هل هي مصادفة أن يصبح
النقد للحركة الإسلامية تيارا الغالب فيه هم أبناء هذه الحركة، بل في بعض الأحيان بعض رموزها وقيادييها الذين لا يمكن التشكيك مطلقا في حرصهم على المشروع الحركي الإسلامي؛ حرصا غير قابل للتشكيك؟ فإحدى الأزمات التي تواجه الذات الحركية هي سرعة اتهام كل من فكر مجرد التفكير أن يقدم ملاحظات، وليس في ذلك أي مبالغة في ما نقوله وإنما هي التجربة الطويلة التي راكمناها ممارسة وتتبعا.
كل أبناء الحركة الإسلامية ويرددون قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما تولى الخلافة: "يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم. ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
نحن لن نقف مع خصوص السبب، وإنما يهمنا عموم التوجيه واللفظ الذي ينير الطريق لأبناء الحركة الإسلامية والمنتمين إليها؛ لأن هذه الخطبة أو بلغة العصر هذا التصريح الذي قام به سيدنا أبي بكر خط به طبيعة العلاقة بين القيادة ومن معها في المسيرة من المنتسبين، فهو رضي الله لا يريد أمة أو جماعة ساكنة خاضعة بدعوى أنها تجسد مفهوم الطاعة، وهذا الحاصل للأسف الشديد داخل البيئات الإسلامية التي تتصور أو تتشرب أن النقد معصية وعصيان، وهي لا تدرك ما بين "المعصية "و"العصيان" من خصوص وعموم واختلاف في المجال التداولي. فالأولى تقع في دائرة العلاقة العمودية مع الله، فهي أخص، والثانية هي أوسع في دائرة العلاقة الأفقية مع البشر، كما أن المعصية لا تقال إلا بإزاء ما هو مخالفة للأمر الإلهي القطعي، أما العصيان فقد يتجوز مجرد الاعتراض لعدم تحمله، وهذا ملمز ينبغي فهمه وتعلمه.
ليس هدفنا من هذا المقال الانحياز إلى طرف، إذ الأمر ليس مباراة تجري بين فريقين وهذا هو الذي ينبغي عليه الأمر، فمعركة اتهام النيات خلل كبير ينبغي للحركة الإسلامية أن تنزه نفسها عنه، وأخص بالذكر الحركة الإسلامية لأن منطق الأشياء يطلب ذلك منها ويفرضه عليها، فهي المدرسة المربية الموجهة المحتضنة. ومساحة الاستيعاب التي ينبغي أن تتصف بها الحركة الإسلامية هي أكبر مما تتصور.
النقد بالنسبة للحركة الإسلامية فرصة كبيرة لو أحسنت استثمارها، فهي من خلال ذلك تخوض تدريبيا عمليا ميدانيا على تدبير "المعارضة"، وهو كذلك محك توزن به مصداقية الشعارات التي تحملها وتدعو إليها وتنادي بها، بهذه العقلية وخاصة عندما يكون الناقد من أبناء الدار ينبغي أن تتفاعل معه الحركة الإسلامية.
إذا كان الثابت أن الحركة الإسلامية ليس عندها ما تخفيه وأنها تعبر عن رؤيتها وقناعتها بكل بوضوح، أليس التعددية واحدة من هذه الأسس التي تؤمن بها الحركة بل تدافع عنها، فلماذا تفشل في معالجة ظاهرة النقد؟!
أنا أعلم جيدا أن هناك من أبناء الحركة الإسلامية تجاوزوا حدود النقد إلى التشفي وتصفية الحسابات الضيقة لكنني رغم ذلك لن أبرر ولا أدعو أحدا إلى أن يبرر فشل الحركة في تدبير النقد لأن أي تبرير هو سير في الاتجاه الخطأ وأكبر هذه الأخطاء الوقوع في دائرة ردود الفعل.
في نظري إن الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون هي الرائدة في التأسيس للنقد، قد يبدو ذلك لمن حويصلته ضيقة أو اتخذ من فكره وتصوره ومشروعه أصناما وأوثانا، أو كان من زمرة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، فهؤلاء لا كلام لنا معهم.. قلنا أن تكون رائدة في التأسيس للنقد؛ لأنها دون ذلك سوف تفقد الحركة فاعليتها وتأثيرها، وأن تكون ناجحة وقائدة. فأيما جسم أصبحت الدماء جامدة بداخله إلا وصار محنطا، وهذا ما يمكن لأحد أن يتصور أنه سيصيب جسم الحركة الإسلامية لما يعقد عليها من آمال في غد الأمة المقبل المشرق، وخاصة في هذا الظرف الدقيق بما تحمله الكلمة من معاني وأبعاد لا تخفى على كل مراقب ومتابع. ولعل ما تمر به القضية الأم، قضية فلسطين، مؤشر يمكن من خلاله أن نستوعب الكثير.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما كتب إلى أبي موسى الأشعري، واليه على اليمن آنذاك، فقال له: "ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق".
التحديات كثيرة ومطلب تنضيج الرؤى والأفكار من الواجبات الضرورية، ولذلك نؤكد مرة أخرى أن الحركة الإسلامية مطالبة بأن يكون النقد جزءا مهما في برامجها ومنهجية أساسية في تدبير عملها.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.