قبل أيام، كان يوم 19 كانون أول (ديسمبر)، وكان أن خرج مئات الآلاف من السودانيين إلى شوارع المدن الكبرى في الذكرى الثانية للثورة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير، لتذكير الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش، بأن القوى المدنية التي صنعت الثورة، ما زالت تتحلى باليقظة لمنع اختطافها من قبل عسكر كانوا حراس نظام البشير وكوفئوا على ذلك بالرتب الرفيعة.
البرهان وكبار الجنرالات المصطفين خلفه باتوا يدركون أنهم بلا سند شعبي، وصاروا ميالين إلى استجداء التعاطف، باعتبار كل ما يصيبهم من نقد استفزازا للقوات المسلحة، لأنهم يعرفون أن السودانيين شأنهم شأن الأردنيين والجزائريين والفيتناميين يعتبرون الجيش مؤسسة وطنية على العين والرأس، ولا يقبلون التعريض والتشهير بها بالباطل. وصارت تهمة استفزاز الجيش تُلقى في وجه كل من يرفض مخططات الجنرالات للانفراد بالسلطة أو الاستئثار بالنصيب الأوفر فيها، عبر تضييق الخناق على الحكومة بالاستمرار في تجفيف مواردها الاقتصادية بالإبقاء على 82% من موارد الخزانة العامة تحت سطوة عسكرية، بمسمى هلامي وغير دقيق هو "التصنيع الحربي" وبالتباكي في كل منبر على فشل الحكومة (لكون مجلس الوزراء في معظمه من المدنيين).
وقبل أيام حدث اعتداء على قوات سودانية في نقطة من الحدود مع إثيوبيا، أسفر عن مقتل ثلاثة عسكريين سودانيين، وقوبل الحادث بالاستنكار الشعبي التام، فوجدها البرهان وصحبه فرصة للعمل على حث المواطنين للاصطفاف حول جيشه المتعرض للعدوان، وشرعوا في الإيحاء بأنهم في مواجهة عسكرية مع إثيوبيا، وحقيقة الأمر هي أنه لم تحدث أي معركة أو مجرد مناوشات بين الجيشين الإثيوبي والسوداني في تلك النقطة الحدودية والتي هي أرض سودانية، ظلت تتعرض لغارات على مدى سنوات طوال من قبل مليشيات إثيوبية هدفها هو إبعاد المزارعين السودانيين عنها، ليتسنى لمزارعين إثيوبيين استغلالها، وللجيش السوداني أن يفخر بإبعاد تلك المليشيات عن تلك الأراضي دون التهويل من الأمر، وفي الأفق بوادر صدام بين الجيشين، وفي حال حدوثه يصبح واجب كل سوداني أن يدعم جيشه معنويا وماديا.
كلما حاول جنرالات السلطة في السودان اللعب بالبيضة والحجر، كسروا البيضة وسقط الحجر على أقدامهم، ولا يدركون أن اللسان حصان يرفس من لا يصونه.
ولكن حتى لحظة كتابة هذا النص (الجمعة 25 من الشهر الجاري)، فإن كل ما يقال عن انتصارات للجيش السوداني على الحدود الشرقية، غايته جعل قيادة الجيش (البرهان تحديدا ومعه جوقة الفرقاء) موضع إعجاب وتقدير.
ومن المريب جدا أن مصر كانت الدولة الوحيدة التي استنكرت "العدوان الإثيوبي" على السودان، وقدمت المواساة في فقد الجنود الثلاثة، وفات على مصر التي طالما حلمت حكومتها بدك سد النهضة في إثيوبيا، أنه لا مصلحة للسودان في حاله الراهن في خوض حرب بالأصالة أو الوكالة، وأن الرأي العام السوداني يكن من الود للحكومة الإثيوبية الحالية أضعاف ما يكنه لحكومة مصر، التي تحتل فعلا إقليما (حلايب وشلاتين) يعتبره السودانيون جزءا أصيلا من تراب وطنهم، وظل تحت الإدارة السودانية حتى عام 1995، واستغلت مصر ضعف الموقف السوداني بعد أن تكشَّف أن حكومة عمر البشير كانت ضالعة في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في إثيوبيا في تاريخ سابق من تلك السنة.
ولأن الجنرالات دخلاء على السياسة، فإنهم لا يعرفون أبسط قواعد التعامل مع الجمهور، فقد أوكل البرهان وصحبه في أيامهم الأولى في السلطة أمر مخاطبة الجماهير للفريق شمس الدين كباشي الذي أصابته الخيلاء بسبب الإكثار من الوقوف أمام الكاميرات، وصار يهرف بأمور لا يعرف عنها كثير شيء، فاستحق بذلك لقب "كضباشي"، والكضب عند السودانيين هو الكذب، وباشي كما في بكباشي وباش مهندس تعني بلوغ شأوٍ عالٍ في مجال ما.
ومؤخرا دفع البرهان بعميد يحمل اسم الطاهر أبو هاجة مسلحا بمسمى المستشار الإعلامي للقائد العام (والذي هو البرهان) إلى الواجهة، بحسبان أنه الأقدر على إخراس أي صوت يتطاول على كبار العسكر، فإذا بالطاهر هذا أعجز حتى من أن يصبح ظاهرة صوتية، لأنه يدبج مرافعاته عن السادة الكبار في شكل مقالات صحفية هشة البنيان ومتهافتة الصوغ، ثم كان أن رأى الرجل أن يتوغل في دائرة الضوء كي يصبح معروفا صوتا وصورة، وقبل الاستضافة في قناة "الجزيرة مباشر"، وحاصره المذيع بسؤال عمن يعتبرهم هو أعداء الوطن، فارتج عليه ولم يجد سوى الصهيونية وعملائها في الداخل، ولما نبهه المذيع إلى أن ولي أمره البرهان هو من يريد فتح السودان للصهيونية، تلجلج الرجل: ال ال ال ال آآآآآآ، ثم تعلل بأنه لا يعرف خبايا هذا الموضوع، وهو المستشار الإعلامي وجذر الكلمة هو "العلم".
ثم كان ما كان من أمر الفريق ياسر العطا عضو مجلس السيادة الذي حاول أن يكحلها فأعماها، حين قال إن قوى الثورة معنية بحماية الثورة، بينما الجيش معني بحماية الوطن، وهكذا وضع الثورة التي أوصلته إلى المجلس السيادي في خندق غير خندق الوطن.
والشاهد: كلما حاول جنرالات السلطة في السودان اللعب بالبيضة والحجر، كسروا البيضة وسقط الحجر على أقدامهم، ولا يدركون أن اللسان حصان يرفس من لا يصونه.