في الفترة الأخيرة بعث رئيس الحكومة
التونسية إلياس الفخفاخ بطلب إلى مكتب مجلس النواب، بقصد تأجيل النظر في اتفاقية فتح مكتب لصندوق
قطر للتنمية في تونس. وقد مثل
طلب التأجيل إلى "أجل غير مسمّى" مناسبة لطرح موضوع
الاستثمارات الأجنبية في تونس، وعلاقتها بالصراعات السياسية التي تخترق حتى الائتلاف الحزبي الحاكم نفسه، كما مثّل كذلك مناسبة للوقوف على المنطق العميق للاصطفافات السياسية في تونس، وهو منطق يتجاوز القسمة التقليدية إلى حكومة ومعارضة، بل يتجاوز أحيانا أي قسمة أيديولوجية ولا يجد ما يؤسسه إلا في الاعتبارات البراغماتية.
وسنحاول في هذا المقال أن نطرح قضية الاستثمارات الخارجية ومدى ارتباطها بالصراعات الحزبية والأيديولوجية في تونس، منطلقين من دلالات انحسار السجال العمومي في "مخاطر" الاستثمارات القطرية والتركية دون سائر الاستثمارات الخارجية (خاصة الاستثمارات الفرنسية والإماراتية والسعودية).
لا يصعب على المتابع للشأن التونسي أن يلاحظ وجود "خلل ما" في تعاطي وسائل الإعلام مع موضوع الاستثمارات الأجنبية، بل مع كل المواضيع المرتبطة بالعلاقات الخارجية وما يؤسسها من مبادئ أو مصالح. وفي الحقيقة فإننا لسنا أمام "خلل" ظرفي قد نطمع إلى إصلاحه، بل نحن أمام استراتيجيات إعلامية عقلانية ومدروسة، وهي استراتيجيات قد لا تكون لها بالضرورة غرفة عمليات موحدة، ولكنها تلتقي جميعا في ترويج خطابات معادية لقطر وتركيا، كما تلتقي في الدفاع عن الأجندات السياسية لـ"محور الشر" الإماراتي- السعودي- المصري المتحالف في تونس وخارجها مع فرنسا.
بحكم سيطرة المنظومة القديمة (المنظومة الشيو- تجمعية) على أغلب وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وبحكم ارتباط ما يُسمّى بـ"الخطوط التحريرية" لهذه المنابر الإعلامية بالأطراف المعادية
لمشاركة الإسلاميين في الانتقال الديمقراطي بمختلف مؤسساته واستحقاقاته، فإننا نلاحظ استنفارا كاملا لضرب أي تقارب تونسي مع قطر أو
تركيا، سواء في قضية الاستثمارات أو في القضايا الإقليمية والدولية.
وبالتوازي مع ذلك، يدخل الإعلام التونسي حالة "بيات شتوي" كلما تعلق الأمر بالدور الإماراتي أو السعودي أو الفرنسي المشبوه في ضرب الانتقال الديمقراطي في تونس، بل في محاولة الانقلاب عليه أكثر من مرة. كما يلتزم هذا الإعلام الصمت المطبق تجاه الدور الفرنسي والدورين الإماراتي والسعودي في الحرب في سوريا وعلى اليمن، وفي محاولة إسقاط الحكومة الشرعية في ليبيا أو العبث بالأمن الجزائري، رغم أن ما يحاك ضد ليبيا والجزائر سينعكس بالضرورة على الأمن الوطني التونسي.
لو أردنا أن نفهم الأسباب الحقيقية لموقف ما يُسمى بالقوى" الحداثية" أو "الديمقراطية" من قطر وتركيا، فعلينا أن نضرب صَفحا عن كل ما تقدمه لنا تلك القوى السياسية والنقابية والإعلامية والمدنية والأكاديمية من تبريرات متهافتة، مثل الدفاع عن "السيادة الوطنية" ومحاربة "الإرهاب" ورفض التورط في المحاور الدولية والإقليمية المتصارعة على تونس. ونحن لم ننعت منطق الحجاج بالمتهافت إلا لأنه لا يبلغ مستوى التفسير المنطقي وغير المتناقض عند عرضه على الواقع.
فالتونسيون لا يتذكرون أن "القوى الحداثية والديمقراطية" جعلت من الاتفاقيات التجارية مع السعودية أو الإمارات أو فرنسا موضوعا للسجال العمومي، كما لا يتذكر التونسيون أن تلك القوى عبّرت عن قلقها من التحركات الإماراتية أو السعودية أو الفرنسية المهددة للسيادة الوطنية. أما في موضوع الإرهاب، فإن التونسيين قد سمعوا كثيرا عن علاقة موهومة بين الإخوان والإرهاب (وهي علاقة بررت بها "العائلة الديمقراطية" مباركة انقلاب السيسي ومن بعده انقلاب المشير حفتر)، ولكنهم لم يسمعوا يوما تنديدا "حداثيا" بالأصول الوهابية السعودية للإرهاب المُعولم، ولم يسمعوا كذلك بوجود مطلب "ديمقراطي" للبحث في العلاقة الممكنة بين الاغتيالات السياسية في تونس، والدول المعادية للثورة التونسية (وخصوصا فرنسا والسعودية والإمارات).
إن "الخطيئة الأصلية" لقطر وتركيا هي أنهما قد دعمتا الثورة التونسية وحافظتا على علاقات غير عدائية مع حركة
النهضة، دون أن يعني ذلك برودا في العلاقة مع بعض مكوّنات المنظومة القديمة. لقد كانت العلاقات التونسية مع قطر وتركيا دائما قوية حتى في عهد المخلوع، ولكن اعتراض "القوى الديمقراطية" عليها (بما فيها الاتحاد العام التونسي للشغل)، كان بعد الثورة لأسباب تتعلق أساسا بصراع تلك القوى ضد حركة النهضة، بل ضد أغلب استحقاقات الثورة التي تتحرك ضد مصالح المنظومة القديمة وممثليها أيديولوجيا وجهويا وماليا. أما دول الإمارات والسعودية وفرنسا، فإنها قد تحولت إلى "حليف متميز" لكل أعداء النهضة؛ فهذه الدول ترفض أي تحول ديمقراطي يشارك فيه الإسلاميون، أي ترفض كل تجربة سياسية تؤكد عمليا إمكانية المصالحة بين الديمقراطية والإسلام بعيدا عن منطقي التكفير والاستئصال.
بصرف النظر عن تقييماتنا المختلفة
لخيارات حركة النهضة بعد الثورة، فإن مجرد بقائها فاعلا أساسيا في الحياة السياسية التونسية، كان يعني الاصطدام المحتوم بالفقه الوهابي والجماعات التكفيرية من جهة أولى (وهي جماعات توجد قرائن قوية على ارتباطها بالاستخبارات السعودية وبالتمويل الإماراتي)، وكذلك الاصطدام باللائكية الفرنسية وسدنة "النمط المجتمعي التونسي" من جهة ثانية (حيث لا يخفى الدور الفرنسي البارز في دعم "القوى الحداثية" لحماية المصالح الاقتصادية والثقافية الفرنسية في تونس). ولذلك؛ فإننا لن نفهم موقف "القوى التقدمية" من تركيا ومن قطر ما لم نربطه بالموقف من مشاركة الإسلاميين (وتحديدا القوى السياسية ذات الخلفية الإخوانية) في الانتقال الديمقراطي في تونس وخارجها؛ فهؤلاء يمثلون تحديا مزدوجا للسعودية الوهابية وللائكية الفرنسية على حد سواء، إنهم يُثبتون زيف مقولة "الاستثناء الإسلامي" (أي استحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية)، وهم بذلك يحرجون الفقه الوهابي الرافض لأي إصلاح سياسي جذري والمعادي للمنظومة الكونية لحقوق الانسان، كما يُحرجون سدنة اللائكية الفرنسية الرافضين لأي دور للدين في بناء المشترك الوطني وإدارة الشأن العام.
ختاما، أثبتت قضية الاستثمارات الأجنبية في تونس، أن غياب مشروع وطني جامع يجعلنا في حضرة استراتيجيات أيديولوجية وحزبية متضاربة إلى الحد الذي تصبح فيه "السيادة الوطنية" مجرد مجاز لا محصول تحته. كما أثبتت هذه القضية أن المحدد الأساسي للمواقف هو محدد أيديولوجي وسياسي لا علاقة له بالمصلحة الوطنية العليا؛ وآية ذلك ما رأيناه الخميس (30 نيسان/ أبريل 2020) في مكتب مجلس النواب، حيث رفض المكتب (بأغلبية ستة أصوات مقابل خمسة) أن يحدد موعدا جديدا لجلسة عامة تخصص لعرض الاتفاقيتين التونسية القطرية والتونسية التركية (فالمجلس بمختلف مكوناته هو من ينبغي أن يحدد المصلحة الوطنية)، ومهما كانت تبريرات النواب لهذا القرار، فإنه سيكون من الصعب اعتبار هذا التأجيل "إلى أجل غير مسمّى" مظهرا من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها، أو تجسيدا لمبدأ عدم الاصطفاف في المحاور الإقليمية.
حساب تويتر
twitter.com/adel_arabi21