أعلن الرئيس ترامب قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في كانون الأول/ ديسمبر 2017، وقد تم ذلك بالفعل في 14 أيار/ مايو 2018، في ذكرى نكبة الشعب
الفلسطيني، ذكرى إعلان قيام دولة الاحتلال
الإسرائيلي، فكانت مناسبة لاختبار حدود الموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي، الذي جاء باهتاً في حينه، ما دفع السفيرة الأمريكية في الأمم التحدة نيكي هيلي للقول تعليقاً على تخوّف البعض من ردود الفعل؛ إنّ السماء لم تقع على الأرض، وبأن الأمور تسير بشكل طبيعي.
في خطوة لاحقة، أعلن الرئيس ترامب عن خطته للسلام المزعوم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، المسماة بصفقة القرن، في كانون الثاني/ يناير 2020، محطّماً بذلك مرجعيات عملية السلام من قوانين وقرارات دولية، ومؤسِّساً لمرحلة الحل بالقوة وبقوة الواقع. فتباينت مواقف العرب والمسلمين بين متحفّظ، ومرحّب، ورافضٍ إلى حد قول الرئيس
محمود عباس: "إن مخططات تصفية القضية الفلسطينية إلى زوال، ولن تُسقط حقاً ولن تُنشئ التزاماً.. سنعيد الصفعة صفعات في المستقبل".
وعلى الرغم من وضوح الموقف الفلسطيني الرافض لصفقة القرن ولـ"أسْرَلة" القدس، إلا أن الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية عازمتان على المضي في إجراءات ضم أراضي الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية دون تردد، بل بإصرار معلن مستفِز. ومردّ ذلك عائد إلى ما استقر في تقديرهم وقناعاتهم بشكلية خطاب الآخر وغياب مصداقيته، وهو ما عبّر عنه مؤخراً رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في لقائه مع صحيفة "إسرائيل اليوم" العبرية بقوله: "أعتقد أن تطبيق السيادة في الضفة الغربية، وخاصة في وادي الأردن، خطوة تاريخية. سنسمع الكثير من الضجيج لحظة الإعلان عن الضم، بما في ذلك جانب الملك الأردني.. ولكني غير قلق من ذلك".
إن كان ذلك استنتاجاً ظرفياً (العرب يصدرون ضجيجاً غير مُقلق)، لدى بنيامين نتنياهو ومن قبله نيكي هيلي بحكم معطيات الواقع الرديء، إلا أن أحد عِلَل الحالة الراهنة للإنسان العربي والفلسطيني أنه بات ضحية الخطاب والمواقف الرسمية الجانحة بوعودها أو المنبطحة بواقعيتها. فتجربة أوسلو على سبيل المثال، وما تبعها من جرائم وكوارث بحق القضية، كانت أكبر خدعة سياسية،وبالرغم من فشلها وانحرافها عن مسارها المتوقّع بعد عملية "السور الواقي" بقيادة رئيس وزراء الاحتلال إرئيل شارون في العام 2002، واغتيال ياسر عرفات في العام 2004، إلا أن الفلسطينيين بقوا أسرى خداع الخطابات الرسمية لقيادات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، مُتعلّقين بوهم الدولة الفسلطينية وعاصمتها القدس على كامل التراب الوطني المحتل عام 1967، بالاتكاء على ما عُرف "خطابياً"على لسان القيادة الفلسطينية؛ بقرارات الشرعية الدولية والمعارك الدبلوماسية مع الاحتلال برعاية واشنطن التي عملت بدورها، باكراً، على تدمير النفسية الفلسطينية وتشويه الهوية الوطنية عبر مخططات الجنرال الأمريكي كيث دايتون الراعي لأجهزة أمن السلطة، وعبر حكومة سلام فياض، عرّاب السلام الاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبالوقوف على تفسير خلفيات الخطاب المضلِّل أو الفارغ من المصداقية، نجد أن العديد من القيادات تمر بحالة أو أكثر من الحالات التالية:
• الشعور بالعجز، وعدم التحلي بالشجاعة لمصارحة الجمهور وتحمل المسؤولية في المعالجة، ما يُبقي الخَيْل تدور في حلقة مفرغة من الأمل القاتل والبحث عن معين في الجوار أو في ركب المجتمع الدولي.
• تحوّل القيادات أو المسؤولين إلى موظفين في مؤسسات السلطة أو الحكومة، وما يعنيه ذلك من ارتباط المصالح الشخصية والحزبية بالعائدات المادية والمعنوية، وهذا يُفسر استئناس البعض بالواقع، وخشيته من التغيير وما قد يحمله من مفاجآت أو خسائر محتملة.
• نرجسية القيادة، والغرور، والجنوح في الرؤية بعيداً عن الواقع والتغيير المنهجي التراكمي، ما يوسّع مساحة الخسائر ويُبقي الشعب أسير الشعارات والأحلام الفارغة.
وبالتالي فإن افتراق القول عن الفعل، أغرى الأعداء وخدع الأصدقاء. وإذا استمر هذا النهج وتلك التكتيكات الخطابية على ألسنة القوم من قيادات السلطة الفلسطينية، فإن الواقع سيصبح أكثر سوءاً، لا سيّما بعد اقتراب الاحتلال الإسرائيلي بقيادة نتانياهو وغانتس، من فرض السيادة الإسرائيلية على 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية حسب
صفقة القرن، أو على 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية التي يسيطر عليها الاحتلال وفقاً لاتفاقيات أوسلو، والمسماة بالمناطق "سي"، وذلك بحلول تموز/ يوليو المقبل.
مصداقية قيادة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية في الحضيض، ولا يشفع لها مجرد مواقف أو قرارات لطالما لجأت إليها لفظياً كلما شعرت بحرج أمام سياسات الاحتلال وإجراءاته؛ التي تهدم يوماً بعد يوم أركان الدولة الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
ستبقى قرارات السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير حبراً على ورق، وخداعاً سياسياً على المستوى الوطني، إن لم توقف "عملياً" جريمة التنسيق الأمني سراً وعلانية، وتسحب اعترافها بالاحتلال، وتلغي الاتفاقيات السياسية المجحفة وتتحمل تبعات ذلك وطنياً، وإلا سيُعتبر تصعيدها الخطابي ذراً للرماد في العيون، ومحاولة لتحجيم ردة فعل الفلسطينيين في مواجهة مخططات الاحتلال، وهو ما يعني بقصد أو بدون قصد، منح الاحتلال الضوء الأخضر لضم المزيد من أراضي الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية الاحتلالية.
إن ضجيج التصعيد الإعلامي غير المؤْذي والمُكْلف للأعداء، جرّأ واشنطن على نقل سفارتها إلى القدس، وإلى إعلان صفقة القرن بكل ما تحمله من إجحاف وظلم للفلسطينيين، وهو ذات الأمر الذي سيدفع واشنطن لدعم ضم الاحتلال لأراضي الضفة الغربية، والذي قد يكون مقدمة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم بحجج وذرائع شتى.
ولذلك فإن خطاباتنا ومواقفنا تصبح واهية بل خادعة ومُضلِّلة أحياناً، إن لم تُترجم إلى فعل يقابل الفعل، وقوة تقابل القوة. فحسن النوايا والتزيُّن بالمواقف والخطابات لا يعيد لنا أرضاً ولا حقوقاً دون كدّ وتضحية راشدة.