تعج الصحافة ووسائل الإعلام في الكيان الصهيوني بتسريبات عن الخلافات القائمة بين قياداته حول المخاطر المحتملة لعملية نهب (ضم) أراضي الضفة الغربية، وعن الطريقة الأنسب لتنفيذ هذه العملية، فهل سيتم تنفيذها دفعة واحدة؟ أم بطريقة جزئية لتخفيف حدة ردود الفعل الفلسطينية والتداعيات الدولية لهذه الخطوة؟
فجيش الاحتلال يحذر من نشوب انتفاضة طويلة ومتصاعدة، كما يحذر من عودة العمليات الفدائية للضفة الغربية، في حين أن مكتب رئاسة الوزراء يقلل من هذا الاحتمال، ويرجح مرور الأمر دون أي ردود فعل حقيقية. أما أجهزة الأمن الداخلي فتخمّن حدوث ردود فعل فلسطينية لكنها ستكون (وفق تقديرهم) قصيرة الأمد ومحدودة، ولا تشكل تغييرا استراتيجيا في كليّة المشهد.
يشير هذا الجدل الحاصل داخل أروقة صنع القرار في كيان الاحتلال إلى أمرين، الأول: أن نية الاحتلال في استكمال السيطرة على كل أراضي الضفة والقدس هي نية محسومة، ووقت التنفيذ لا يشكل فارقا في هذه النية، فالنتيجة واحدة في حال بدأ الكيان في تنفيذ مخططه في تموز أو آب أو بعد ذلك بقليل.
أما الأمر الثاني: فهو أن كيان الاحتلال بشكل عام يدرك خطورة خطوته هذه، وخصوصا في ظل رفض كل دول العالم تقريبا لما ينوي القيام به، أيضا في ظل البيئة الاستراتيجية المستجدة في منطقتنا التي لا تصب في مصلحته، سواء من جهة وجود حركات مقاومة فلسطينية قادرة ومجهزة بشكل جيد، أو من جهة تعاظم قوة قوى المقاومة ومحورها في الإقليم، وبلوغها مرحلة التوازن الاستراتيجي السلبي ضمن موازين القوى الحاكمة حاليا.
إن الاحتلال محق في تخوفه هذا، فالتحدي المتمثل بعملية النهب (الضم) يمكن للفلسطينيين أن يحولوه إلى فرصة حقيقية؛ في أن يكون بداية لانتفاضة متصاعدة لا تفشل مخطط النهب (الضم) فحسب، وإنما يمكن أن تتصاعد لتصل إلى حركة شعبية مقاوِمة تجبر المحتل على تفكيك المستوطنات والانسحاب من أراضي 67 دون قيد أو شرط، قياسا بتجربة قطاع غزة وجنوب لبنان، وتقلب السحر على الساحر باعتراف محللين كثر في كيان الاحتلال ذاته.
إذن ما المطلوب من الفلسطينيين؟ لأن الكرة الآن هي في الحقيقة في ملعب قوى الشعب الفلسطيني لا في ملعب نتنياهو ولا غيره.
بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فقررات الرئيس عباس الأخيرة تعد نقطة بداية ليس إلا، وهي غير كافية بحد ذاتها، فأي تحركات خارج الميدان في هذه المرحلة لن يكون لها أي أثر فعلي في مواجهة مخطط الكيان، فما قام به كيان الاحتلال هو إعلان حرب، والحرب لا تُواجَه بالسياسة بل يُردّ عليها في الميدان. ولم يَعُد مفهوما أبدا تردد السلطة في اتخاذ الخطوة الجدية بحل ذاتها، وإطلاق العنان لمقاومة الشعب الفلسطيني في أراضي الضفة الغربية.
وبمعزل عن تقييم تجربة "أوسلو" وتبعاتها، فإن القضية الفلسطينية تدخل اليوم مرحلة سياسية مغايرة كليا لما كان في السابق، فـ"أوسلو"انتهت فعليا وذلك باعتراف السلطة ذاتها، والفلسطينيون يواجهون اليوم حرب احتلال جديدة، وكل أدوات المرحلة السابقة لا تصلح لهذه المرحلة، فكيف هو الحال والأدوات السابقة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية لم تقدم أي مكسب فعلي للفلسطينيين، بل شكلت غطاء لزيادة التواجد الاستيطاني أضعافا مضاعفة في أراضي الضفة الغربية؟
فلا يستقيم أن تعتبر السلطة مجرد وجودها الاسمي مكسبا للشعب الفلسطيني، في حين لا تملك من أمرها شيئا، فهي سلطة لا سلطة لها على أراض ولا معابر حدودية ولا أمن سوى ذلك المتعلق بأمن كيان الاحتلال. وفي الحقيقة أن فكرة أصل وجودها باتت على المحك في ضوء نية الاحتلال استكمال السيطرة على ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية، فيكفي مكاذبة على الشعب الفلسطيني، فالسلطة فعليا باتت شكل مجملا لروابط القرى، مع فارق أن الاحتلال لا يتحمل في ظل وجودها أعباء احتلاله.
على أية حال، فإن القيّمين على السلطة الفلسطينية ليسوا بالحمقى، ومن المفترض أنهم يدركون كل هذه الوقائع، وأن كثرة الحديث عما كان يجب أن تقوم به السلطة بات مكررا وغير ذي طائل، والكل حر في اختيار الخندق الذي يناسبه. والرهان اليوم هو على الشعب الفلسطيني وقواه الحية، سواء أكان ذاك القسم من حركة فتح الذي ما زال مخلصا لطريق الرصاصة الأولى ولنهج الذين استشهدوا على هذا الطريق، هذا القسم الذي بات مقتنعا بعقم مشروع السلطة والنتائج الكارثية التي تهدد بضياع باقي أراضي فلسطين التاريخية بسبب سلوك هذه السلطة، أم كانت باقي فصائل منظمة التحرير، وقبل هذا وذاك قوى المقاومة الفلسطينية.
ولقد كانت تصريحات محمد الضيف الأخيرة على لسان أبو عبيدة خطوة في الاتجاه الصحيح. فالمسؤولية اليوم تقع على عاتق هذه القوى مجتمعةً أو منفردة، وهي مطالبة بالمباشرة فورا بصياغة مشروع لمقاومة الحرب الجديدة المفروضة على الشعب الفلسطيني أرضا ووجودا. وهدف التصدي الميداني للحرب الإسرائيلية الداهمة هو هدف يمكن لكل الفصائل الفلسطينية التوافق عليه. أما القضايا الخلافية الأخرى، من قبيل تصورات الحلول النهائية للقضية الفلسطينية، أو مشاريع إعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية، أو المصالحة بين حركتي حماس وفتح، فكل هذه القضايا على أهمية بعضها تعتبر قضايا أكاديمية في لحظة المواجهة الراهنة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
وهنا تبرز مسألة في غاية الجوهرية، فقوى الشعب الفلسطيني مطالبة بالتوافق على مشروع مقاومة هذه الحرب الداهمة بمن حضر، ومن ثم المباشرة فورا بتنفيذه في الميدان أيضا بمن حضر. فما عاد ينفع التلطي وراء قضية غياب الوحدة الوطنية، فكيف يستقيم هذا والسيف بات اليوم موضوعا على رقاب سكان الضفة؟
فلو نظرنا إلى تجارب التحرر لدى شعوب أخرى قريبة كانت أم بعيدة، نجد أنه لم يكن هناك يوما إجماع وطني على مقاومة المحتل لدى أي شعب. فمثلا المقاومة اللبنانية قامت في ظل رئيس جمهورية آت على ظهر دبابة إسرائيلية، وفي ظل تشكيك آخرين بجدوى المقاومة حيث كانوا يرددون مقولة العين لا تقاوم المخرز، ولكن في النهاية انتصر الدم على السيف. ونجد أمثلة أخرى في مقاومة الفيتناميين للاحتلال الأمريكي حيث كانت فيتنام منقسمة حولها آنذاك، وكذلك المقاومة الفرنسية إبان الاحتلال النازي لباريس التي لم تكن تلقى دعما من أكثرية الشعب الفرنسي.
إذن لو كل شعوب المعمورة كانت تنتظر حصول الاجماع الوطني على مقاومة الاحتلال أولا لما تحرر شعب قط. إن الوضع لدى الشعب الفلسطيني هو أفضل بكثير من أوضاع شعوب أخرى في هذا المجال، والانقسام حول مقاومة الاحتلال ربما ليس بنفس درجة الحدية التي كانت عند شعوب أخرى، وعليه فلا توجد حجة لأي فصيل أو قوى أخرى فلسطينية في التباطؤ للقيام بواجبها الوطني والتصدي لهذه الحرب الجديدة.
وفي نهاية المطاف، يبقى قلم التاريخ هو الحكم، فسيُكتب في التاريخ أنه في مطلع القرن الواحد والعشرين شرع الكيان الصهيوني في حرب جديدة لاستكمال السيطرة على أراضي الضفة والقدس وترحيل من تبقى من شعب هذه الأرض الطاهرة.
فهل سيكتب التاريخ أن القيادات الفلسطينية أحسنت التصرف وخلقت من التحدي فرصة جاعلة إياه بداية لدحر الاحتلال عن أراضي 67؟ وهل كانت فكرة النهب (الضم) وبالا على أصحابها؟ أم ما الذي ستتركه القيادات الفلسطينية ليُسطَّر في صفحات التاريخ للأجيال القادمة؟
نثق كلنا أن "فارس عودة" حي أكثر من أي وقت مضى في وجدان أشبال وشبان الشعب الفلسطيني، وأن فرسان العودة تنتظر الإشارة لتكتب بمقاومتها صفحة تاريخ مجيدة، تقربنا أكثر من تحقيق الوعد الإلهي بدخول المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة بإذن الله.