يستذكر الشعب
العراقي والوطن العربي والعالم الإسلامي في مثل هذا اليوم (30 حزيران/ يونيو) من كل عام ذكرى ثورة العشرين الكبرى ضد
الاحتلال البريطاني في العراق، إلا أن ما يميز ذكراها هذا العام هو أنها الذكرى المئوية لتلك الثورة
التاريخية.
فهي ثورة رسمت مسارا استراتيجيا في تاريخ العراق الحديث؛ حيث انتزعت العراق من مشاريع التقسيم والطائفية التي حاول المحتل
الإنكليزي زرعها في العراق والمنطقة؛ لإضعاف الدول العربية والإسلامية وتنفيذ مشروع وعد بلفور المفضي إلى منح فلسطين للكيان الصهيوني. فقد أُجبر المحتل على تأسيس الدولة الوطنية كخيار أهون الشرين؛ ومن هنا كان لا بد من تسليط الضوء على قيادات ثورة العشرين البارزين، وفي طليعتهم الشيخ ضاري المحمود (رحمه الله)؛ ليكونوا قدوة للأجيال الحالية والقادمة.
هو ضاري بن ظاهر بن محمود بن ظاهر بن حمام، يعود نسبه إلى محمد الحارثي الزوبعي؛ ولد (رحمه الله) في عام 1284هـ/ 1868م، أولاده سليمان - خميس - حميد - حميدي - عبد الكريم – فرحان.
وهو شيخ عموم عشيرة زوبع، إحدى بطون قبيلة شمر في الوطن العربي؛ عُرفوا بأنهم الكرام المألوفون، السالكون مسالك الحمد، المالكون مقاليد المجد، ذوو العفو عند المقدرة، والسخاء بلا معذرة.
تعلم الضاري القراءة والكتابة من خلال تعلمه قراءة القرآن الكريم. وكان يسكن في قضاء أبو غريب بالعاصمة العراقية بغداد، والتي تسكنه عشيرة زوبع الممتدة من أبو غريب إلى الفلوجة في محافظة الأنبار.
موقفه من الاحتلال البريطاني:
اشتهر الشيخ ضاري (رحمه الله) بمعارضته للاحتلال البريطاني في العهد العثماني، مع عدم تقربه من الحكام والسياسيين في يوم من الأيام؛ لذلك كانت تقارير الإنكليز تذكره بأنه الخصم العنيد.
ومن مواقفه في مساندة الجيش العثماني، أنه اجتمع هو وأخوه شلال وابنه سليمان (والد الدكتور حارث سليمان الضاري رحمه الله، الأمين العام الراحل لهيئة علماء المسلمين) مع القائد العثماني نور الدين عند جسر قراره جنوب بغداد، وساهم في إعداد خطة الهجوم على القوات الإنكليزية، وأوكل لشلال وسليمان توفير المؤن للجيش العثماني والمحاربين المتطوعين من العشائر. واشترك ضاري في معارك عديدة ضد الغزاة، وأشرف على أسر جنودهم بعد حصار الكوت، وأسهم في معركة "اصطبلات" الطاحنة بين العثمانيين والإنكليز. كما ساهم الشيخ ضاري في نزول الجيش العثماني في جزيرة الرمادي بعد وصوله واجتماعه بالقائد العثماني أحمد بك أوراق والشيخ حردان، مما أجبر المحتل الإنكليزي على التحرك وطلب التفاوض مع زعماء العشائر في الرمادي، لكن الشيخ ضاري والشيخ حردان رفضا عرض الإنكليز.
وأثار هذا الرفض حفيظة جاسوس البادية "لجمن"، أهم ضابط إنكليزي وعاش لسنوات عدة في العراق قبل الغزو لدراسة طبيعة العشائر العراقية، مما دفعه لحضور اجتماع زعماء العشائر في مدينة الرمادي غرب العراق وطلب منهم التهدئة. وأشار بكلامه إلى أن العشائر الشيعية تريد حكومة مستقلة، فأنتم كعشائر سنية ماذا تريدون؟ ولماذا ترفعون السلاح بوجهنا؟ في هذه الأثناء نهض الشيخ ضاري ليقاطع حديث "لجمن" وقال له: "لا تذكر يا لجمن شيعة وسنة، إننا أصحاب دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة، وإننا مجمعون على تشكيل حكومة وطنية". حينئذ غضب "لجمن" وقال أنتم عشائر والأجدر بكم أن تكونوا مستقلين، ثم غادر.
لقد كان الشيخ ضاري أحد أبرز رجال الثورة لأنه كان يتواصل مع الثوار في الجنوب والوسط، فكانت له مراسلات مع عشائر النجف وكربلاء وبغداد. فهو همزة الوصل بين الفرات الأوسط والجنوب وبين المناطق الغربية والشمالية.
لقد مثل الشيخ ضاري المحمود (رحمه الله) التحالف الوثيق بين السنة والشيعة، وبين المسيحيين والتركمان والكرد، حيث امتزجت دماؤهم في وقفتهم الموحدة بثورة العشرين التي عكست روح
المقاومة الوطنية الشاملة.
واشتهر ضاري بتمويل الثورة بالرجال والسلاح والمؤنة من أجل استمرار الثورة وتحقيق النصر فيها؛ مما دفع الإنكليز لقيادة حملات عسكرية على عشيرة زوبع، لكنها انكسرت أمام صلابة رجالها، وبعد مدة تقدر بأربعة أسابيع بعث "لجمن" يطلب لقاء الشيخ ضاري الذي وصله خبر قصف طائرات الاحتلال منزل الشيخ صبار الگعود، شيخ عشيرة البنمر الذي كان يقود معارك ضارية ضد الجيش الإنكليزي في جزيرة هيت غرب الأنبار ما أدى إلى مقتله؛ مما دفع ضاري إلى رفض طلب "لجمن".
وبعد وساطات عشائرية حصل اللقاء في 12 آب/ أغسطس 1920، وحُدد مكان اللقاء في خان ضاري الذي يقع على طريق أبو غريب- بغداد. واصطحب الشيخ ضاري معه ابنه سليمان، وبعد دخوله و"لجمن" إلى الغرفة احتدم النقاش وبدأ الأخير بتهديد الشيخ ضاري بالتصفية وأن عليه الرضوخ للإرادة البريطانية.
أشار ضاري إلى ابنه سليمان الذي صوّب بندقيته ليصيب "لجمن" وليجهز عليه الشيخ ضاري بسيفه، وبذلك انتهت حياة أشرس ضابط بريطاني وأكثرهم دموية وقسوة. لقد قتل بطل الصحراء ضاري المحمود شيطان وثعلب الصحراء "لجمن".
ورصدت الحكومة البريطانية مبلغ 10 آلاف روبية لمن يأتي بالشيخ ضاري حيا أو ميتا، فسوّلت نفس السائق الأرمني الذي كانت له صله بالشيخ ضاري ونقل المؤن في صحراء الموصل على الحدود السورية، بعد علم أن الشيخ الضاري يحتاج إلى سيارة للذهاب إلى الحسكة في سوريا؛ فاتفق مع الإنكليز على نصب كمين في الطريق للشيخ ضاري. وبهذه الطريقة جرى تسليم ضاري لمخفر سنجار، ثم إلى الموصل ثم بغداد بحراسة مشددة وسرية تامة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البريطانيين أصدروا عفوا عاما عن جميع الزعامات والثوار باستثناء الشيخ ضاري المحمود رحمه الله. وجرت المحاكمة الصورية السريعة الجائرة للشيخ ضاري، وتم إصدار حكم الإعدام عليه وهو في عمر الثمانين عاما.
وعندما كان في السجن اشتد مرضه وأبت سلطات الاحتلال علاجه، عندها عزمت الجماهير العراقية على الخروج بتظاهرات كبيرة باتجاه السجن لاقتحامه وإخراج الشيخ ضاري المحمود.
وفي فجر الأول من شباط/ فبراير 1928 م توفي الشيخ ضاري رحمه الله ووصل خبره للعراقيين، فخرجوا بعشرات الآلاف وهم يحملون جثمان الضاري على أكتافهم، فكان يوما مشهودا في تاريخ العراق الحديث نظرا لضخامة التشيع. وخيّم الحزن على جميع أنحاء العراق، فخرج على امتداد الطريق من بغداد إلى مقبرة الكرخ الإسلامية طلاب المدارس والصغار والنساء، حيث وقف الجميع والدموع تنهمر على الوجوه وزغاريد النساء تعلوا كلما مرت الجنازة في حيّ أو منطقة، والعراقيون يهتفون بالأهازيج التي خلدها التاريخ ومنها؛ "هز لندن ضاري وبكّاها"، "منصورة يا ثورة ضاري".
خرج العراقيون جميعا بعربهم وكردهم وتركمانهم، سنتهم وشيعتهم، مسلمين ومسيحيين، في جنازة الشيخ ضاري المحمود رحمه الله، الذي أحبه العراقيون لأنه كان قدوة ورمزا وطنيا عراقيا شامخا في ثورة العشرين، يحمل من الإخلاص والشهامة والإباء العربي والالتزام الإسلامي ما جعله قدوة في حياته وبعد مماته.
لذا فإن دراسة شخصيات وقيادات ثورة العشرين مهمة، لأنها تحدد مسارات العمل السياسي والعسكري والعشائري والديني لتكون المعيار الذي تستفيد منه الأجيال.