بحكم القرب الجغرافي من أوروبا، خاصة إيطاليا التي صارت بؤرة التفشي الوبائي لكورونا، كان وعي التونسيين (حكومة وشعبا) بخطر هذا الوباء كبيرا منذ الأيام الأولى لعَولمة مخاطره المؤكدة.
فقد تعلم التونسيون من الدرس الإيطالي وغيره أن اللامبالاة تجاه كورونا هي أكثر المواقف كلفة وأقربها إلى التهلكة. وفي عالم أصبح "قرية صغيرة" لا يمكن للإجرءات الوقائية إلا أن تكون مرتبطة بالخارج الذي هو المصدر الأول للوباء. وقد اتخذت الدولة التونسية (بحكومتها ورئاسة جمهوريتها) في الأيام الأخيرة جملة من الإجراءات التي تسعى إلى الحد من تفشي الوباء، بقطع سلاسل العدوى ذات المنطق الهندسي (أي الأشد فتكا من السلاسل ذات المنطق الرياضي) ومحاولة ضمان الاستعدادات المثلى (من جهة التجهيزات والعنصر البشري الرسمي والتطوعي) للتعامل الطبي مع عدد الإصابات التي بلغ عددها يوم الخميس 19 آذار/ مارس؛ 39 حالة (منها عشرة حالات في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة، تسع حالات منها ذات مصدر خارجي، أي غير مرتبطة بتفشي العدوى في تونس).
وسنحاول في هذا المقال القيام بقراءة نقدية للإجراءات الرسمة المتّخذة، بعيدا عن بعض المزايدات السياسية وعن منطق التماهي مع السلطة اللذين يمثلان (من جهة أولى) أكبر عائق للفهم والتعاطي العقلاني مع الوباء، ويحولان (من جهة ثانية) دون إرساء جبهة داخلية صلبة لمواجهة كورونا التي لا دين ولا طبقة ولا جنس لها.
خلال كلمته للشعب التونسي، أعلن رئيس الوزراء السيد إلياس الفخفاخ عن جملة من الإجراءات التي كان أهمها غلق الحدود البحرية بصفة كلية، مع غلق جزئي للحدود الجوية، وإلغاء كل التجمعات الدينية (صلوات الجماعة والجمعة)، وأعلن عن التظاهرات الرياضية بلا جمهور إلى غاية 4 نيسان/ أبريل، وإغلاق جميع رياض الأطفال والمحاضن والمدارس الخاصة والأجنبية إلى غاية 28 من هذا الشهر، وإغلاق المقاهي والمطاعم والملاهي بدءا من الساعة الرابعة عصرا.
ورغم أهمية هذه القرارات التي تستبق المستوى الثالث من الخطر الوبائي، فإنها قد بدت للكثيرين قرارات منقوصة وغير مطابقة لما تقتضيه اللحظة المفصلية التي تحياها بلادنا. فرئيس الحكومة ما زال يستعمل جملة سياسية ومنطقا سلطويا أقرب إلى "الشعبوية". فما معنى التعويل على الالتزام الطوعي بإجراءات الحكومة (خاصة الحظر الصحي الذاتي)؟ وما قيمة الحث على وعي المواطنين وتضامنهم أمام استراتيجيات اتصالية غير متناسقة لرموز الدولة؟ وكيف يمكن التعويل على التطوع الشعبي ماديا مع إهمال تحميل رؤوس الأموال مسؤولياتهم في المساهمة الإجبارية إن لزم الأمر في الكلفة المادية لمواجهة الوباء؟ خاصة أولئك المستفيدين من قانون المصالحة سيئ الذكر زمن الرئيس الراحل قائد السبسي، والمستفيدين من التسويات المالية مع هيئة الحقيقة والكرامة بشروط "مشبوهة" وكذلك البنوك الخاصة التي حققت أرباحا فلكية رغم الأزمة الاقتصادية العامة، والتي لا يبدو أن لها دورا وطنيا إيجابيا منذ الثورة التونسية؟ وكيف يمكن الحديث عن السير العادي لمسالك التوزيع والتموين دون الحديث عن مقاومة السلوك الانتهازي للكثير من التجار الذين ضاعفوا أثمان المواد الوقائية ودون التطرق إلى غياب/ أو التغييب المتعمد للكثير من المواد الغذائية الضرورية؟
أمّا كلمة رئيس الدولة السيد قيس سعيد فإنها لم تُضف إلى الإجراءات الحكومية إلا فرض حظر التجول بداية من يوم الأربعاء (18 آذار/ مارس 2020)، من السادسة مساء إلى السادسة فجرا، وكذلك حديثا عاما عن ضرورة إعادة جدولة المتضررين من الأزمة، وكذلك حديثا مرسلا عن حق تونس بمطالبة المؤسسات الدولية المانحة بتفهم الوضع الاستثنائي الذي تمرّ به، دون أن يبلغ خطاب الرئيس مرحلة المطالبة الصريحة بإعادة جدولة الديون أو تحويلها إلى استثمارات أو حتى إسقاطها، وهو مطلب كان يمكن للرئيس سعيد أن يسبق إليه وأن يجعل من نفسه قدوة للعديد من زعماء الدول النامية التي ما زالت تعاني من آثار القروض "المشبوهة" والفاسدة زمن الاستبداد وما حكمه من تواطؤ بين الأنظمة وبين الجهات"الناهبة" حقيقةً، "المانحة" مجازا.
وقد حافظ الرئيس أيضا على جملته السياسية ذاتها من جهة التركيز على "إرادة الشعب" أكثر من تركيزه على واجب المؤسسات الرسمية، فكان أن ثمّن الوعي التطوعي المواطني وحث الشعب على التبرع للدولة، بادئا بنفسه، إذ أعلن تبرعه بنصف مرتّبه. والملاحَظ هنا هو تقاطع رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة من جهة إهمال دور رجال الأعمال وأصحاب الثروات في الكلفة المادية لمواجهة الوباء (حتى على وجه الإلزام)، وتركيزهما على دور الموظفين والأُجراء. كما تقاطع الرجلان في التعويل على الانضباط التلقائي للمواطنين دون التركيز اللازم على الإجراءات العقابية، ولكنّ خطاب رئيس الدولة كان أكثر تفاؤلا من خطاب رئيس الحكومة، إذ بشّر بإمكانية عودة الحياة إلى طبيعتها بعد أسبوعين في حال التزم المواطنون بالإجراءات الوقائية.
ختاما، فإن النقد الأهم الذي يمكن أن يُوجّه لرأسي السلطة التنفيذية هو استعادتهما للخطاب "التضامني" الموروث من عهد المخلوع، ذلك الخطاب الذي يُحمّل الموظفين والأجراء الكلفة المادية الأهم لمواجهة الأزمات، وهو ما يعني أيضا (من جهة التلازم المنطقي داخل المنطق السلطوي نفسه) تحمّل الدولة ودافعي الضرائب كلفة تعويض رجال الأعمال وأصحاب النزل عن الخسائر المحتملة جرّاء وباء كورونا. وقد كان يمكن لهذا الخطر الوبائي أن يكون فرصة لتغيير منطق توزيع الثورة والامتيازات التي يتمتع بها المئات من كبار المسؤولين بالأجهزة الرسمية، كما كان يمكن لتونس أن تجعل من وباء كورونا فرصة لإعادة جدولة ديونها أو المطالبة بإسقاطها، خاصةً وأن أغلبها تحوم حولها شبهات فساد زمن المخلوع، وشبهات تواطؤ أو تلاعب بعد الثورة. ولا يعني ما تقدّم تبخيس قدر الإجراءات المتخذة أو تتفيهها، بل كل ما يعنيه أنها تظل إجراءات منقوصة ما دامت تتحرك داخل المنطق السلطوي للمنظومة القديمة، دون السعي إلى تعديله أو تثويره وفق ما يستدعيه الواقع التونسي بعد ثورة 17/14 المباركة.
أحوال كورونا في حضن الاستبداد العربي
كورونا وباء أم ابتلاء؟.. جدل لا ينتهي
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية