لا مجال للحديث عن قضية
فلسطين، فالجميع يعرفها، وملخصها شعب تآمرت عليه شعوب كثيرة، وصنع العالم من عصابة
مارقة قوة كبيرة طردته من أرضه على مرحلتين، الأولى في العام 1948م، والثانية في
العام 1967م. ومنذ التاريخ الأول وهو يطالب بحقه ويعمل للعودة إلى وطنه الذي هُجّر
منه، أو الذي يقيم فيه تحت سلطة الاحتلال، مع العلم أن قضيته هي القضية الوحيدة في
العالم في موضوعها، وفي صمود شعبها وإصراره على العودة، وانتقال هذا المطلب وهذا
الإصرار من جيل إلى آخر.
تضم
المقاومة الفلسطينية مجموعات كثيرة، تتحد
في الهدف، وإن تعددت في المرجعية، وغالبية عملها المقاوم لم يخرج عن نطاق مجابهة
الصهاينة على أرض فلسطين كونهم محتلين، ما يعني مقالتنا هذه هو هذا النوع من
النضال بالذات.
مع أن العمل المقاوم يكون داخل فلسطين
المحتلة، إلا أن علاقاته قائمة ومتشابكة وشائكة مع دول الجوار، ومع محيطه العربي
والإسلامي، والعالمي كذلك. إذ المقاومة تتنوع وفق تنوع متطلبات الصراع، سياسية
واجتماعية واقتصادية ومالية وعسكرية وتربوية وغيرها، وهذه كلها متشابكة لا يمكن أن
تنقطع عن الآخرين، وهذا يعني وجود تداخل وتواصل بين المقاومين في فلسطين من جهة،
وجيران فلسطين والآخرين من جهة أخرى.
يتمثل جوهر العنوان في أن هذا الفلسطيني قد
اكتسب مركزا قانونيا دوليا معترفا به، ثابتا بالنص
القانوني، وبقرارات الشرعية
الدولية، وبأحكام قضائية دولية وإقليمية. وبالتالي، فمن الناحية القانونية هو محمي
بالنص، هذا من الناحية النظرية، ولكن الدول بشكل عام، تضرب بالقانون عرض الحائط،
وتقدم السياسة عليه، دون تقديم تبرير منطقي يقيم الحجة على مخالفة التشريع الدولي.
وهنا تبرز إشكالية تبعية النظام السياسي
العربي للدول العظمى، حيث لا تعير للمظلومية وللحق أي اهتمام أو حساب، وتولي قلبها
حيث السند الغربي أو الشرقي، وبالنتيجة تتخلى القيادة السياسية العربية عن الحق
الفلسطيني إرضاء للآخرين، إلا القليل جدا طبعا.
يقول المثل الروسي: "ليس القانون هو ما
يُخشى بل القاضي". ويقول جان ماري مولر: "ليس القانون هو الذي يملي ما
هو عادل، بل العدالة هي التي تفرض ما هو قانوني. فحين يكون الصراع بين القانون
والعدالة، فعلينا أن نختار العدالة وأن نعصي الشرعية، لأن ما يجب أن يلهم الإنسان
في سلوكه ليس ما هو شرعي بل ما هو مشروع".
وجاء في كتاب "الثورة التشيكية وتجربة
التحول"، لمجموعة مؤلفين ، عام 2012، (ص 93): "مهما كان القانون جيدا
ومتكاملا فإنه لن يخدم بشكل جيد إذا وقع في أيدي قاضي سيئ. أما القاضي الجيد
فبإمكانه اتخاذ القرارات بشكل جيد حتى في ظل وجود قانون غير جيد".
المشكلة الأكثر خصوصية هنا في التعامل القضائي
العربي مع المقاوم الفلسطيني، وأقصد هنا القضاء الجنائي بالذات، لأنه لا إشكالية
في أنواع القضاء الأخرى، حيث تنطبق على الجميع دون حرج أو غضاضة.
القاضي الجنائي يملك أدوات قانونية تمكنه من
التعامل مع الحالة المعروضة أمامه، وهي هنا أعمال يقوم بها المقاوم الفلسطيني وهو
في سبيله لممارسة حقه في استرجاع وطنه العربي ممن سلبوه إياه بلا وجه حق ولا مسوغ
قانوني. وهذا العمل يكون مجرما وفق السير العادي للوقائع وانطباق النص القانوني
الوطني عليه بشكل حرفي جدا؛ أما إذا وجد سبب إباحة، أو تقدير ظرف عام للفاعل، فإن
القاضي يجب أن تستوقفه مجمل الظروف لا النص التجريمي، ليجد من نفسه سعة في استيعاب
الفعل، وإخراجه من دائرة التجريم الضيقة، إلى دائرة الإباحة الواسعة، طالما تباعد
الفعل عن فلسفة التجريم التي جوهرها حماية مكونات الدولة المادية والمعنوية.
تاليا، بعض من الأدوات القانونية التي بين يدي
القاضي العربي تمكنه من مراعاة ظروف المقاوم الفلسطيني:
أولا، الدستور: غالبية النصوص الدستورية تتضمن تحمّل الدولة العربية مسؤولية سلامة
الوطن العربي، والدستور هو المظلة لشرعية النصوص القانونية، وهو الحصن الذي يلتجئ
إليه القاضي ليعبر عن ضميره.
فالدستور الأردني تنص المادة الأولى منه على
أن: "المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ
ولا ينزل عن شيء منه، والشعب الأردني جزء من الأمة العربية..".
ومقدمة الدستور اللبناني جاء فيها: "ب-
لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم
مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان
العالمي لحقوق الإنسان، وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات دون
استثناء".
وفي مصر جاء في المادة الأولى: ".. الشعب
المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم
الإسلامي..".
وفي مقدمة الدستور السوري جاء: ".. وتعتز
الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءا لا يتجزأ من الأمة
العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون
العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية". ونصت المادة الأولى
من ذات الدستور على أن: " الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات
سيادة تامة، غير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها، وهي جزء
من الوطن العربي. الشعب في سورية جزء من الأمة العربية".
هذا الإفصاح عن ارتباط أجزاء الوطن العربي
بوحدة المصير، لا بد أن تكون له دلالته في وجدان القاضي العربي تجاه المقاوم
الفلسطيني، تتمثل في نصرته ومساعدته فيما يحدده دستوره، وإلا فالقول بغير ذلك وصف
لنص دستوري باللغو، والدساتير منزهة عن ذلك، ما يعني وجوب تطبيقها بشفافية وبما
يؤدي المعنى المقصود وفق المنطق المألوف واستصحابا لنشأة الدستور.
والدساتير العربية نشأت بعد اندحار الاستعمار،
حيث الشعور القومي وتحمل مسؤولية جميع الوطن العربي وعدم السماح بالاحتلال بعد أن
ذاقت الشعوب طعم الحرية.
ثانيا، ضمير القاضي: في القضايا
الجنائية فإن القاضي يحكم وفق ضميره، إذ يعود إليه تقدير التهمة، يقلبها في وجدانه
في ضوء القانون نصا وروحا، وهذا ما يميز قاضيا عن آخر.
المادة (302) من قانون الإجراءات المصري تنص
على: "يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، ومع
ذلك لا يجوز له أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه في الجلسة..".
والمادة (151) من قانون الإجراءات الجنائية الكويتي تنص على: "تعتمد المحكمة في
اقتناعها على الأدلة المستمدة من التحقيق الذي أجرته في القضية أو من التحقيقات
السابقة على المحاكمة، ولها الحرية المطلقة في ترجيح دليل على دليل وتكوين
اقتناعها حسبما يوحيه إليه ضميرها".
ثالثا، تسبيب الحكم القضائي: التسبيب هو ذكر الأسباب التي
حملت القاضي على النطق بالحكم، وهذه الأسباب تستخلص من الوقائع وتكييفها وفق
القانون نصا وروحا، وتكون محلا للطعن إذا شابها عيب.
والتسبيب يعد سلاح القاضي الحاد في تطبيق
القانون وإقناع الجهة القضائية الأعلى بصواب الحكم، وهو يكشف عن ضمير القاضي
وقدرته الفذة على تقديم الأسباب المنطقية والقانونية لحكمه.
رابعا، عدم تطبيق القانون لعدم دستوريته: القاضي رقيب على دستورية النص القانوني، وفي هذه الحالة من حقه
وسلطته عدم تطبيق أي نص قانوني مشوب بعدم الدستورية، ويوقف النظر في موضوع القضية،
ويرفع وجهة نظره في هذا الأمر إلى الجهات المختصة لإعادة النظر في النص محل
المراجعة، وهذا الأمر بالذات يعبر عن ضمير القاضي تجاه قضاياه العربية، وهنا
الفلسطينية.
خامسا، ترسانة تشريعات دولية: يوجد عدد كبير من التشريعات الدولية التي تؤيد حق تقرير المصير،
وتفرض على الدول مساعدة الشعوب المحتلة لاسترداد أوطانها، حيث لن تقرر الشعوب
مصيرها بسبيل آخر غير المقاومة. وعدم ذكر المقاومة بالنص الصريح لا يعني نكرانه،
لأنه مستلزم وحيد لتنفيذ المحتوى وهو التحرر، وحق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية
تقره كافة الشرائع والمواثيق البشرية، منها:
1- ميثاق الأمم المتحدة: في المادة الأولى،
الفقرة الثانية: يدعو الميثاق إلى "إنماء العلاقات الودّية بين الأمم، على
أساس المساواة في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكلّ منها حرية تقرير مصيرها".
2- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: في المادة
الأولى، تأكيد على مبدأ أساسي يقول إنّ "الناس يولدون أحرارا متساوين في
الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء".
3- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: يشدّد
العهد في الجزء الأول على "حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وحريتها في
العمل لتحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي".
4- الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات
العامة: أكد على الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك شددت
الاتفاقية على "حق الإنسان في الحياة، وفي سلامة الجسد، وفي الحق في عدم
الخضوع للاسترقاق والعبودية، والحق في الحرية والأمان".
5- الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان: جاء
في الديباجة أن "كل البشر يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة وفي الحقوق،
وحيث أن الطبيعة قد منحتهم العقل والضمير، يجب أن يتصرفوا كإخوة لبعضهم
البعض". ونصت المادة الأولى على أن "كل إنسان له الحق في الحياة والحرية
وسلامة شخصه".
6- الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب: نصت
المادة (20) منه على أن "1- لكل شعب الحق في الوجود، ولكل شعب حق مطلق وثابت
في تقرير مصيره وله أن يحدد بحرية وضعه السياسي وأن يكفل تنميته الاقتصادية
والاجتماعية على النحو الذي يختاره بمحض إرادته. 2- للشعوب المستعمرة المقهورة
الحق في أن تحرر نفسها من أغلال السيطرة واللجوء إلى كافة الوسائل التي يعترف بها
المجتمع".
7- الميثاق العربي لحقوق الإنسان (النسخة الأحدث
2004): نص في الديباجة على "انطلاقا من إيمان الأمة العربية بكرامة الإنسان
الذي أعزه الله منذ بدء الخليقة، وبأن الوطن العربي مهد الديانات وموطن الحضارات
ذات القيم الإنسانية السامية التي أكدت حقه في حياة كريمة على أسس من الحرية
والعدل والمساواة، وتحقيقا للمبادئ الخالدة للدين الإسلامي الحنيف والديانات
السماوية الأخرى في الأخوة والمساواة والتسامح بين البشر، واعتزازا منها بما أرسته
عبر تاريخها الطويل من قيم ومبادئ إنسانية كان لها الدور الكبير في نشر مراكز
العمل بين الشرق والغرب ما جعلها مقصدا لأهل الأرض والباحثين عن المعرفة والحكمة،
وإيمانا منها بوحدة الوطن العربي مناضلا دون حريته، مدافعا عن حق الأمم في تقرير
مصيرها والمحافظة على ثرواتها وتنميتها، وإيمانا بسيادة القانون ودوره في حماية
حقوق الإنسان في مفهومها الشامل والمتكامل، وإيمانا بأن تمتع الإنسان بالحرية
والعدالة وتكافؤ الفرص هو معيار أصالة أي مجتمع، ورفضا لأشكال العنصرية والصهيونية
كافة التي تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان وتهديدا للسلم والأمن العالميين، وإقرارا
بالارتباط الوثيق بين حقوق الإنسان والسلم والأمن العالميين، وتأكيدا لمبادئ ميثاق
الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأحكام العهدين الدوليين للأمم
المتحدة بشأن الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
ومع الأخذ في الاعتبار إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان في الإسلام.. وبناء على ما
تقدم اتفقت الأطراف في هذا الميثاق على الآتي..".
وجاء في المادة الأولى: "يهدف هذا
الميثاق في إطار الهوية الوطنية للدول العربية والشعور بالانتماء الحضاري المشترك
إلى تحقيق الغايات الآتية:
2- تنشئة الإنسان في الدول العربية على الاعتزاز
بهويته وعلى الوفاء لوطنه أرضا وتاريخا ومصالح مشتركة، مع التشبع بثقافة التآخي
البشري والتسامح والانفتاح على الآخر وفقا لما تقتضيه المبادئ والقيم الإنسانية
وتلك المعلنة في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
4- ترسيخ المبدأ القاضي بأن جميع حقوق الإنسان
عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة".
والمادة الثانية نصت صراحة على حق تقرير
المصير، وحق السيادة، والاحتلال والصهيونية، وعلى حق المقاومة:
"1- للشعوب كافة الحق في تقرير مصيرها
والسيطرة على ثرواتها..
2- للشعوب الحق في العيش تحت ظل السيادة الوطنية
والوحدة الترابية.
3- أن أشكال العنصرية والصهيونية والاحتلال
والسيطرة الأجنبية كافة هي تحد للكرامة الإنسانية وعائق أساسي يحول دون الحقوق الأساسية
للشعوب، ومن الواجب إدانة جميع ممارساتها والعمل على إزالتها.
4- للشعوب كافة الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي".
وهذ الميثاق جار العمل به حتى هذه اللحظة،
ووقعت عليه الدول العربية، وقراراته تؤخذ بالإجماع، وهو موجه إلى الشعوب العربية
وحكوماتهم وأفرادهم.
نخلص إلى أن حق تقرير المصير مقدس في جميع
التشريعات العالمية، لأنه لصيق بالوجود المادي للإنسان على الأرض.
وماذا بعد؟ في الحديث الوارد عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف
الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به، وجار في الحكم، فهو في
النار، ورجل لم يعرف الحق، فقضى للناس على جهل، فهو في النار" (رواه الأربعة
وصححه الحاكم).
خطابنا هنا للقاضي الأول، الذي قضى بالحق وليس
بالقانون الذي يخالف الحق.. الحق أحق أن يتبع، والحق صفة مجردة لا تنتمي إلى دين
أو جنس أو عرق أو حاكم أو قانون أو زمان أو مكان، والحديث الشريف يعرفه جميع
القضاة في عالمنا العربي. واستشعارا بأهمية الحق، فإن من أهم حقوق الدنيا على الإنسان
مناصرة المظلوم، إذ المظلوم تصاحبه المناصرة والمعاضدة والحماية والتكافل من قبل
جميع البشر، فكيف إذا كان المظلوم تفرض مناصرته الشريعة الإسلامية ومبادئ العروبة
والقوانين كافة، بدءا من القانون الطبيعي وانتهاء بالضمير البشري الحي والفطرة
السليمة؟
يجب أن يكون للمقاوم الفلسطيني أمام القاضي
العربي وضعيته الخاصة المنبعثة من ترسانة الأسباب التي يمكن للقاضي تسبيب حكمه
بها، فيعلي من شأن ضميره ووجدانه وعلمه وانتمائه وولائه، ويكون قدوة قابلة لتجميع
غيره من القضاة في الدول العربية (وغير العربية) لتشكيل درع يحمي فلسطين وقضيتها
المقدسة.
وغني عن القول أن ما ورد أعلاه ينطبق على كل
من ساعد على عودة الفلسطيني إلى وطنه، سواء ساعد بالمال أم القتال أم السياسة أم
الدعاء أم أي سبيل آخر، بصرف النظر عن دينه وجنسيته ولونه وعرقه.. الخ، لأن الأمر
هنا موضوعي يتعلق بفلسطين لا شخصيا.