على إثر تقديمه لمقترح قانون يجرّم انتقاد النوّاب، وجد البرلماني التونسي مبروك كورشيد نفسه تحت وابل من الانتقادات الحادة، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرت شرائح واسعة أن المقترح محاولة وقحة لِلَجْم الأفواه بما يتيح للبرلمانيين مساحة أكبر للتحكم في مصير البلاد دون حسيب أو رقيب.
عفوية الحملة وعنفها دفعا النائب إلى سحب مقترحه في مرحلة أولى، ثم تفسيره بأنه أتى ضمن محاولة لـ"أخلقة السياسة" في تونس بحثاً منه لاسترجاع ثقة الناس، ولولا انهماك البلد في الإجراءات الوقائية ضد انتشار فيروس كورونا لطال حبل الكلام في هذا الموضوع. يبقى أن الحادثة مناسبة لفحص مفهوم "أخلقة السياسة" على الرغم من وروده في سياق ينطبق عليه قول علي بن أبي طالب "كلمة حق أريد بها باطل"، فلم تتحوّل الأخلاق إلى مطلب في عالم السياسة التونسية حين يراد التسويق لمقترح غير شعبي؟ وهل من المقبول أن يستعمل هذا المبدأ كمنفذ للتفصّي من سقوط سياسي جديد؟
من سوء حظ تونس أن يأتي مطلب أخلقة السياسة من مبروك كورشيد، وهو المعروف بتقلبات انتماءاته السياسية، من أحد كوادر التيار القومي العروبي المناهض لسياسات الدولة إلى أحد وجوه النظام بتعبيراته النيوليبرالية ضمن حزب "تحيا تونس". ومن زاوية أوسع، يأتي هذا المقترح من البرلمان الذي يعرف حالة من عدم الرضا الشعبي على أدائه، فكيف يحقّ لمن أوصلته أصوات المواطنين كي يمثّلها أن يقترح قانوناً يجرّم هؤلاء في حال انتقدوا أداءه؟ ذلك هو التناقض الذي يُسقط مقترحه.. أخلاقياً قبل كل شيء.
في حال اضطرتنا السياقات التاريخية أن نجعل أخلقة السياسة ضمن نصوص قانونية فسيكون أولى وأحرى أن تأتي على رأسها مراقبة رجال السياسة الصاعدين عبر الصناديق في مراعاتهم للعقود التي تربطهم بناخبيهم، وفرض شفافية بين الطرفين وهي غائبة اليوم
الأخلاق السياسية ـ بحسب تصوّر السيّد النائب ـ هي الكف عن انتقاد النوّاب والطبقة السياسية بشكل عام، وكأن الفضاء الافتراضي بؤرة الفساد الأخلاقي في تونس، في حين أن الأمر لا يتعلّق سوى بتعليقات ساخرة تستند في الغالب إلى الإشارة لسخف بعض السياسيين أو تخابثهم، وإن كان من الجدير القول بأن بعض هذه التعليقات يتجاوز كل مصداقية، فهل يؤخذ الجميع بجريرة هذه الفئة. وفي المحصّلة، فإن كل ما يقع في الفيسبوك ما هو إلا انعكاس لأصل المشكل وهو تعفّن الحياة السياسية، فهل تلام المرآة حين يرتسم فيها وجه قبيح؟
كي نقف على معنى متماسك لمفهوم الأخلاق في السياسة علينا أن نترك أطروحة كورشيد جانبا، فمن منظور شعبي سنرى أن معنى الأخلاق السياسية مختلف تماما، وفي الحقيقة كان أولى أن يأتي مطلب أخلقة السياسة من قوى المجتمع الحية، كي تكون الأخلاق معياراً أصلياً يغربل الباحثين عن مواقع تحت قبة البرلمان أو في أجهزة الدولة.
وإذا نظرنا في تاريخ الفكر الإنساني سنجد تداخلا بين الأخلاق والسياسة، فمثلاً لم تفصل الفلسفة إلاّ في عصور متأخرة بين مجالي علم الأخلاق والفلسفة السياسة، وسنجد دائماً أن المفكرين الذين انشغلوا بأسئلة الأخلاق كانت ثمرة أعمالهم تتجسّد في المجال السياسي، هكذا كان الأمر مع أفلاطون أو الفارابي من القدماء، وسبينوزا وروسو من بين المعاصرين. بالتالي فإن التصاق الأخلاق بالسياسة هو الأصل في الأشياء، ولا فائدة في قولبة مفهوم أخلقة السياسة في قوانين ردعية، بل إن تقنينها في نصوص تكتبها أياد متسّخة بالسلطة هو تدنيس للمعنى الأصلي.
وفي حال اضطرتنا السياقات التاريخية أن نجعل أخلقة السياسة ضمن نصوص قانونية فسيكون أولى وأحرى أن تأتي على رأسها مراقبة رجال السياسة الصاعدين عبر الصناديق في مراعاتهم للعقود التي تربطهم بناخبيهم، وفرض شفافية بين الطرفين وهي غائبة اليوم، بل إن الطرح المغلوط لفكرة أخلقة السياسة سيقطع الطريق على كل فرص الوصول للشفافية في الحياة السياسية.
في فيلم شهير بعنوان "الراقصة والسّياسي" (إخراج سمير سيف، وأداء نبيلة عبيد وصلاح قابيل)، طُرحت مسألة الأخلاق في السياسة من خلال حكاية بسيطة يفهمها كل مواطن، فالفيلم عبارة على درس تقدّمه راقصة لرجل سياسة فاسد يرفض أن تبني الراقصة مستشفى على اعتبار أنها تفعل ذلك بأموال حرام. هنا تشير الراقصة إلى أن معنى الأخلاق قد حصره السياسي في جزئية وحيدة هي استعراض الجسد، في حين أن المعنى أوسع، وأن تقييم أداء رجل السياسة بالمعنى الشامل للأخلاق سيجعله متساوياً مع الراقصة التي يتهمها، ففي حين تهزّ خصرها لا يفعل أكثر من أن يهزّ لسانه، وكلاهما يبيع وهماً للناس. مقترح تجريم انتقاد النواب كان محاولة لتسييج الطبقة السياسية بمفهوم خاص للأخلاق مرتّب بعناية كي يخدم مصالح دون أخرى.
لو صدق النائب في نواياه لاستمدّ روح مشروعه من إرهاصات شعبية سبقته، ككثير من التحركات ضد الفساد في تونس، أبرزها حملة "مانيش مسامح"، ألا نجد ضمنها مطالبة بأخلقة السياسية ولو دون استعمال العبارة؟ ولو عدنا بالذاكرة إلى استحقاقات الثورة سنجد أن الشعارات التي رُفعت تتضمن مطلب أخلقة السياسة، ففي النهاية تمثل العدالة في توزيع الثروات أخلقة للسياسة، وتمثّل حيادية القضاء والإدارة أخلقة للسياسة، وحتى ضمان حريّات التعبير والرأي هي أخلقة للسياسة بما أنها وسيلة من وسائل رقابة الشعب على الطبقة السياسة كي يكون أداؤها أخلاقياً. باختصار، يظلّ مصدر تعريف مفهوم الأخلاق في الحياة السياسية هو الشعب، وهو الساهر عليها، ولو كان ذلك من الباب السّخرية.
مقاومة الفساد.. نحو براديغم جديد للسياسة في تونس
الحاجة إلى علمنة السياسة في عالمنا العربي
أزمة الحركة الإسلامية بين العمل الدعوي والعمل السياسي