختيار اسم كرمل لابنتي له علاقة بالأصالة والوطنية حتى تبقى هذه المدن والأماكن في الذاكرة".
وأضاف: "نحن كلاجئين فلسطينيين وحتى لا ننسى مدننا الفلسطينية نورثها لأولادنا من خلال أشياء ملموسة تبقى مستمرة معهم طوال حياتهم".
وتابع: "حينما نمنح أبناءنا أسماء يافا أو كرمل أو بيسان وغيرها من أسماء المدن المحتلة؛ فإنها تظل محفورة في ذاكرة الأطفال وتلازمهم طوال حياتهم".
وشدد جمعة على أنهم يتمسكون بأرضهم ومدنهم المحتلة من خلال أسماء أطفالهم.
وقال: "نحن نسمي بناتنا حتى يظل الجيل بأكمله يعرف وطنه وحتى يتمسك بالحق والقضية ويبقى الاسم مغروسا في ذاكرة الأجيال".
وأشار إلى أن من أقوال الشاعر الفلسطيني محمود درويش "أننا كفلسطينيين نرى بلادنا ومدننا التي هجرنا منها 1948م بعيون أطفالنا لذلك نسمي بناتنا بأسماء مدنها".
وشدد جمعة على أن طفلته كرمل تحب اسمها كثيرا لأنه يحمل اسم جبل شمال فلسطين ولأنه اسم جميل ومعناه "جنة الله"، مشيرا إلى أنها الثانية في ترتيب بناته، مؤكدا على أن الطفلة الأولى منحها اسم "كفاح".
وقال: "كلما ذهبنا إلى أي مكان فإن اسم كرمل يكون مميزا وأصبحت تحبه كثيرا وأحبته أكثر حينما عرفت أنه اسم جبل في فلسطين".
وتقع منطقة الكرمل شمال فلسطين المحتلة حيث تحتضن غابات الكرمل الشهيرة وجبل الكرمل والذي يتميز بأنه المرتفع الجبلي الوحيد الذي تصل نهايته إلى مياه البحر المتوسط وتغيب أقدامه الشمالية الغربية فيها دون أن تترك المجال لتشكيل سهل ساحلي.
ويفصل جبل الكرمل بين السهل الساحلي الفلسطيني جنوباً وسهل عكا أو حيفا ـ عكا شمالاً.
واعتبر الكاتب والباحث الفلسطيني الدكتور ناهض زقوت منح الفلسطينيين أطفالهم أسماء المدن المحتلة بأنها خطوة في غاية الأهمية للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، مطالبا السلطة الفلسطينية بأن تسعى بكل جهدها إلى إطلاق أسماء القرى والمدن المهجرة على المدارس والشوارع، ردا على محاولات التهويد الإسرائيلية للمكان.
وقال زقوت لـ "عربي21": "فإذا كان الفلسطيني فقد وطنه وأرضه ومسقط رأسه، إلا أنه لم يفقد ذاكرته وتراثه وحضارته، ولم ينس أن له أرضا ووطنا مسلوبين، ومهما حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يهود الأسماء والأماكن، إلا أنه لن يستطيع تهويد الذاكرة الفلسطينية".
وأضاف: "لقد حاولت إسرائيل وما زالت تسعى إلى تزييف الذاكرة الفلسطينية سواء بتهويد المكان، أو برفض إحيائه في الذاكرة، ومثال ذلك رفضها وتهجمها على السلطة الفلسطينية حينما حاولت إطلاق أسماء قادة فلسطينيين استشهدوا على مدارس فلسطينية".
وتابع: "في أماكن الشتات حاول اللاجئون الفلسطينيون استعادة فردوسهم المسلوب من خلال إحياء التراث الشعبي، والزي الشعبي، والأغنية الشعبية، وترسيخ الرواية الفلسطينية للمكان، فأطلقوا أسماء المدن والقرى على مؤسساتهم التجارية والثقافية، وسعوا لدى وكالة الغوث لتسمية المدارس بأسماء القرى والمدن المهجرة إلا أن الأونروا رفضت هذا الموضوع".
وشدد زقوت على أنه بعد أن رأى الفلسطيني أن هناك من يصر على إلغاء ذاكرته، توجه إلى أسلوب جديد في إحياء الذاكرة كي لا تنسى الأجيال القادمة أسماء بلدانهم ليطلق اسم بلدته أو أسماء المدن على أبنائه وبناته.
وقال: "فهناك أسماء: يافا، وكرمل، وبيسان، وأسدود، ومجدل، وحينما يسأل الطفل عن معنى اسمه يعرف المقصود بأنه يحمل اسم بلدة فلسطينية هجر أهلها قسريا عام 1948م؛ فتبقى ذاكرته حية على مدار عمره، وكذلك يحب هذا الاسم ويفتخر به".
أما الصحفي الفلسطيني حمادة حمادة فإن له قصة أخرى مع هذه الأسماء فمنح اثنتين من بناته أسماء مدن فلسطينية (بيسان ويافا)، فيما منح الثالثة اسم "شام" نسبة لبلاد الشام "سوريا".
وقال حمادة لـ "عربي21": "أنا فلسطيني عاشق للوطن ومن شدة حبي له قمت بتسمية بناتي بأسماء تعود لمدن فلسطينية اغتصبها الاحتلال (بيسان ويافا) ولم نستطع الذهاب إليها وحرمنا منها، ولكن نتمنى الرجوع لها وزوال الغاصب عنها".
وأضاف: "في 26 كانون ثاني/ يناير من العام 2008 رزقت بطفلة أسميتها بيسان، نسبة لمدينة بيسان التي حرمنا الذهاب إليها والتنعم بجمالها، وكنت عندما أحمل ابنتي أتذكر مدينتي ولم أنسها أبدا، فسوف تبقى في قلبي وعقلي دوما ولن أنساها طوال عمري".
وتابع: "في الثلاثين من كانون ثاني/ يناير 2013م رزقت بطفلة أخرى أسميتها شام نسبة لبلاد الشام الجميلة، ولكن بقلبي غصة من المعاناة التي تعانيها من الحروب، ولكني أتمنى أن تكون حياة طفلتي أجمل مما نعيش في الواقع".
وفي الأول من تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي رزق حمادة بطفلته الأخيرة والتي أسماها "يافا" نسبة لمدينته الأصلية "مدينة يافا عروس البحر" التي سلبها الاحتلال وحرمهم من التمتع بجمالها الخلاب الساحر بعد أن رحل والده وجده منها إلى غزة عام 1948.
وتقع مدينة يافا على البحر الأبيض المتوسط، إلى الجنوب من مصب نهر العوجا على بُعد سبعة كيلومترات؛ وإلى الشمال الغربي من مدينة القدس على بُعد 60 كيلومترًا.
وكلمة يافا هي تحريف لكلمة (يافي) الكنعانية، وتعني جميلة، وأطلق اليونانيون عليها اسم (جوبي).
وذكرها الفرنجة باسم (جافا). وضمت المدينة سبعة أحياء رئيسية هي: البلدة القديمة، حي المنشية، حي العجمي، حي ارشيد، حي النزهة، حي الجبلية وحي هريش.
وكان فيها أيضاً ستة أسواق رئيسية متنوعة وعامرة، وكان بها أربع مستشفيات، وحوالي 12 جامعاً عدا الجوامع المقامة في السكنات، وبها عشر كنائس وثلاثة أديرة. وقد بلغ عدد سكان يافا في 1948 حوالي (3651) نسمة.
وقال حمادة: "كانت جدتي ووالدي يحدثوننا يوم أن سلب الاحتلال يافا، وطردوهم منها، لتبقي ذكرياتها الجميلة حاضرة، ومفتاح منزلنا الذي احتفظت به جدتي حتى تاريخنا هذا، والذي سوف أورثه لأبنائي كي يعودوا يوما إليه مهما طال الزمن أو قصر".
وأضاف: "فلسطين تعيش في قلوبنا وقلوب أطفالنا وشبابنا ونسائنا ونعززها بهذه الأسماء حتى يزول الاحتلال عنها وننعم بخيراتها وجمال طبيعتها".
وتنبري الطفلة بيسان حمادة ابنة الصف الثامن لتشرح لزميلاتها في الفصل عن المدينة الجميلة التي تحمل اسمها وتقع شمال فلسطين والتي لا تزال تقع تحت الاحتلال.
وتقول بيسان لـ "عربي21": "دائما أحدث زميلاتي في الفصل عن مدينة بيسان وعن جمالها والآثار الموجودة فيها، حيث أنها تعتبر من أقدم المدن الفلسطينية، وأشجعهم على القراءة عنها والبحث عنها وهذا يغرس حب الوطن في داخلنا".
وأضافت: "شعور جميل جدا أن أشرح لزميلاتي عن مدينة بيسان، فهذا نابع من حبي لوطني فلسطين والانتماء له، حتى نوصل رسالة للاحتلال أن المدن التي هجرنا منها ستبقى في قلوبنا، وتنقش على الجدران، بل ونبقى نحن بأسمائنا نناضل بهذا الإرث الذي سيتواصل ولا يزول".
وشددت بيسان على أنها تعتز وتفتخر بأنها تحمل هذا الاسم، متقدمة بالشكر لوالدها الذي منحها هذا الاسم الجميل.
وأضافت: "أحب اسمي كثيرا لأنه جميل ولأن الجميع يحبه بحب هذه المدينة العظيمة، وأحبه لأني أجده أينما كنت في كتبي المدرسية وفي مواقع التواصل الاجتماعي وفي كل مكان".
وتابعت: "أتمنى أن أتجول في فلسطين وأن أزور جميع المدن الفلسطينية وخاصة بيسان التي أحمل اسمها، ويافا مدينتي الأصلية واسم أختي الصغرى".
وتعتبر مدينة بيسان من أقدم المدن الفلسطينية التاريخية، وقد تم احتلالها عام ١٩٤٨م وتهجير سكانها العرب من منازلهم وأراضيهم، وهي تقع في الجهة الشماليّة من فلسطين المحتلة، وتُعدّ منطقةً حدودية مع الأغوار الأردنية، وهي تقع في الجنوب الشرقي لمدينة الناصرة، كما أنها تقع في غرب نهر الأردن، وأغلب سكانها حالياً هم من اليهود المهاجرين، ومجموعة من العرب الذين بقوا فيها بعد حرب ١٩٤٨م.
بذور الأدب الفلسطيني.. الشيخ سعيد بن علي الكرمي
الرئيس التونسي السابق محمد الناصر: هذه قصتي مع فلسطين
"قلعة برقوق" لا تزال شامخة تحمي خان يونس منذ 600 عام