يخطئ من يعتقد أن
موسكو قد خرجت من مرحلة انعدام الوزن إلى مرحلة استعادة التوازن الحقيقي على
المستوى الدولي والإقليمي على حد سواء، بغير الصورة التي رسمتها بعد مرحلة انهيار
كتلتها الاشتراكية قبل ثلاثة عقود، إلى تأطيرها في ملف التدخل العسكري المباشر في
المنطقة من البوابة السورية والليبية وإسناد الطغاة بالسلاح والمرتزقة.
حضور التوازن الروسي في المنطقة بجانب الأسد، وإقامة
تحالف صريح وواضح مع
إسرائيل لتقاسم العمل في الأجواء السورية، مع إنشاء خط ساخن
بين قاعدة حميميم وتل أبيب لذات الهدف، هي حقيقة التفاعلات التي تحاول موسكو
الظهور بها في ملف القضية
الفلسطينية مؤخرا، والمتعلق بعلاقة السلطة الفلسطينية
بإسرائيل من باب "تقريب وجهات النظر"، خصوصا بعد الإعلان الصريح لحكومة
بنيامين نتنياهو نيتها العمل على ضم أراض فلسطينية في الضفة ومنطقة الأغوار
والمستوطنات للسيادة الإسرائيلية. وبعد إعلان ترامب- نتنياهو عن
صفقة القرن، اكتفى
الموقف الروسي بالصمت أحيانا ورفض الفكرة في أحسن الأحوال.
فبعد نجاح نتنياهو بتشكيل حكومة ائتلافية مع بيني غانتس،
أرسل الكرملين رسالة تهنئة لبنيامين نتنياهو في 17 أيار/ مايو، تثمن العلاقة
الوطيدة التي تربط
بوتين مع نتنياهو، والتي تسمح له بمناقشة كافة القضايا وتطوير
العلاقة الودية بين موسكو وتل أبيب.
أبلغ نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، رئيس
الهيئة العامة للشؤون المدنية في السلطة الفلسطينيّة، حسين الشيخ، باستعداد بلاده
لاستضافة "لقاء شخصي" بين الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، ورئيس الحكومة
الإسرائيليّة، بنيامين نتنياهو. وشدد بوغدانوف على أهمية اللقاء الشخصي بين
نتنياهو وعباس دون شروط مسبقة.
تلك باختصار حقيقة التفاعلات الجارية على ساحة العلاقة
بين تل أبيب وموسكو؛ لجهة تليين الموقف الفلسطيني المعلن تحلله من الاتفاقات مع
الجانب الإسرائيلي، وأملا في تسوية الحرج الذي وقعت به السلطة الفلسطينية من رفع
سقف التحدي ولو ظاهريا.
وقد وجت تل أبيب في موسكو مدخلا يرضي السلطة لإعادتها
لرشدها. وثمة مؤشرات قوية لنشاط موسكو الدولي في هذا الشأن لعقد اجتماع بين السلطة
الفلسطينية والولايات المتحدة في جنيف على مستوى الوزراء، أو الدعم الروسي لفكرة
اجتماع الرباعية الدولية بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة، بعد طرح موسكو فكرة
إدخال تعديلات فلسطينية على صفقة القرن، والتي من شأنها أن توقف فكرة ضم أراض
فلسطينية جديدة.
موسكو المتصهينة
الموقف الروسي المراهن على تليين الموقف الفلسطيني
بالأفكار الدبلوماسية الرائجة والمجربة، هي الأقرب لتبني مواقف إسرائيل والولايات
المتحدة، بالرهان على الضغوط المتعددة التي مورست على الفلسطينيين، بصمت وتجاهل
روسي، بعد أخذ الحصة من الملف السوري، وإنشاء تحالف يعزز حضور لا يضر بالمصالح
الاستراتيجية للاحتلال في المنطقة.
لم يكن الحضور الروسي في ملف القضية الفلسطينية منذ
ثلاثة عقود ينطوي على حضور بقوة ظاهرة أو ثابتة، كما هو معلن بجانب مؤازرة نظام
الأسد ودعم حربه على الشعب السوري. ولم يكن هناك تأسيس لتحالف يقوم على دعم ثابت
وقوي لحق الشعب السوري في حريته أو حق الفلسطينيين في أرضهم، معزز بقوة الدعم
والإسناد من الحليف، كما فعلت موسكو في مرات استخدام حق النقض في مجلس الأمن لصالح
الأسد، وكأنها تعيد التسابق مع واشنطن التي قامت بتأمين الاحتلال بعشرات المرات
باستخدام ذات "الحق" ضد مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني، لتفعلها ضد الشعب
السوري لا لتقف مع الشعب الفلسطيني.
لا يغيب عن بال أي متابع للسياسة الروسية في المنطقة، أن
من يحتفي بممارساتها هم أقطاب الاستبداد والاحتلال. ووفرة الغلال الروسية في
المنطقة تصب في صوامع الطاغية والمحتل، ولم تكن يوما سوى ظل لإمبريالية تحاول
اللحاق بغطرسة أمريكية.
فمنذ بداية التسعينيات كانت صوامع المستوطنين اليهود من
روسيا تُشحن باتجاه تل أبيب، لترفد المستوطنين بأهم العوامل الديمغرافية التي يهدد
نتنياهو بضم أرضها الفلسطينية لبقية المسروقات.
علاقة بوتين بملف فلسطين هي الحفاظ على الأفكار واللغة
المنتهية من قاموس التجريب مع المحتل الأقرب له (بالحضارة والإيمان المشترك)، وهو
الذي قال لنتنياهو قبل سنوات في ياد فاشيم: "ستبقى القدس في قلب الشعب
اليهودي"، ولم يقل للفلسطينيين إن القدس عاصمة أبدية لفلسطين وأن حدودها من
البحر للنهر، أو أن سفارته لدى فلسطين ستكون في القدس، أو أنه مع حق العودة لكل
اللاجئين، أو أنه سيدعم الأونروا حتى لو حاربها ترامب أو.. أو.
باختصار، لم يحظ الفلسطينيون بحليف روسي مثلما لدى
الصهيوني من حليف. قوة الإسناد لموقف موسكو ظهرت فقط بتجنيد قوتها
"العظمى" مع غطرسة دبلوماسيتها فقط لحماية طاغية وسفاح في دمشق، وهي
تماما وظيفة الحليف الأمريكي للفكر الصهيوني وسلوكه.
twitter.com/nizar_sahli