قال السفير الأمريكي في
إسرائيل ديفيد فريدمان الشهر الماضي إن الدولة
الفلسطينية ستقوم وفق رؤية الرئيس دونالد
ترامب، فقط بعد أن يتحول الفلسطينيون إلى كنديين. هذا يشبه تماما ما كان قد قاله دوف فايسغلاس، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون، في شرح خارطة الطريق أو رؤية الرئيس السابق جورج بوش الابن: "الدولة الفلسطينية ستقوم فقط بعد أن يتحول الفلسطينيون إلى فنلنديين".
للتذكير فقد كانت رؤية بوش أفضل بما لا يقاس، أو للدقة أقل سوءا بكثير من
رؤية ترامب التي تسعى أساساً إلى تصفية القضية، وفرض الحلول من جانب واحد دون أي تفاوض نديّ أو حتى جديّ بين الجانبين.
فايسغلاس نفسه كان قد قال أثناء الاجتماعات التحضيرية لإعلان رؤية بوش، متفاخرا متغطرس، إن خمسة يهود يتحاورون (ثلاثة إسرائيليين واثنين من موظفي البيت الأبيض) من أجل بلورة خطة لتسوية الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، بينما وصل السوء في رؤية ترامب لدرجة أن من صاغوها هم صهاينة متطرفون، بمن فيهم السفير المستوطن ديفيد فريدمان، صاحب مصطلح الاحتلال المتخيّل الذي ينكر فكرة أو مبدأ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
خارطة الطريق (رؤية بوش) التي أعلنت في العام 2003 كانت قد تحدثت عن إقامة
دولة فلسطينية، لكن بعد قيام السلطة بإصلاحات داخلية ديمقراطية ومؤسساتية وأمنية مالية وإدارية، ثم التفاوض بعد ذلك مع إسرائيل وفق الواقع الراهن الذي اعترفت به الرؤية، بمعنى القبول بضمّ ما تعرف بالكتل الاستيطانية الكبرى الثلاث (غوش عتصيون، وأرئيل، ومعاليه أدوميم)، وهنا تحديدا تم تكريس فكرة تبادل الأراضي بين السلطة وإسرائيل.
كما تحدثت الخارطة عن أخذ حاجات إسرائيل الأمنية بعين الاعتبار، بمعنى نزع سلاح الدولة الفلسطينية، وبقاء جيش الاحتلال في غور الأردن (وجود وليس سيادة) لمدة معينة، أو نشر قوات أجنبية في المنطقة، مع وضع قضايا الوضع النهائي كلها على طاولة التفاوض بين الجانبين، بما فيها الدولة الفلسطينية والحدود والمستوطنات والقدس واللاجئون.
السلطة الفلسطينية وافقت في حينه على الخارطة واستحدثت "مضطرة" منصب رئيس الوزراء، ضمن إصلاحات مالية وإدارية ومؤسساتية (ليست ديمقراطية) قامت بها، بالتزامن مع حملة سياسية وإعلامية ومكثفة ضد المنصب الجديد (تولاه لأول مرة الرئيس الحالي محمود عباس) شكلا ومضمونا وإطارا وشخصا. وقيل آنذاك إن المطلب برمته يمثل استنساخا لدور حامد قرضاي في أفغانستان، بعد الغزو الأمريكي في العام 2001.
الحكومة الإسرائيلية وافقت أيضا على الخارطة، ولكن بطرح مئة تحفظ (نعم مئة تحفظ لا أقل من ذلك)، أمنية في معظمها، ورفضت الجلوس للتفاوض إلا بعد قيام الفلسطينيين بإصلاحاتهم، تحديدا
الأمنية منها، بما في ذلك العمل الفوري على وقف الانتفاضة الثانية التي كانت في ذروتها.
وجاءت التحفظات الإسرائيلية على الخارطة رغم بلورة الخطوط العريضة لها بشكل مشترك بين مبعوثي رئيس الوزراء أرئيل شارون والمسؤولين الأمريكيين من المحافظين الجدد المتعاطفين مع إسرائيل، الذين مثّلوا الغالبية في إدارة الرئيس جورج بوش الابن.
دوف فايسغلاس، مستشار شارون المقرّب، واحد ممن تفاوضوا على خارطة الطريق (وأحد أعضاء الفريق الذي وضع خطة الانفصال الأحادية فيما بعد)، اعتبر أن الدولة الفلسطينية ستقوم وفق رؤية بوش فقط، بعد تحوّل الفلسطينيين إلى فنلنديين، في إشارة إلى الاستحالة طبعا، إضافة للذهنية العنصرية المتغطرسة القائلة بأن الفلسطينيين لا ينالون دولة لأنهم يستحقونها، وإنما فقط بعد أن يتخلوا عن هويتهم وروايتهم التاريخية للصراع في فلسطين والمنطقة.
بعد المئة تحفظ وجهت الحكومة الإسرائيلية ضربة قاتلة لرؤية بوش، رغم أنها كانت أحد واضعيها، عبر طرح وتنفيذ خطة فكّ الارتباط الأحادية عن غزة وشمال الضفة الغربية، مع نية توسيعها لتشمل الضفة كلها (مرض شارون 2005، ثم أُسر جلعاد شاليت 2006 حالا دون ذلك).
خطة الانفصال هدفت أساسا إلى فرض حدود من جانب واحد، مع منح ستين إلى سبعين في المئة من الضفة الغربية للفلسطينيين، ولكن في سياق المصالح الحيوية الإسرائيلية ووفق ما توصف بثوابت الإجماع الصهيوني الثلاثة: لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شرّدوا منها في العام 1948، ولا للعودة إلى حدود حزيران/ يونيو 1967، ولا لتقسيم القدس التي ستبقى موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.
شارون اعتقد أن وجود جورج بوش الابن بصحبة المحافظين الجدد في البيت الأبيض، والأجواء التي سادت بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وغزو العراق وأفغانستان 2003؛ قد خلق ظروفا مؤاتية لإسرائيل لفرض حلّ من جانب واحد على الفلسطينيين، دون القدس ودون اللاجئين، مع ضمّ المستوطنات الكبرى واعتبار الجدار الفاصل الذي رسم وصمّم بناء على اعتبارات سياسية وليست أمنية فقط وابتلع نحو 20 في المئة من أراضي الضفة الغربية؛ بمثابة الحدود مع الكيان الفلسطيني، إضافة لبقاء جيش الاحتلال في غور الأردن دون سيادة أو ضمّ رسمي، على أن يدير الفلسطينيون كيانهم الضعيف المحاصر ويصرّفوا شؤونهم دون سيادة حقيقية، وبصيغة أقرب إلى الحكم الذاتي البلدي الموسع حتى لو أطلقوا تسمية دولة عليه.
أما رؤية ترامب التي عمل عليها صهاينة متطرفون من اليمين الأيديولوجي المتطرف المتماثلون تماما مع الليكود (تأسيس شارون لحزب كديما وتموضعه في اليمين قذف الليكود إلى اليمين المتطرف)، فلا تتحدث عن تفاوض جدّي بعدما جرت إزاحة القضايا المصيرية والصعبة الثلاث، القدس واللاجئين والحدود، عن جدول الأعمال، عبر الاعتراف بالأولى عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، ووقف تمويل وكالة الأونروا والسعي لتصفيتها ومعها حق العودة للاجئين؛ الذي سيعاد تعريفه ليشمل فقط من تم تهجيرهم أحياء في العام 1948، ثم الاعتراف بشرعية المستوطنات وحق إسرائيل في ضمها.
والتفاوض سيكون فعليا على حكم ذاتي موسّع يسميه مخرج الرؤية، جاريد كوشنير، "فلسطين الجديدة" ونتنياهو "سلاما اقتصاديا"، ووزير دفاعه المنصرف نفتالي بينيت "سلام السوبر ماركت"، يتم من خلاله إغراء الفلسطينيين بالحصول على مساعدات مالية ضخمة (عربية أساساً ليست أمريكية)، مقابل التخلي عن حقوقهم الوطنية والقبول بالكيان المسخ في إطار التسمية البراقة.
ديفيد فريدمان لخص رؤية ترامب السيئة بقوله إن الفلسطينيين سيحصلون عبرها على دولة فقط بعد أن يتحوّلوا إلى كنديين، بنفس الذهنية العنصرية المتغطرسة التي تحدث بها فايسغلاس عن رؤية بوش، مع الانتباه إلى حقيقة أن فريدمان، السفير المستوطن، يتصرف كمستشار أو مسؤول إسرائيلي وليس أمريكيا.
شارون تجاوز رؤية بوش بغرض فرض حلّ من جانب واحد على الفلسطينيين دون التفاوض معهم، لا جدّيا لا شكليا، بينما يسعى
نتنياهو لاستثمار رؤية ترامب من أجل فرض الاستسلام على الفلسطينيين، وإذا رفضوا سيتم أيضا فرض الأمر الواقع عليهم بنفس الشروط السيئة مع التهديد بأنها (الرؤية) ستمر بموافقتهم أو بدونها.
شارون قام بارتكاب إبادة سياسية بحق الشعب الفلسطيني، عبر اغتيال الشهداء ياسر عرفات وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، واعتقال مروان البرغوثي وحسن يوسف وقادة آخرين، من أجل تمرير خطته الأحادية التي فشلت في النهاية بعدما قضت في السياق على رؤية بوش نفسها، بينما نتنياهو يستمر بارتكاب الجرائم بموازاة تقديم قروض وأموال وتمرير مساعدات ومشاريع لتحسين الواقع اليومي للفلسطينيين، وإشغالهم في تفاصيل حياتهم اليومية كي لا ينفجروا ضد رؤية ترامب؛ الانفجار الذي يبدو حتميا ومسألة وقت فقط، لأنهم ببساطة لن يتحولوا إلى فنلنديين أو كنديين، وسيقاتلون دوما كفلسطينيين من أجل نيل حقوقهم المشروعة في الاستقلال العودة وتقرير المصير.