تواترت
في الفترة الماضية أخبار وتأويلات خاطئة
عن تقارب محتمل بين
إسرائيل وتركيا، وأن الثانية تتبنى سياسية ازدواجية تجاه الأولى،
خاصة مع سقف
الخطاب المرتفع تجاه الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب
الفلسطيني، كما
دعم صمود هذا الأخير وقضيته العادلة.
تزامنت
إذن في شهر أيار/ مايو الماضي عدة تطورات ومستجدات مرتبطة بالعلاقات التركية الإسرائيلية،
وشملت مقالا للقائم بالأعمال الإسرائيلي في أنقرة يدعو فيه إلى تحسيين
العلاقات
بين البلدين، وهبوط طائرة شحن تابعة لشركة العال في مطار إسطنبول
لنقل مساعدات
طبية تركية إلى أمريكا، وعدم توقيع إسرائيل على البيان الخماسي الموتور ضد
تركيا وتفاهماتها
مع ليبيا وسياساتها شرق المتوسط بشكل عام، هذا إضافة إلى خبر لهيئة البث العامة الإسرائيلية
"كان" عن تقديم تل أبيب طلبا رسميا لأنقرة من أجل تحسين العلاقات، علماً
أنه قوبل بالرفض كما قالت الهيئة الإسرائيلية نفسها.
المعطيات السابقة جميعها لا تشي بتقارب
بين البلدين، وبالتأكيد لا تشير من قريب أو بعيد إلى ازدواجية في السياسة التركية
تجاه الدولة العبرية والقضية الفلسطينية، وعموماً يمكن قراءتها أو بالأحرى شرحها وتحليلها
ووضعها في سياقها الطبيعي على النحو التالي:
مقال القائم بالأعمال الإسرائيلي في أنقرة
كان تعبيرا تقليديا عن مهام منصبه المتمثلة بتطوير العلاقات مع البلد التي يعمل
فيها، كما عبّر عن رغبة إسرائيلية ولكن أحادية في التهدئة والتقارب مع تركيا، علماً أنه
أقر بوجود خلافات بين الجانبين، مع التأكيد على عدم الاتفاق بالضرورة في كل الملفات،
وطالب بالابتعاد عما أسماها سياسة الأصوات المرتفعة (ميغافون)، مشيراً إلى وجود إمكانية
للتعاون المشترك في الملف السوري تحديداً في محافظة إدلب، ضد إيران وذراعها الإقليمي
المركزي حزب الله.
أنقرة رفضت طلب التقارب الذي على الأغلب
قدمه القائم بالأعمال شخصياً، وتجاهلت المقال الذي لم يثر صدى كبيرا لديها، وما
زالت تعبر عن دعمها للشعب الفلسطيني ورفضها للسياسات الإسرائيلية علانية، والأهم أنها
باتت قوة إقليمية كبرى لا تحتاج إلى إسرائيل لا في سوريا ولا في غيرها، علماً أنها
واجهت إيران وذراعها الإقليمي المركزي حزب الله وحتى نظام الأسد نفسه، ووجهت لهم ضربات
ساحقة خلال جولة التصعيد فى شهر آذار/ مارس الماضي في محافظة إدلب، وتوصلت بعدها إلى
اتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا ضمن تفاهمات أخرى معها حول سوريا، بعدما كانت قد
توصلت إلى تفاهمات مماثلة مع أمريكا، ما يعني أنها فرضت نفسها قوة إقليمية كبرى، ويعني
أيضاً أنها ليست بحاجة للتعاون أو التفاهم مع إسرائيل لا في الملف السوري ولا في
ملفات إقليمية أخرى مع نجاحها في فرض نفسها لاعبا مركزيا في ليبيا ومنطقة شرق
المتوسط بشكل عام.
أما قصة طائرة العال فلا جديد مثير فيها
،وما جرى باختصار أن أمريكا طلبت مستلزمات ومساعدات طبية تركية واتفقت مع شركة
العال الإسرائيلية على نقلها إلى واشنطن، رغم أن العال لا تهبط في إسطنبول منذ عشر
سنوات، أي منذ
جريمة أسطول الحرية (أيار/ مايو 2010)، لكن بسبب قرارها هي لا القرار
التركي. وبتفصيل أكثر، طالبت العال لنفسها بعد الجريمة باحتياطات أمنية إضافية عن
تلك المتبعة في المطارات التركية، السلطات رفضت طبعاً لأنها لم ترَ حاجة لتفضيل إسرائيل
أو تقديم معاملة مميزة لها، وعندما أرادت الشركة العودة للعمل وفق الإجراءات المعمول
بها لم تمانع الحكومة التركية، خاصة أن العلاقات بين البلدين ليست مقطوعة بدليل وجود
القائم بالأعمال نفسه في السفارة الإسرائيلية بأنقرة، واستمرار تسيير الخطوط
التركية رحلات منتظمة إلى تل أبيب، واستمرار التبادل التجاري بين البلدين على
مستوى القطاع الخاص رغم العلاقات الرسمية الباردة طبعاً، وإذا ما تنازل أحد في قصة
العال فهو الطرف الإسرائيلي لا التركي.
وفي ما يخص عدم توقيع إسرائيل على البيان
الخماسي اليوناني القبرصي الفرنسي الإماراتى المصري الموتور ضد تركيا وسياساتها في
شرق المتوسط وتفاهماتها الأمنية البحرية مع ليبيا، فيعبر أيضاً عن رغبة أحادية في التقارب
أو عدم التصعيد لكنه، أيضاً يندرج في سياق سياسي إسرائيلي أوسع يلحظ عدم الصدام
المباشر مع تركيا بشكل عام، وفي هذا الملف تحديداً خاصة أنها ليست طرفا مباشرا فيه،
علماً أنها لم تعترض أو تأخذ موقفا علنيا (رغم عدم رضاها طبعاً) تجاه التفاهمات التركية
الليبية، وتعتمد على حلفاء موتورين مراهقين مثل محمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي، كما
على التعنّت والتشنّج اليوناني القبرصي الفرنسي ضد تركيا، مع بُعد براغماتي طبعاً كون
إسرائيل لا تأثير جديا لها سواء وقّعت أو لا على البيان المذكور.
في سياق أوسع أيضاً، ثمة سبب آخر
للتهدئة الإسرائيلية، وعدم التصعيد تجاه تركيا؛ يتعلق بتراجع أسعار الطاقة عالمياً،
خاصة مع تداعيات جائحة كورونا، وبالتالي إلغاء أو تأجيل تنفيذ مشروع إيست ميد
الناقل للغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر مياه المتوسط بالتنسيق مع اليونان وقبرص
الرومية. كما أن تل أبيب تسعى منذ مدة لإبقاء خط رجعة مع تركيا لإمكانية التفاهم معها لتنفيذ
المشروع باعتبار ذلك أقل كلفة وأكثر جدوى ونجاعة.
لا يمكن طبعاً استبعاد الرغبة في
تحييد أو على الأقل تهدئة رد الفعل التركي تجاه خطة الضم الإسرائيلية لغور الأردن ومستوطنات
الضفة الغربية؛ المفترض انطلاق تنفيذها ابتداء من أول شهر تموز/ يوليو القادم.
عموماً، خبر هيئة البثّ الإسرائيلية (26
أيار/ مايو) لخّص المعطيات، بل المشهد كله، حيث تسعى إسرائيل للتقارب أو على الأقل
تهدئة الأجواء وتحسين العلاقات مع تركيا، لكن هذه الأخيرة رفضت دون أن يعني هذا
القطيعة أو العداء مع إسرائيل، مع الاحتفاظ بعلاقات سياسية
واقتصادية عادية تماماً معها، بعيداً عن التحالف أو الدفء طبعاً، بموازاة الاحتفاظ
بحقها في إعلان دعمها ومساندتها للشعب الفلسطيني وحقه في دولة كاملة السيادة
عاصمتها القدس ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967، ورفضها خطة الضمّ الإسرائيلية أمام
الميكروفونات وخلفها، علماً أن المستشرق الإسرائيلي تسيفي يحزقيلي قال لصحيفة
معاريف (15 حزيران/ يونيو) إن الرئيس التركي هو
الزعيم الوحيد الجاد في مساعدة
الفلسطينيين ودعمهم. هذا صحيح طبعاً، حيث أن الرئيس
أردوغان كان الزعيم الأول
والوحيد حتى الذي اتصل بالرئيس محمود عباس داعماً قرار التحلل من الاتفاقيات مع إسرائيل،
وعارضاً المساعدة في الخيارات التي ستتخذها القيادة دفاعاً عن المصالح والحقوق
الفلسطينية.