قضايا وآراء

الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا بين "الأولتراس" والتوضُّع السياسي

1300x600
الأزمة الأكرانية بعيون الأزمة السورية

من الهيِّن على أي جماعةٍ أو حزبٍ أو وسيلةِ إعلامٍ أو حتى نظامِ حكمٍ رفع ما طاب لهم من شعاراتٍ رنانةٍ، أكان عن الديمقراطية أم عن معاداة الغرب والقوى الاستعمارية أم عن مجابهة المشروع الصهيوني. فمِن المعروف أن أمريكا وربيبتها "إسرائيل" لا تكترثان بما تقوله الجماعات أو أنظمة الحكم، ولا تُلْقِيان بالاً لعقيدة الأحزاب والدول طالما أن سياساتها لا تضر بصورةٍ عمليةٍ بالأهداف الاستعمارية والاستيطانية لأمريكا "الشيطان الأكبر"، وللكيان الغاصب المؤقت "الشيطان الأصغر". فكُن إسلامياً أو علمانياً، يسارياً أو يمينياً كما يحلو لك، ولتكن خطاباتك ناريةً وثوريةً بلا سقفٍ، لكن المهم ما تفعل وكيف تتوضَّع في الصراع العالمي ضد قوى الهيمنة والاستكبار، والشواهد على هذا كثيرة.

فمثلاً، كشف أمين عام "حزب الله"، السيد حسن نصر الله، عن أن الأمريكي كان قد بعث إلى "حزب الله" عرضاً عبر وسيطٍ عربيٍ، مفاده أن الأمريكي لا يمانع بأن يحتفظ "حزب الله" بكل سلاحه، ذلك خلا صواريخه التي تقد مضاجع الكيان الغاصب المؤقت، وبأن الأمريكي مستعدٌ للاعتراف بحضور "حزب الله" السياسي في الداخل اللبناني، وبأنه حاضرٌ ليمنحه عشرات مليارات الدولارات بشكلٍ مباشرٍ عدَّا ونقداً. وأضاف نصر الله، أنه سأل الوسيط متندراً، إذا ما كان سيتم تقديم مليارات الدولارات هذه عبر البنوك، ليجيبه ذاك الوسيط: لا، يمكن تسليمها لكم "كاش" في حقائب! وأضاف نصر الله، بأن الأمريكي عرض كل هذا في مقابل كف "حزب الله" عن مساعدة فصائل المقاومة الفلسطينية عسكرياً وبشكلٍ عمليٍ، بينما لا يمانع الأمريكي في عرضه - الذي حتى لم يناقشه "حزب الله" ناهيك عن أن يقبل به - من أن يحافظ "حزب الله" على نبرته العالية وسقف خطابه المرتفع تجاه الحق العربي والفلسطيني، ليصير بذلك خطابه مجرد شعاراتٍ فارغةٍلا طائل منها على أرض الواقع، كما هو حال خطاباتٍ كثرةٍ.

ولكن يبقى الأنكى، أن بعضاً ممن يرفعون شعارات محاربة الاستعمار والصهيونية، مقتنعون حقاً بما يقولون، ويعتقدون أنهم يتصرفون ويَتوضَّعون في السياسة بطريقةٍ تخدم الشعارات التي يتغنون بها، والشواهد على هذا حاضرةٌ أيضاً، ولعلها تكون أقرب عهداً!
يبقى الأنكى، أن بعضاً ممن يرفعون شعارات محاربة الاستعمار والصهيونية، مقتنعون حقاً بما يقولون، ويعتقدون أنهم يتصرفون ويَتوضَّعون في السياسة بطريقةٍ تخدم الشعارات التي يتغنون بها، والشواهد على هذا حاضرةٌ أيضاً، ولعلها تكون أقرب عهداً

فمع مطلع العَقْد الماضي واندلاع الأزمة السورية، انقسمت القوى العربية بشكلٍ عامٍ إلى معسكرَين، معسكر رأى في أحداث سوريا ثورةً خالصةً ونقيةً، ويُدَلِّل هذا المعسكر على رؤيته عبْر تحليلاتٍ يشوبها التكلف، بالإضافة إلى تبدلها من مرحلةٍ إلى أخرى حتى حد التناقض أحياناً، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تارةً قيل إنه لا وجود "لجبهة النصرة" سوى في رواية وخيالات "النظام السوري"، وبأن "جبهة النصرة" لا تعدو سوى كونها فِرْيةٌ يستخدمها "النظام" من أجل قتل "المتظاهرين السلميين"، لنكتشف بعد حين أنها موجودةٌ وبقوةٍ أيضاً، وبأنَّها "مقاومة الشعب السوري" وعماد "ثورته" وذلك حسب توصيفات قيادات "المعارضة السورية" ذاتها، وهكذا دواليك. 

وبناءً على هكذا تحليلاتٍ، توصل هذا المعسكر إلى أن دول المعمورة قاطبةً شرقاً وغرباً، وجميع الأضداد الدولية وكذلك الإقليمية، نحَّت جانباً كل تناقضاتها في الجغرافيا السياسية المرتبطة بمنطقتنا، وتطابقت - بقدرة قادرٍ - مصالحها الجيو استراتيجية في إفشال "الثورة السورية" حسب رؤيتهم!

ولا شك في كون قسمٍ ممن سار في رِكاب هذا المعسكر، أنه كان صادقاً في عدائه للغرب وللصهاينة، ومخلصاً في نواياه تجاه تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة، لكن سرعان ما تبين انخراط القوى الغربية في هذا المعسكر، وتحكمها في مساره العام وتوجهاته، بسبب إدراكها العميق لأبعاد أي حراكٍ على الجغرافيا السياسية، ووعيها بوضوحٍ لأهمية موقع سوريا وتوضُّعها ضمن هذه الجغرافيا. 
لا شك في كون قسمٍ ممن سار في رِكاب هذا المعسكر، أنه كان صادقاً في عدائه للغرب وللصهاينة، ومخلصاً في نواياه تجاه تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة، لكن سرعان ما تبين انخراط القوى الغربية في هذا المعسكر، وتحكمها في مساره العام وتوجهاته

وقد تحكَّمت القوى الغربية بالمسار العام لهذا المعسكر إما مباشرةً، وإما مِن خلال بعض حلفائها مِن دول الخليج التي كانت تمول "الثوار"، فصار ذاك القسم "المُخْلِص" جزءاً من مشروعٍ أكبر وأقوى منه، فوجد نفسه تبعاً لذلك في الخندق الغربي؛ تخندقٌ فرض وسيفرض عليه باقي مواقفه المستقبلية تجاه الصراع العالمي ضد دول الهيمنة والاستكبار، كما سيتضح في سياق هذا المقال.

أما المعسكر الآخر الذي تبنى وجهة نظرٍ مغايرةٍ حول الأزمة السورية، فبشكلٍ عامٍ، قد رأى في الأزمة مطالب محقةً لقسمٍ كبيرٍ من الشعب السوري، لكنه تنبه في الآن ذاته إلى كون هذه المطالب يتم استغلالها من قبل دول الاستعمار، وذلك من أجل تحقيق أهداف جيواستراتيجية؛ أهداف لو تحققت لكانت لها تداعياتٌ خطيرةٌ على قوى المقاومة في الإقليم، وعلى كلٍّ من روسيا والصين المنخرطتين في مواجهةٍ حادةٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها الغربي. وبطبيعة الحال، تُعد هذه الأهداف الغربية ضد مصالح شعوب منطقتنا، التي عانت وما زالت تعاني من هيمنة الغرب الاستعماري عليها منذ سقوط الدولة العثمانية.

فمثلاً، يصعب تفسير توَضُّع الصين ضمن هذا المعسكر خارج هذه النظرة الشمولية للأحداث، حيث إن الصين لا ترتبط بالدولة السورية، ولا "بالنظام السوري"، بمصالحٍ اقتصاديةٍ، ولا هي مرتبطةٌ بسوريا بعلاقات تحالفٍ تاريخيةٍ ذات بالٍ، على عكس روسيا وإيران مثلاً، اللتين فسر البعض موقفيهما من الأزمة السورية بطريقةٍ سطحيةٍ ومتناقضةٍ أيضاً، وذلك استناداً إلى علاقتيهما القديمة بالدولة السورية، أو بشخص الرئيس السوري بشار الأسد كما خُيِّل للبعض، علماً أن روسيا كانت قد صرَّحت في غير مرة بأنها لا تنخرط في الأزمة السورية دفاعاً عن شخصٍ بعينه؛ تصريحاتٌ لطالما أبرزَتها "المعارضة السورية" كدليلٍ على قرب سقوط الرئيس بشار الأسد، مستخدمين بهذا منهج التحليلات المتقلبة والمتناقضة التي أشار لها المقال آنفاً.

وعلى أي حال، دار الزمان دورته، ووصلنا اليوم إلى الأزمة الأكرانية، التي تتقابل فيها روسيا مدعومةً من الصين، مع الحلف الأمريكي الأطلسي الاستعماري، الذي يهيمن على مصائر البلاد والعِباد، هذه الأزمة التي سيتحدد على نتائجها مستقبل هيمنة قوى الاستعمار الغربي إلى حدٍ بعيدٍ. 
وصلنا اليوم إلى الأزمة الأكرانية، التي تتقابل فيها روسيا مدعومةً من الصين، مع الحلف الأمريكي الأطلسي الاستعماري، الذي يهيمن على مصائر البلاد والعِباد، هذه الأزمة التي سيتحدد على نتائجها مستقبل هيمنة قوى الاستعمار الغربي إلى حدٍ بعيدٍ

فالأزمة الأكرانية تُعد تجسيداً لاختلال موازين القوى الدولية لغير صالح قوى الهيمنة والاستكبار العالميين، وفي حال انكسار إرادة المعسكر الأمريكي فيها، وفرض التراجع عليه، ستشكِّل هذه النتيجة خطوةً رئيسةً إضافيةً في مشوار أفول إمبراطورية "الشيطان الأكبر"، وولِادة عالَمٍ جديدٍ متعدد الأقطاب، على نقيض عالمٍ أحادي القطبية تكون فيه العلاقات الدولية أكثر توازناً. ومن البديهي أن في هذا مصلحةٌ حيويةٌ لدول "الجنوب"، بِدءاً من دول أمريكا اللاتينية، مروراً بالقارة الأفريقية ومنطقة المشرق العربي، وصولاً إلى دول شرق آسيا.

وكما يقر أكثرية المحللين، فإن أحداث العالم باتت مترابطةً بشكلٍ غير مسبوقٍ نتيجةً "العولمة" وتشابك الاقتصادات، علماً بأنه على المستوى الجيواستراتيجي، كان العالم مترابطاً منذ القرن السادس عشر على أقل تقديرٍ، وليت كل المحللين أخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة حينما بنوا قراءتهم الخاصة للأزمة السورية! عموماً، نتيجةً لترابط الأحداث الدولية، وامتداد تأثيرها لتصيب كل أركان المعمورة، وَجَدت جماعات الوطن العربي نفسها تتخندق في الصراع الدائر حول أوكرانيا، وفقاً لرؤية مصالحها، ووفقاً لرهاناتها العميقة على المعسكرات الدولية.

وَجَدت جماعات معسكر "الثورة" السورية، أو غالبيتها على أقل تقديرٍ، نفسها تتخندق بشكلٍ تلقائيٍ في جانب أمريكا وحلف شمال الأطلسي، كاستكمالٍ طبيعيٍ لتوضُّعٍ ولمسارٍ كانت قد اتخذته قبل نحو عقْدٍ من الزمن. ففي أوقات الحروب والاشتباك الميداني تسقط المراوغات، ولا يبقى محلٌ للتحليلات التي "يشوبها الكثير من التكلف"، وتتجلى حقيقة تخندق القوى، وتوضُّعها في الصراع الدولي ضد قوى الاستعمار والناهب الدولي، حيث يُختبَر حينها مدى انسجام الشعارات التي ترفعها أي "جماعةٍ أو حزبٍ أو وسيلةُ إعلامٍ أو حتى نظامِ حكمٍ" مع واقع حالها وخياراتها الاستراتيجية.

أما المعسكر الآخر، الذي رأى في الأزمة السورية خليطاً بين قوى استعماريةٍ مهيمنةٍ على مسار الأحداث، وبين مطالب شعبٍ محقةٍ، لكن تم تجييرها لحساب مصالح جيواستراتيجيةٍ تصب في طاحونة الناهب الدولي، فكان قد حدد مبكراً "تناقضه الرئيس" متمثلاً في مكافحة قوى الهيمنة العالمية الغربية.
من غير الصحيح تشبيه حركة الجماعات - أو التجمعات السكانية - بحركة "الأولتراس" مثلاً، وكأن خيارات التجمعات السكانية خبْط عشواء، وأنه لا يمكن تحليلها بناءً على علوم السياسة والاجتماع

وعليه، توضَّعت جماعات هذا المعسكر، وبشكلٍ طبيعيٍ وتلقائيٍ، ضد الحلف الأمريكي الأطلسي، وذلك بناءً على وعيٍ جمعيٍ كانت قد شكلته وصقلته الأحداث، وبناءً على إدراكٍ عميقٍ لمصلحتها في زعزعت أركان الإمبراطورية الأمريكية.

يُحاجّ هذا المقال بأنه من غير الإنصاف التعامل مع حركة الشعوب والجماعات بخفةٍ، وبصورةٍ تُسخِّف من خياراتها التي تتخذها بناءً على وعيها الجمعي، وبناءً على قناعاتها، ورهاناتٍ لها انعكاسٌ واقعيٌ على الأرض وفي السياسة، ناهيك عن مجافاة هذا المنهج للأسس السليمة لقراءة حركة الشعوب ولعلوم الاجتماع على حدٍ سواء.

فمن غير الصحيح تشبيه حركة الجماعات - أو التجمعات السكانية - بحركة "الأولتراس" مثلاً، وكأن خيارات التجمعات السكانية خبْط عشواء، وأنه لا يمكن تحليلها بناءً على علوم السياسة والاجتماع، اللهم إلا إذا كنا سنستمر بنهج "التحليلات المتكلفة" والمتناقضة في أحيانٍ كثرٍ، أو من أجل تبرير توضُّعٍ سياسيٍ لا يمكن تبريره!