الصديق الكاتب النازح محمد أمير ناشر النعم الذي فقد كثيراً من الفكّة في الوطن، ثم فقد وطنه الصحيح التام، وصفَ ألمانيا ملتاعاً بوصفٍ لا يخطر على بال.. لا ليس ببلاد المرسيدس، ولا بلاد غوتنبرغ، ولا بلاد هيغل، وإنما وصفها ببلاد السنت، وهي أصغر قطعة نقد مضروبة ضربا مبرحا في السوق، وقياساً عليه بعد التعديل وإعادة الفكّة، يحق وصف بلادنا ببلاد "الهنت"، مصحّفاً عن بلاد السند وبلاد الهند. والهنت لغةً: بلاد الشر، أو خصائل منه، فقد غدت بلادنا كذلك. عصير كلامه: الفكة والصحة متلازمتان ولكن لا تشعرون.
وقد اقتدت بلاد الهند التي احتلتها بريطانيا 173 سنة بالمحتل، وكبرى مدنها تسعّر بضائعها بالتسعيرات الأوربية، فالسنت مقدس في البيع والشراء، والبضاعة لا تعرض برقم صحيح ثمناً في المحلات، فهي معروضة بسعر يشبه المصيدة والكمين والرصد، فالكولا مثلا سعرها 99 سنتاً، وليس دولاراً صحيحاً كاملاً، والسنت المطلوب يمكن وصفه بالسنت الحارس، يُرجع للشاري حتماً مقضيا. والبائع الأوربي وموظف البيع الكاشير، يذكر السعر لفظاً، وهو يعيده إليك مع التحية والوداع والتمنيات بنهاية أسبوع سعيدة إكراما لك والسنت، وهما مرفقتان بابتسامة، لكن الباعة الهنود يغضّون عن السنت ويأكلونه ويجحدونه، كما في بلادنا.
ومن المفارقات التي يجدر ذكرها أنه في فيلم "المليونير المتشرد"، وهو فيلم هندي محبوك بالمنطق المجحود في السينما الهندية، ورد ذكر معلومة وهي أن سعر كوب الشاي كان كذا قبل نصف قرن ولا يزال على حاله، وقد ظل ثابتاً حقبة طويلة! فقد حرصت الهند على ضبط سعر العملة من التضخم، وهو ما لم يحدث في الدول العربية، ومنها
سوريا، التي فاق التضخم فيها قدرة المواطن على العيش، حتى أن الألف ليرة صارت سعراً لربطة خبز، وكان اسم الخمسمائة: فرعونية، والبائع السوري غالباً ما يفترس الفكّة، ويعتذر بأن الفكّة نادرة، وقليلة وقد ساد البغاث في سوريا واستنسروا منذ أن هُضم السنت واحتقر. فإما أن الدولة لم تسكّ كثيراً من الفكّة، وإما أن الأمانة فقدت، واعتاد البائع على سرقة الفكّة.
تقول الأمثال من يسرق بيضة يسرق جملاً.
سكت المستهلك على هضم حقوقه وأولها القرش، خوفا وإيثاراً للسلامة، إن طالب به قد يدفع ثمناً أكبر، وسيف الحياء ماض، وما أُخذ بسيف الحياء حرام.
ويمكن تذكر حديث المستورد مع عمرو بن العاص بشأن بلاد السنت الأوربية، وقد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك. فملوكهم لا يأكلون الفكّة، قد يظلم أهل روما أنفسهم بإباحة محرمات، لكنهم لا يظلمون في البيع والشراء نقيراً، أو فتيلاً.
المواطن الألماني يحرص على اغتنام هذا السنت المقدس من البائع، سنت الحظ، ولا يبخسه، فهو حقه، كأنَّ كرامة المواطن في الفكّة، التي أدرك السيسي قيمتها، فطالب بها المواطن، ولم يأمر بردها إليه، وهذا يعني أن
مصر تصير إلى مصير سوريا، وقد قال في خطبة شهيرة مثل خطبة طارق بن زياد: الفكّة دي أنا عايزها، وسنّ ما يشبه القانون لسلبها منه، فهو في غزو مستمر لمصر وشعبها.
قد تكون الفكّة أقل حقوق المواطن هدراً، فالأسعار شبه مجهولة، وعلى المشتري أن يبذل جهداً في معرفته بعد مساومات ومفاوضات وتلك مشقة نفسية ومقامرة، ومصحوبة بحلفان وأيمانات، فهي تجارة والتجارة شطارة، وحلال على الشاطر، كأنها معركة، ولا فكة، حتى في ألمانيا أشتري بضاعتي من بائع سوري، يبيعني وهو يمنُّ على والسعر مكتوب على البضاعة ومضمنة في رمز "الباركود"!
بلادنا بلا فكة، والمواطن غير معذور دائما فهو مواطن فخور يتخلى عن فكة النقد خشية أن يتهم بالبخل، خاصة في مؤسسات الدولة التي تبلع الفكّة والصحيح، وهو لا يستطيع فكاكاً من براثن الدولة ومخالبها، فهي تستطيع أن تدينه في كلمة نطق بها فيفقد حياته، أو يصادر بيته، أو تجعله يبيعه حتى يفتكَّ منها هرباً إلى أوروبا التي باتت تضيق عليه الأبواب والنوافذ حرصاً على فكتها المقدسة. وهي ترأف بالمعوقين وذوي الحاجات الخاصة، فلهم رعاية، ومواقف سيارات خاصة وأرصفه منحدرة من أجل النزول والصعود، بينما هم في بلادنا فكة.
لكن والحق يقال إنّ البائعين السوريين يدفعون لك مقابل الفكّة المسروقة بضاعة، وكأننا في عصر ما قبل اختراع النقد، فالبقال يعطيك علكة، والصيدلي يرد لك فكتك الباقية حبوباً لوجع الرأس، وقد تكون تلك إهانة، وكأنه يتنبأ لك بصداع حتمي، أو لصقات جروح، وكأنَّ الشعب جريح، فلا بد له أن يجرح في المعركة الطويلة، وفي المؤسسات الحكومية يردّونها علب كبريت لا يشتعل غالباً.
باصات النقل الداخلي أكلت فكةً كثيرة قبل اختراع البطاقة في أواخر الثمانينيات، تأخر اختراعها لأننا كنا مشغولين بالعدو الصهيوني، ومع اختراعها انقرضت الباصات، وباتت تنقل النازحين المحاصرين، وكأنهم محتلين يجري إجلاؤهم وتحرير الوطن منهم، والعدو الصهيوني ازداد عدواناً، والسبب الفكة!
يذكر السوريون أنه مع تولي بشار الأسد سدّة النظام، ارتفعت آمال كثيرة بالحق والعدل وتحرير الفكّة، وعمد محافظ الحسكة إلى إصلاحات، فأوجب على سائقي التاكسي سعراً ثابتاً لكل رحلة، سعر الرحلة القصيرة منها والرحلة الطويلة هو خمس وعشرون ليرة.
والحسكة مدينة ممتدة، واسعة الأرجاء، والسائق السوري يعتقد أنه مظلوم، لا يوجد راكب مستأجر يدفع الأجرة نفسها حسب حكم العداد. والركوب في سيارة الأجرة نوع من القمار، وسوى ذلك باصات النقل الداخلي قليلة أو لا تغطي أحياء المدينة، وفي الليل يطلب السائق أجرة عدادين، أي يطلب الأجرة مضاعفة، فهو دائماً يشكو من عدم تناسب الأجر مع الجهد، ولا يوجد سائق يلتزم بالتعرفة الحكومية. وقد وجد المحافظ القدير ذلك الحل "البروكستي" (نسبة إلى قاطع الطريق اليوناني) الذي لم يدم طويلاً.
أصدر الرئيس الصحيح بسبب اضطراب سعر الليرة التي خسّت كثيراً وخسئت؛ عملة جديدة، وصارت الألف ليرة التي عليها صورة الرئيس فكة، وصارت الفكّة ورقية بعد أن كانت معدنية. حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ. لم تكن في البلاد فكة، وها هي ذي تتفكك إلى فكة وشعوب متناحرة، وأحياء متصارعة.
الفكّة شيء يسير بالمقارنة مع الحقوق المضيّعة مثل حقوق الأطفال، فهم فكة في وسائل النقل، والمرأة فكة لا تورث حق الجنسية لأولادها، والمواطنون الذين لديهم جنسية ويورثونها ويصوتون؛ أصواتهم فكة لا قيمة، سعرها علكة أو حبة صداع أو علبة كبريت لا يشتعل من أربعين عودا منها سوى عود كاف لإحراق غابات سوريا!
لدينا تقسيمات مثل المواطن الحزبي، أو المواطن الصحيح، والمواطن الفكّة. فنحن طبقتان، الشعب السوري الآن فكة في نظر العالم، والرئيس السوري فكة ليست له علاقات سوى مع دولة فكة اسمها أبخازيا! سوريا تتفكك.
الفكّة قد تودي بالدول إلى الهلكة، والكائنات أيضا نوعان: حيوانات كبيرة وأخرى فكة، خذ مثال ذبابة ترامب الحقيرة التي جلست على رأس نائبه مايك بنس لمدة دقيقتين وأربع ثوان خلال المناظرة الرئاسية، قد تودي بترامب وحملته كما أودت بالنمرود وأهلكته، ومن سوء حظ مايك أن شعره أبيض، ولم تجلُ الذبابة من فوق الشعر الحريري، فصارت أشهر حشرة في العالم، والذبابة فكّة الحشرات.
نعتقد أن الأسد تخلى عن الجولان فكّة للمحتل، أو هدية بمناسبة تولّيه العرش، وأهدى ميناء طرطوس للروس، وتبعَه السيسي بالتخلي عن جزيرتين للسعودية وبالتالي لإسرائيل، وعن نهر النيل لإثيوبيا. والسعودية جعلت الكعبة فكّة، ويمّمت شطر نيوم، كل رئيس يشتري كرسيه، يترك قطعة من الأرض أو من القلب فكّة للعدو، ويبخل بالفكة على المواطن!
باع نصف الشعب السوري بيوتهم لافتكاك رقابهم من الرئيس السوري، وكذلك يفعل مصريون كثيرون نزوحا إلى بلاد؛ الحق فيها بالدرهم وحقوق الإنسان بالقنطار.
twitter.com/OmarImaromar